موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 13 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: هل يجوز البناء على قبر ؟
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء نوفمبر 07, 2007 6:21 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14299
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
تظهر من آن لآخر في زماننا هذا بصفة مستمرة صيحات الرؤوس الجهال وسفهاء الأسنان أحداث الأحلام تطالب بهدم أضرحة الأولياء والصالحين وما عليها من قباب .

بل وصل السفه والتوقح مبلغه من أحدهم عندما طالب بهدم القبة الخضراء الشريفة .

وهؤلاء الأدعياء أشباه البشر تراهم يعتمدون في فتاواهم إما على أفهامهم السقيمة البالغة السفاهة , وإما على أقوال من يناظرهم في البدعة كابن تيمية ومن هو على شاكلته , وإما يتلقفون زلة لعالم لا يأخذون منه سواها .

وهم عند تناولهم لقضية ما لا يلقون بالا لأدلة وأقوال العلماء إجمالا , ولكنهم لا يلقون بالا إلا لما يحقق لهم مآربهم وأغراضهم .

هذا دأبهم , وهذا ما اعتدناه منهم , أما الإنصاف والنظرة الفاحصة الشاملة , فبينهم وبين ذلك بعد المشرقين .

وتوضيحا لحقائق يعمل هؤلاء المبتدعة على طمسها وإخفائها أرجو أن تسهم هذه النقول في موضوعنا هذا على إبراز وتوضيح مشروعية البناء على أضرحة الصالحين .

[ أولا : هل يجوز البناء على قبر

البناء على القبر عند الجمهور جائز , إذا لم يؤمن على القبر من النبش من الوحوش , أو السيل أو المطر الشديد , أو سرقة الأكفان , وأطقم الأسنان الذهبية أو بيع الجثث لمتعلمي الطب والتشريح , أو تفريغ القبور من العظام لبيعها مرة أخرى للباحثين عن القبور لموتاهم , أو إخفائها للبناء عليها أو إقامة المخازن والحظائر فوقها , أو تحويلها إلى مقالب للقمامات , أو ملاعب , وصطبلات كما هو مشاهد الآن .

وذلك كله واقع فعلي معروف مكرر , لايجادل فيه أحد , مما يتعين معه البناء على القبر , لحفظه من الكوارث الأكيدة .

وكل ما حذر منه العلماء هو أن يكون البناء على القبر للمباهاة , بل أجازه بعضهم مع قصد المباهاة , ناظرا إلى المصلحة أولا , أما نية الباني فيحاسبه عيها الله كما حققه ( في الدر وحواشيه ) .

ثانيا : رأي الإمام السيوطي والسادة الشافعية .

كل هذا في الأرض المملوكة . أما الأرض الموقوفة فخلاف , والأرض في مصر كلها تمنحها الحكومة لبناء المقابر بنظام خاص , فهي في حكم المملوكة بلا تفريق .

وقد استثنى الحافظ السيوطي وجماعة قبور الأولياء , واستحب البناء عليها كما جاء في رسالته المسماة ( بذل المجهود ) وعلله بأن الغرض من الوقف تأكيد المنفعة والحفظ وهما متوفران في البناء على قبور الصالحين , وأسس ذلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسد كل خوخة على المسجد إلا خوخة أبي بكر .

وبهذا أفتى أئمة الشافعية كالبجيرمي , والبرماوي , والرحماني , والحلبي , والزيادي ومن والاهم فأصبح مشهور المذهب , أي أن البناء على القبر جائز في المذهب الشافعي بلا كراهة .

ثالثا : رأي ابن مفلح , وابن حزم , وابن حجر , وابن رشد , والعز بن عبد السلام .

يقول ابن مفلح في ( المستوعب والمحرر والفصول ) : القبة والبيت والحظيرة – الحوش – في التربة ( أي على القبر ) إن كان في ملكه فعل ماشاء , وإن كان في مسبلة – موقوفة – كره للتضييق بلا فائدة . أي إنه إذا تحققت الفائدة انتفت الكراهة . والفائدة هنا محققة فلا كراهة في مذهب ابن حنبل .

وهذا هو رأي ابن حجر في ( الوصايا ) ورأي طاهر العلوي في التعقيب على ابن حجر , والطيب ابن كيران في ( رسالته ) والبرازلي في ( نوازله ) والتميمي اسماعيل في ( رسالته ) أيضا .

ثم هو ما نقله ( الموان ) ( عن ابن رشد ) المالكي , ورجحه ( ابن ناجي ) وغيره وقول ابن رشد مرجح في المذهب على غيره وعليه الفتوى والقضاء , كما هو مقرر عند العلماء فالبناء على القبر جائز في مذهب مالك بلا كراهة .

وصرح ( ابن حزم في ( المحلى ) بجواز بناء البيت على القبر بدون كراهة , وهو مذهب الظاهرية .

وحكى ( الحطاب ) المالكي في شرح ( المختصر ) قول ( ابن القصار ) وغيره من أئمة المالكية بجواز البناء على القبر .

وعليه سار ( العز بن عبد السلام ) في فتواه المعروفة عن قبة الإمام الشافعي رضي الله عنه . ] [1]

يتبع إن شاء الله

هوامش

[1] من كتاب : الإفهام والإفحام أو قضايا الوسيلة والقبور في ضوء سماحة الإسلام ( صـ 190 112 ) باختصار, للأستاذ محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الأسبق .
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس نوفمبر 08, 2007 4:42 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14299
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
تابع

[ رابعا : في علة النهي عن البناء على القبور :

وحديث النهي عن البناء على القبور ( على علاته ) عند علماء الأصول والفقهاء ليس تكليفا تعبديا , غير معقول العلة . بالاتفاق , بل هو حكم من المعقولات المعللة بعللها , فيوجد الحكم بوجود العلة .وينتفي بانتفائها " والنهي في هذا الحديث وإن كان للكراهة لاغير " نص صريح على العلة . نفصله فيما يأتي :

أولا :

فإذا كانت العلة هي البناء بما مسته النار ( كالجص " الجبس " والآجر – " الطوب الأحمر والرملي " ) مثلا كما ذكره العراقي في شرح الترمذي وما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن زيد بن أرقم وغيره , فهذا كما قرر العلماء خاص ببناء القبر نفسه , لا بما يبنى عليه أو حوله , والمسألة فيه راجعة إلى عدم التفاؤل بما مسته النار , وهذا ليس من شئون التعبد .

ثانيا :

وإذا كانت العلة خوف تداعي القبر , بما يكون عليه من الثقل , كما رواه " ابن أبي شيبة " أيضا فإذا اتخذت اجراءات تقوية القبر , ومضاعفة احتماله , فقد امتنع الحكم لامتناع العلة .

ثالثا :

وإذا كانت العلة خوف المباهاة والتفاخر كما نص عليه الشافعي والسرخسي الحنفي فإذا أحسنت النية ذهبت العلة , على أن المباهاة انفعال شخصي يحاسب المرء عليه , ولا علاقة له بتحقق المصلحة العامة . كما حققه السادة الأحناف .

رابعا :

وإذا كانت العلة , التشبه بغير المسلمين كما ذكر ابن مفلح في الفروع , فأي فارق أحدثناه في البناء انتفت معه الكراهة , وما أكثر الفوارق بين البناءين مما لا يحتاج معه الناظر إلى تمحيص , فالعلة هنا منتفية أصلا .

على أن النهي هنا وإن كان للكراهة , فهو معارض , بما هو أقوى منه , مما يحرم معه التشبث بجانب واحد , مع الإعراض عن الجانب الآخر , حرمة الإعراض عن النص ومخالفة الدليل , لأن الكل من شرع الله فالإعراض عن أحد الدليلين إعراض عما أوجب الله , وتفريق بين المتماثلين بغير مرجح , وهو باطل بالإجماع .

خامسا : متابعة النقل من كلام وكتب كبار أئمة المسلمين .

وفي رسالة الشيخ الطيب بن كيران قوله :

وقد اختار غير واحد من الشيوخ الجواز في بناء القباب على الصالحين وتعليق الستور وإضاءة المصابيح واستشهد على هذا بفتوى عز الدين بالجواز لأنها من نوع الاحترام والإكرام " وفرق كبير بين الاحترام وبين العبادة " وليس في المسلمين عابد لقبر على الإطلاق .

قال : ولم تزل الكعبة تستر إكراما لها , فلا يبعد إلحاق غيرها من المساجد بها , قال : وأما مشاهد العلماء وأهل الصلاح , فحكمها حكم البيوت فما جاز في البيوت جاز فيها وما لا فلا اهـ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم مرفوعا وموقوفا " انما تدفن الأجساد حيث تقبض الأرواح " .

قالوا وما يذكره الفقهاء من الشروط والاحترازات في أسباب جواز البناء على القبر انما هو خارج عن حكم البناء في ذاته لأنها عوارض يوجد الحكم بوجودها وينتفي بانتفائها , والكلام في حكم البناء نفسه غير الكلام في حكم ما يتعلق به من العوارض الأخرى على مقتضى أصول الفقه الإسلامي .

وفي شرح الرسالة لحسوس عند الكلام على قبور الصالحين قال :

" ويستثنى قبور أهل العلم والصلاح , فيندب – أي البناء عليها أو حولها – لينتفع الناس بزيارتهم , وبذلك جرى العمل عند الناس شرقا وغربا من غير نكير " اهـ

وفي شرح التوربتشي على المصابيح قال :

" قد أباح السلف البناء على قبور المشايخ والعلماء " , وفي شرح زين الدين على المصابيح أيضا إجازة البناء على قبور العلماء والمشايخ مثل الرباطات والمساجد ونحوها .

قال ابن حجر في التحفة عند الكلام على النذور :

" يظهر أخذا مما مر وما قالوه في النذور للقبر المعروف بجرجان صحتها ( أي النذور ) كالوقف لضريح الشيخ الفلاني ويصرف في مصالح قبره والبناء عليه ومن يخدمونه أو يقومون عليه . " اهـ

وبهذا اعتبر ابن حجر البناء على القبر من القربات التي يجوز النذر لها .

قال الحلبي في حاشيته على تحفة ابن حجر :

" واستثنى قبور الأنبياء والصحابة والعلماء , والأولياء فلا تحرم عمارته " أي قبورهم " لأنه يحرم نبشهم وتهشيم عظامهم والدفن في محلهم , ولأن في البناء " أي على قبورهم " تعظيما لهم , وإحياء لزيارتهم " أي للقدوة والاعتبار " .اهـ

يتبع ‘ن شاء الله

هوامش

[1] من كتاب : الإفهام والإفحام أو قضايا الوسيلة والقبور في ضوء سماحة الإسلام ( 113 – 116 ) , للأستاذ محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الأسبق
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء نوفمبر 14, 2007 2:24 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14299
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
سادسا : الإمام مالك يصلي على القبور

ومن المقرر عند أهل العلم " كما أسلفنا " أن الإمام مالك لم يمنع الجلوس على القبور أبدا , وقد فهم حديث النهي . " لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جسمه , خير له من أن يجلس على قبر " وهو من رواة هذا الحديث , فهم الجلوس هنا بمعنى قضاء الحاجة " أي التبول أو التغوط "

واستدل على جواز الجلوس على القبور والنوم عليها بأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك وفي مقدمتهم الإمام علي رضي الله عنه .

ولو كان ذلك ممنوعا ما فعلوه وفعل الراشدين سنة , كما فهم مالك حديث النهي عن الصلاة فوق القبور وإليها , على أنه معلل بالخوف من النجاسة أوضعف الإيمان , فإذا تحققت الطهارة , وصح الإيمان , فقد صحت الصلاة , وصح الإيمان , فقد صحت الصلاة فوق وإلى القبور بلا كراهة .

وقد نقل عنه أئمة المذهب – نقل هذا ابن القاسم في المدونة – جميعا أنه رضي الله عنه كان كثيرا ما يصلي والقبور على يمينه ويساره وأمامه لانتفاء علة النهي عنده " ونحن من رأي مالك " فليس في المعترضين من هو أفقه منه أو أتقى وأروع .

سابعا : بناء المساجد فوق القبور .

وهكذا أجازوا بناء المساجد فوق القبور من باب أولى , إذ أن نفس البناء يمنع التنجس , ويمنع ما يخاف على القبر من النبش والسرقة والهدم , وتحطيم العظام , وغير ذلك , ثم يكون القبر محل الرحمة , بما يتلى من القرآن والأذان , وما يقام من الصلوات والأذكار ومجالس العلم وغير ذلك .

أما حديث النهي عن اتخاذ " المساجد والسرج " على القبور , فقد كان مما منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أو العهد بالإسلام , من زيارة القبور عموما , وبخاصة النساء , لما كان يشوب الزيارة وقتئذ من جاهليات شركية مختلفة .

فلما استقر الإيمان في القلوب , وتأكد التوحيد في النفوس , أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور للرجال والنساء معا , كما هو مقرر مسلم به عند أهل العلم .

وإنما يمنع بعض العلماء النساء من الزيارة لما يقع منهن من المخالفات ليس لأن الزيارة محرمة عليهم .

وفي فترة منع الزيارة للجميع , كان حديث نهي النساء عن هذه الزيارة , والنهي عن اتخاذ المساجد والسرج عليها فهو حكم منسوخ لأنه ملازم لفترة النهي .

وبنسخ هذا الحكم , ومضي فترة النهي , وإباحة الزيارة لرجال والنساء بشروطها المقررة , نسخ حكم النهي عن اتخاذ المساجد والسرج على القبور , مع حكم النهي عن الزيارة .

ثم إن النهي من الأحكام المعللة كما أسلفنا , فمنع الصلاة على القبور , إنما كان خيفة النجاسة أو الشرك كما أن منع اتخاذ السرج كان خيفة التشبه بالمجوس وعدم الفأل بالنار ولم يعد لذلك أثر بحمد الله , وإلا فما صلى " مالك " على القبور وجلس عليها !!

فالمسألة أولا وأخيرا مسألة ثبوت الإيمان في النفس . وصدق التوحيد قلبيا وعقليا : وهذا قائم بحمد الله في كافة أفراد الأمة على كل مستوى .

ثم هل لو فرضا أن رجلا مشركا صلى في الكعبة أو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في المسجد الأقصى , وهو على عقيدة الشرك , هل يشفع ذلك له فتقبل صلاته ؟

أبدا لن يشفع ذلك له !! ولن تقبل صلاته .

وهل إذا صلى موحد مؤمن في كنيسة أو بيعة ؟ هل ترد صلاته ؟

أبدا لن ترد صلاته عليه بالإجماع ربما كانت مكروهة مثلا , ولكنها لا تكون فاسدة .

إذا فمتى صحت العقيدة فقد هان بجواز صحتها كل شيء وبخاصة من الأمكنة !!

والمرء مخير في كل ما فيه قولان من الفروع , قولا واحدا . [ 1 ]

يتبع إن شاء الله

هامش

[ 1 ] من كتاب : الإفهام والإفحام أو قضايا الوسيلة والقبور في ضوء سماحة الإسلام ( 116 – 119 ) للأستاذ محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الأسبق .
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس نوفمبر 15, 2007 1:48 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14299
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
- الأدلة الشرعية علي جواز بناء أضرحة الصالحين ورفعها واستحباب إلحاق المساجد بها

ادعى من لا علم له ولا فقه أنه لا تجوز الصلاة في المساجد التي بها أضرحة للصالحين , وتمادي في غيه وضلاله وادعى أنها ذريعة للشرك , وسولت لهم أنفسهم لما سبق لهم من الشقاوة وقالوا بأن هذه المساجد أسوأ حالا من مسجد الضرار , متأولين بفهمهم السقيم ونظرتهم المعوجة لأحاديث نبوية شريفة تأولا في غير موضعه, قصرت بهم عقولهم عن إدراك المعنى الصحيح لها .

وإنما أوقعهم في ذلك ما ابتدعوه من أراء خالفوا وشذوا بها عن مذهب أهل الحق أهل السنة والجماعة , ولو أنهم كانوا من أهل الاتباع لوقفوا حيث وقفت الأمة وساروا بسير أئمتها الأعلام في هدي من نور النبوة , ولو طالعت تراث الأمة لوجدت وعلمت بيقين مدي تلبيسهم وضلالهم وأن الحق بعد عنهم بعد المشرق عن المغرب , وتراث الأمة يقضي بجواز الصلاة في المساجد التي بها أضرحة بل باستحباب ذلك , كما سيظهر الآن من هذا العرض المختصر الذي نقدمه للدلالة علي جواز ذلك :

الدليل الأول على جواز بناء المساجد على القبور : [ 1 ]

قول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف ( كذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قالوا الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً ) والذين غلبوا على أمرهم هم المؤمنون على الصحيح ، لأن المسجد إنما يبنيه المؤمنون ، وأما الكافرون فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ، والدليل من هذه الآية إقرار الله تعالى إياهم على ما قالوا وعدم رده عليهم ، فإن الله تعال إذا حكى في كتابه عن قوم مالا يرضاه ذكر معه ما يدل على فساده وينبه على بطلانه إما قبله وإما بعده ، فإذا لم ينبه على ذلك دل على رضاه تعالى به وعلى صحته إن كان عملاً وصدقة إن كان خبراً

كقوله تعالى : ( إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) فإنه أعقبه بقوله : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى )

وقوله تعالى : ( وجعلوا مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ) فإنه أشار إلى فساد ما زعموا بقوله بزعمهم

وبقوله تعالى : ( سيجزيهم بما كانوا يعملون )

وقوله تعالى : ( وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) فرده بقوله : ( فقد جاءوا ظلماً وزوراً )

وقوله تعالى : ( وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً ) فعقبه بقوله ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا ) إلى غير ذلك من الآيات التي يطول ذكرها .

وإن من تأمل القرآن وجده لا يقر على باطل يحكيه قولاً كان أو عملا إذ كتابه كله حق ونور وهدى وبيان وحجة لله على خلقه فلا يحكي فيه ما ليس بحق ثم يقره ولا ينبه على بطلانه فإذا ذكر نبأ وأقره دل على صحته وصدقه . ولهذا احتجوا في كثير من المسائل بمثل هذا .

فاحتج أهل الأصول على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بقوله تعالى حكاية عنهم ( لم نك من المصلين ولم نك تطعم المسكين ) الآية قالوا فلو كان باطلاً لرده عند حكايته ، واحتج الفقهاء على جواز الجعل والضمان بقوله تعالى : ( ولمن جاء به حمل بعير وأن به زعيم ) وعلى اعتماد قول القتيل دمى عند فلان بقصة البقرة ، وعلى النكاح بالخدمة والمنافع بقوله تعالى حكاية عن شعيب ( إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ) إلى غير هذا ، فلما حكى الله تعالى عن هؤلاء القوم أنهم قالوا : ( لنتخذن عليهم مسجداً ) ولم يرده ولا تعقبه بذم دل على أنه جائز لا حظر فيه .

فإن قيل هذا مسلم لو لم يرد شرعنا بذم ذلك ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أن قال : ( قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى دينان بأرض العرب ) وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال – لأم سلمة ( رضي الله عنها ) حين ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة ، وما رأت فيها من الصور – (( أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله )) . وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أنه قال : ((ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) .

فالجواب عن هذا من وجوه :

الوجه الأول :

أن الله تعالى حكى ذلك عن المؤمنين والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حكاه عن اليهود والنصارى وفرق بين حال الفريقين ، فإن المؤمنين فعلوا ذلك للتبرك بآثار الصالحين الذين أكرمهم الله تعالى بهذا الآية وحفظ أرواحهم وأجسامهم تلك القرون الطويلة . واليهود والنصارى يفعلون ذلك للعبادة والإشراك مع الله تعالى . فالدليلان غير متواردين على محل واحد . فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد يعبدون فيها تلك القبور ويسجدون إليها أو يجعلونها قبلة لاتخاذهم الأنبياء شركاء مع الله تعالى فيما يستحقه من العبادة . والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نفس الحديث : (( ولا يبقى دينان بأرض العرب )) . أي لا تفعلوا مثلهم فتكفروا فيكون بأرض العرب دينان وقد حكم الله تعالى وأمر أن لا يبقى بأرض العرب إلادين واحد : دين الإسلام وعبادة الله تعالى وحده والكفر لا يكون لمجرد اتخاذ المساجد على القبور ولو للتبرك ، وإنما يكون باتخاذها للعبادة والإشراك بالله تعالى . هذا مما لا يشك فيه مسلم وإلا كانت الأمة كلها كافرة . ولم يصدق خبر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه لا يبقى دينان بأرض العرب فإن المساجد اتخذت على القبور بعده بقليل بل وفي حياته صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما سيأتي ، واتخذ المسجد على قبره الشريف في عصر كبار التابعين وأفضل القرون بعد قرنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشهادته . وأما الآية فأشارت إلى جواز اتخاذ المساجد على قبور الصالحين للتبرك بهم وزيارتهم وحفظ مآثرهم كما ذكره جمع من المفسرين فدليل الكتاب واد ودليل السنة في واد آخر يؤيده .

الوجه الثاني

وهو أنه لو كان كل من بنى على المسجد قبراً ولو للتبرك والزيارة ملعوناً كما في الحديث لكان هؤلاء المؤمنون الذي حكى الله عنهم ملعونين أيضاً داخلين في لعنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على من فعل الذي حكاه الله عنهم ، ولو كانوا كذلك لما سكت الله تعالى عن ذمهم ولعنهم والإشارة إلى ضلالهم وخروجهم عن الصراط المستقيم فيما أتوا كما عرف من عادته في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . ومن الباطل الإقرار على حكاية المحرم الملعون فاعله ، فدل ذلك على أن ما فعله هؤلاء القوم هو غير ما يفعله اليهود والنصارى الذي لعنهم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وأن فعلهم جائز لا شبهة فيه ، كما أنه لا شبهة لنا فيه لا من جهة إتباعهم فإنه لا يلزمنا شرعهم . ولكن من جهة ذكره في كتابنا المنزل بشريعتنا اللازمة لنا المأخوذة من منطوقه ومفهومه وتصريحه وتلويحه يؤيده أيضاً .

الوجه الثالث

وهو أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح اتخذوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تماثيل )) . فاتخاذهم الصور والتماثيل فيه دليل على أنهم يفعلون ذلك لأجل عبادتهم ، وقد شهد العيان بذلك وأثبت التاريخ مثله . وأنهم ابتدأوا عبادة الأصنام بعبادة صور الصالحين وقبورهم ، وهذا لا يوجد منه شيء عند المسلمين .

الوجه الرابع

أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء . والذين يتخذون القبور مساجد )) رواه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود . وقد ثبت بالسنة أن الذين تدركهم الساعة وهم أحياء كلهم كفار مشركون عبدة أصنام ، وأن الساعة لا تقوم حتى لا يبقى على وجه الأرض من يوحد الله تعالى ولا ينطق باسمه ، وأن القرآن يرفع من الصدور ، وتنفخ ريح حمراء فتقبض روح كل مؤمن ويبقى همج رعاع لا يدينون بدين فعليهم تقوم الساعة ، فاقتران الذين يتخذون القبور مساجد بهم دليل على كفرهم ومشاركتهم إياهم في العلة التي بها كانوا شرار الخلق . وما يذكره أهل الأصول من ضعف دلالة الاقتران تمسكاً ببعض الصور المفيدة لذلك ، هو أضعف من ضعف دلالة الاقتران في زعمهم فلا ينبغي الالتفات إليه لأنه مكابرة للحس فإن قيل إن الكفار كلهم شرار الناس إذ لا شر أعظم من الكفر بالله تعالى فكيف جاز تخصيص هؤلاء من بينهم .

فالجواب :

أن ذلك لإيغالهم في الشر والفساد واختصاصهم بجرائم وعظائم مضافة إلى الكفر ، أما الذين تدركهم الساعة وهم أحياء فقد دلت السنة وذكرت من أوصافهم وفساد أخلاقهم وارتكابهم من الموبقات مالم يأته أحد من الكفار وما هو محرم في سائر الأديان ، بل وما لا تساعد عليه الإنسانية بقطع النظر عن الديانة ، فلذلك كانوا شرار الناس ، وقد شهد العيان والحمد لله بصدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن أ شراط الساعة قد ظهرت ، وأماراتها قد تتابعت ، وظهرت طلائع أولئك الأشرار الذين عليهم تقوم ، وهم العصريون المفسدون الزنادقة الملحدون ، الذين يسمون المؤمنين المتمسكين بالدين جامدين رجعيين ، فرأينا من كفرهم وإلحادهم ومروقهم وفجورهم وفساد أخلاقهم وقلة حيائهم وشدة وقاحتهم وتهتكهم ومحاربتهم للدين ، وعنادهم في كفرهم وازدرائهم بالدين وأهله ورفعتهم قدر من يحارب الدين ويخرق حدوده ويهتك الشريعة ويسعى في القضاء عليها وإطرائه والمبالغة في مدحه ، والكذب في وصفه بما ليس فيه ، وغير ذلك من أوصافهم الممقوتة التي يشهد معها كل مؤمن بالله ورسوله أنهم شرار الخلق ، هذا وهم في بداية أمرهم ، فكيف إذا وصلوا إلى نهايته عند قيام الساعة . كما أننا نرى الكفار أيضاً قد مرقوا من دينهم الباطل وظهر من أخلاقهم الفاسدة وابتداعهم وتهتكهم وفجورهم مالم يكن في أسلافهم وما هو معدود في دينهم من الكفر والمروق والعصيان والفسوق فبذلك كانوا شرار الناس زيادة على كفرهم وأما الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد للسجود إليها وعبادتها فإنهم كفروا بعد الإيمان وأشركوا بعد التوحيد وجهلوا بعد العلم وارتدوا عن الدين بعد اعتناقه والتحقق من الحق ومعرفته فكانوا شر خلق الله تعالى ولذلك كان من ارتد بعد إيمانه يقتل ولا تقبل توبته ، وكان اليهود مغضوباً عليهم والنصارى ضالين ، وكان الكافر العالم أشد الناس عذاباً يوم القيامة .

والوجه الخامس

إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في الذين يتخذون القبور مساجد (( أولئك شرار الخلق )) وثبت بالكتاب والسنة المتواترة أن أمته خير أمة أخرجت للناس ، وأنها أشرف الأمم وأفضلها على الإطلاق ، وأنهم عدول يتخذهم الله تعالى شهداء على الأمم السابقة (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس )) (( كنتم خير أمة أخرجت للناس )) وذكر الله لهم من الفضل ما رغبت الأنبياء والمرسلون فيه وتمنوا أن يكونوا من أمته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم لا يجتمعون على ضلالة ، وإن من لم يتبع سبيلهم فهو من أهل النار (( ومن يتبع غير سبيل المؤمنين )) الآية . وأن ما رأوه حسناً فهو عند الله حسن وكثير من أمثال هذا وقد علم الله تعالى في سابق علمه وما قضاه وقدره في أزله أن هذه الأمة ستتفق وتجمع أولها عن آخرها على بناء المسجد على قبر نبيها أشرف الأنبياء و أفضل المرسلين ، كم علم ذلك بإعلام الله تعالى إياه وأشار إليه كما سيأتي ، وأنهم سيتفقون أيضاً سلفاً وخلفاً على اتخاذ المساجد على قبور الأولياء والصالحين والعلماء والعاملين ، ومن أولئك الأولياء نفسهم من يتخذها على من قبله من شيوخه ويزره في حال بناء المساجد والقباب عليهم بل ويشد الرحال من البلاد البعيدة إلى زيارتهم ، وقد شد الإمام النووي الرحلة من الشام إلى مصر لزيارة قبر الإمام الشافعي الذي عليه مسجد وقبة ، وكم له من ألف نظير في المشرق والمغرب . فيلزم من هذا التناقض بين خبر الله تعالى وخبر الرسول ، وأن تكون هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وشر أمة أخرجت للناس تتفق على فعل المنكر وتبني على قبر نبيها المسجد ، وكذلك على قبور الأولياء والصالحين منها ، وتكون أمة وسطا عدولاً ، وأمة فاسقة متفقة على عصيان الله تعالى ورسوله ومخالفة أمره جهراً ، وتكون أمة مرحومة مغفوراً لها كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمة ملعونة باتخاذها المسجد على قبر نبيها كما لعن اليهود والنصارى الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ويكون أولياء الأمة وعلماؤها العاملون أصحاب المناقب والكرامات الظاهرة أحباء الله تعالى وأصفياءه الذي لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، في حال كونهم أعداء الله تعالى وعصاته ومحاربيه بمخالفة أمره والاتفاق على المنكر المحرم الملعون فاعله ، وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة حتى يكون إجماعها على لأمر حجة ودليلاً شرعياً كالكتاب والسنة ، وأن الأمة تجتمع على الضلالة وتتفق على المنكر ومخالفة الله تعالى وأمر رسوله وهذا محال .

الوجه السادس

أنه معلل بخشية العبادة كما تقدم وكما هو مصرح به في الحديث نفسه فلا يكون تشريعاً عاماً في كل زمان بل هو التشريع المؤقت بزمن خشية وجود العلة ، وهو زمن قرب عهد الناس بالإشراك دون الزمان الذي لم يعد أهله شركاً ولا دار في خلدهم شيء منه ، بل نشأوا على الإيمان واليقين والتوحيد واعتقاد انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير ، وأنه لا فاعل إلا الله تعالى ، فهو غير معارض لدليل الكتاب العام في كل زمان ، بل هو مخصص لعمومه بزمن ارتفاع خشية العبادة ، وهو زمن استقرار الإيمان وانتشار التوحيد ورسوخ العقيدة رسوخاً لا يتطرق معه أدنى خلل ولا شك في وحدانية الله تعالى وتفرده بكل معاني الألوهية والربوبية .

ومثل هذا في الشريعة كثير جداً وهو التشريع المؤقت الذي يشرع لعلة ثم يزول بزوال علته ، إلى أنه تارة يكون منصوصاً عليه من الشارع نفسه وهو الناسخ ,المنسوخ ، وتارة لا ينص الشارع على زوال الحكم ونسخه لاحتمال وجود العلة في كل وقت ، ولكنه يشير إلى أن ذلك الحكم غير لازم على الدوام إنما يلزم عند وجود علته فيقول أو يفعل ما يخالف الحكم الأول حتى يظن في بادئ النظر أن بين الأمرين تعارضاً ، والواقع أن الحكم الأول كان عند وجود علته ، والثاني وقع عند انتفائها ، ولذلك كان بعض الصحابة إذا أشكل عليه الأمر وقال للنبي : صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنك يا رسول الله قد فعلت كذا أ, قلت كذا يعني مما يخالف قوله أو فعله الحاضر يجيبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله . إنما فعلت ذلك لأجل كذا ، ولما رأيت من كذا . وهكذا يكون النهي الوارد عنه في حق من توجد منه علة النهي والإذن والجواز في حق من تنتفي عنه علته .

ومن النوع الأول :

نهيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن زيارة القبور أولاً . لما كانوا قريبي عهد بالشرك ، فلما استقر الإيمان في نفوسهم أباح لهم زيارتها للاعتبار والتذكر والزهد في الدنيا ، ولكنه مع ذلك أمرهم أن لا يقولوا عند القبور من مخاطبة الأموات مالا يوافق التوحيد ولا يقره الإيمان فقال : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة )) وفي حديث آخر (( فإنها تزهد في الدنيا )) قال (( ولا تقولوا هجراً )) وكذلك نهيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وعن إدخارها لأجل مجاعة ألمت بالناس ، فلما ذهبت قال (( كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فكلوا وادخروا فإنما نهيتكم من أجل الدافة )) وكذلك نهى في أول الأمر عن القران بين التمرتين لما كان الحال بالمدينة ضعيفاً ، ثم أباح ذلك لما وسع الله عليهم .

ومن النوع الثاني :

وهو الأكثر – نهيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم النساء عن زيارة القبور فإنه لما أباحها للرجال خص النساء باستمرار النهي وشدد عليهن في ذلك لكونهن ناقصات عقل ودين ، ولأن تشبثهن بالعقائد الباطلة شديد فقال : (( لعن الله زوارات القبور )) وقال لنسوة رآهن في المقبرة (( أتدفن ؟ أتحملن ؟ ارجعن مأزورات غير مأجورات )) ولكنه مع ذلك مر يوماً بالمقبرة فوجد امرأة جالسة عند قبر ابنها تبكي فقال لها (( اتقي الله واصبري )) فقالت إليك عني فإنك لم تصبي بمصيبتي وكانت لم تعرفه فتركها وانصرف ولم ينهها عن زيارة اقبر كما قال لغيرها ارجعن مأزورات وذلك لأنها إنما زارت قبر ولدها لما تجد في نفسها من الحزن وعدم الصبر على فراقه فلم يتطرق إلى زيارتها ما يخشى من الفتنة بزيارة القبور المعظمة كقبور الشهداء التي كان غيرها من النسوة يزرنها وكذلك من يأتي منهن بعد ممن يزرن قبور الأولياء والصالحين فإن العلة وهي خشية الافتتان موجودة فيهن فلذلك نهاهن ولعنهن ولم ينه زائرة قبر ابنها .

وكذلك نهى صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن نعي الميت كما رواه الترمذى وابن ماجة من حديث حذيفة بسند حسن حتى كان كثير من الصحابة والتابعين يوصي عند موته أن لا يعلم بموته تمسكاً بهذا النهي ولكن مه هذا نعى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه بالحبشة ونعى زياد وجعفر أيضاً لما قتلا كما في الصحيح فكان نهيه عن النعي أولاً لقطع عوائد الجاهلية وقلع أثرها من النفوس ثم نعى بنفسه لذهاب العلة وعدم وجودها . ونهى صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الطيرة وسماها شركاً ونفى وجودها بالكلية فقال (( الطيرة شرك الطيرة شرك )) ثلاثاً وقال أيضاً (( لا عدوى ولا طيرة )) ومع هذا فكان ، يحب الفال وهو من نوع الطيرة فقد قال عروة بن عامر القرشي ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال (( أحسنها الفال ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك )) رواه أبو داود وقال بريدة كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه فإذا أعجبه أسمه فرح به ورؤى بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمه رؤى كراهية ذلك في وجهه وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فذكر مثله في العامل رواه أبو داود .

وقال أنس بن مالك قال رجل يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا وقلت فيها أموالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (( ذروها ذميمة )) فنهى عن التطير وسماه شركاً لما كان يعتقده أهل الجاهلية من تأثير الأشياء بذاتها وطبعها ، ومعتقد ذلك مشرك جاعل مع الله فاعلاً ومؤثراً غيره وكان مع ذلك يحب الفال الذي هو من نوعها لاعتقاده أنه مرسل كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم (( الفال مرسل والعطاس شاهد عدل )) رواه الحكيم في النوادر من حديث الرويهب ، ومعناه أنه مرسل من قبل الله تعالى مبشراً للعبد بما سيحدثه الله تعالى له من خير وصلاح وبركة ونجاح ،وكان يكره الفال القبيح لعلمه أن الله تعالى أراد خلاف ما يريده العبد منه ، ولذلك كان لا يرجع عنده ويأمر بعدم الرجوع عند التطير لعلمه أن ما قدره الله تعالى وأمضاه هو واقع لا محالة سواء رجع المتطير عن ذلك الأمر أو أمضاه ، بخلاف أهل الجاهلية فإنهم كانوا يعتقدون أن الحوادث مربوطة بذلك صادرة عنها وأنهم إذا رجعوا عند التطير لا يصيبهم شيء مما قدره الله تعالى وأمضاه .

وكذلك نفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم العدوى في أحاديث متعددة وقال مع ذلك (( فر من المجزوم فرارك من الأسد )) وقال (( لا يوردن ممرض على مصح )) ونفى الغول لما كان يعتقده فيه أهل الجاهلية من العقائد الباطلة وأثبته في حديث قال فيه (( إذا تغولت لكم الغيلان فنادوا بالأذان فإن الشيطان إذا سمع النداء أدبره وله حصاص )) وأمر أبا أيوب وأبا هريرة أن يمسكاه لما كان يدخل إلى بيتهما ويأكل لهما من تمر الصدقة ويقول له أجب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما هو معروف وثابت في السنن وغيرها .

ونهى عن الرقى والتمائم والتولة وسماها شركاً وأمر بها في أحاديث أخرى ونهى الله تعالى عن الاستقسام بالأزلام وشرع لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاقتراع بالعودة وهو نوع من الاستقسام إلا أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن الأصنام هي التي كانت تختار لهم وما شرعه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو لاعتقاد المؤمنين أن الله تعالى هو الذي يختار لهم بما يخرج من العود فهو خروج من مراد العبد واختياره ، إلى مراد الله واختياره ، وكم لهذا من نظير يطول ذكره ويتعذر إحصاؤه وعده ، بل هو مفرد بالتآليف العديدة التي منها ما هو في عدة مجلدات وقد أراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يهدم الكعبة ويبنيها على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم تأخر عن ذلك لكون القوم حديثي عهد بجاهلية ، ولذلك لما قدم عهدهم بها هدمها عبد الله ابن الزبير وبناه كما كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم عزم أن يبنيها عليه وقد ترجم البخاري في صحيحه للحديث الوارد بهذا بقوله : باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم الناس عنه فيقعوا فيما هو أشد منه ثم أسند عن الأسود قال لي ابن الزبير كانت عائشة تسر إليك كثيراً فما حدثتك في الكعبة ؟ فقلت قالت : قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (( يا عائشة لولا قدم حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون )) ففعله ابن الزبير .

والمقصود أن مبنى الشريعة على مراعاة مصالح العباد الدينية والدنيوية ومن مصالحهم الدينية نهيهم عن كل ما يخل بعقيدتهم وإخلاص توحيدهم لله تعالى وإن كان مباحاً في نفس الأمر لقيام سبب به يؤدي إلى المحظور فإذا انتفى السبب رجع الفعل إلى إباحته الأصلية ومنه بناء المساجد على القبور .

الوجه السابع

وإذا ثبت أنها معللة بخشية العبادة واتخاذها قبلة عند الصلاة فالنهي حينئذ يكون خاصاً بما جعل القبر في قبلته ، أما ما جعل القبر فيه ملاصقاً لجداره الغربي بحيث لا يمكن الصلاة إليه أصلاً فهو خارج عن النهي وكثير من المساجد على قبور الأولياء هي بهذه الكيفية .

فبان من هذه الوجوه عدم معارضة الأحاديث لدليل الآية وثبت المطلوب منها وهو الجواز وقد أجاب العلامة التميمى في رسالته عن حديث (( لعن الله اليهود والنصارى )) وحديث (( أولئك شرار الخلق عند الله )) السابقين بقوله : وأما الحديثان الشريفان :

فالأول منهما النهي فيه عن بناء المساجد على القبر ليس صريحاً وإنما هو كما قال شيخ الإسلام لازم لاتخاذها مساجد كما اتخاذ المساجد عليها يلزمه اتخاذ القبور مساجد قال وبذلك طابق ترجمة البخاري فيفيد أن النهي عن بناء المساجد معلل بإفضائه إلى جعل القبر مسجداً المؤدى فيفيد أن النهي عن بناء المساجد معلل بإفضائه إلى جعل القبر مسجداً المؤدى إلى عبادته فيكون من باب الذرائع .

والحديث الثاني يفهم منه أن بناء المساجد ذمه معلل بما لزمه عرفاً من جعل التصاوير فيه وعبادة تلك الصور لأنه معنى مناسب للحكم وقد التفت إليه الشرع في غير هذا المحل فيحصل الوقوف بأنه العلة كما تقرر في مسالكها قال شيخ الإسلام في هذا الحديث إن الإمام الشافعي حمله على الكراهة وذلك يؤيد ما قلناه من سد الذرائع لأن الإمام لا يقول بالذرائع فلما وجد علة النهي راجعة إليها حمله على الكراهة لتلك القرينة الصارفة عن الحرمة وإذا كان النهي فيها لسد الذرائع فلا تعارض ما تقدم من دليل الجواز لأن سد الذرائع لا ينافي المشروعية فكثيراً ما يكون الشيء مشروعاً بالأدلة الواضحة ويجر إلى أمر ممنوع فيمنع من تلك الحيثية حتى إذا زالت رجع للأصل وعلى هذا يتنزل ما قاله الأستاذ ابن لب في بعض فتاويه من أن النهي في هذه المسألة مخافة أن تعبد القبور ، كما اتفق لمن سلف قبل هذه الأمة وأفتى بناء مسجد بمقبرة اندثرت إذ أمن نبش القبور بأن يكون البناء فوقها دون حفر يصل إلى موضع العظام للأمن في هذه من خشية العبادة المعلل بها النهي وعلى هذا إذا بني المسجد على القبر بلصق الحائط المواجه للقبلة بحيث لا تمكن الصلاة فيه إلا أن يكون القبر خلف المصلي كما هو بزوايا كثيرة في بعض أعمال أفريقية جاز للأمن من الصلاة إليه . وإذا نظرت إلى أن عبادة غير الله تعالى علم من الدين ضرورة منعها وإخراجها المسلم من الدين كانت الذريعة هنا من القسم الملغى لأن ترتيب المقصد فيه على الوسيلة بعيد انتهى .

يتبع إن شاء الله

هامش

[ 1 ] " إحياء المقبور من أدلة بناء المساجد علي القبور " تأليف المحدث أحمد عبد الله الصديق الغماري .
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت نوفمبر 17, 2007 8:09 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14299
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
[ تابع ]

الدليل الثاني : أن الله قضى باتخاذ المسجد على قبر نبيه .

إن الله تعالى قضى في سابق علمه باتخاذ المسجد على قبر نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند ربه جل وعز أعلى قدراً وأحمى جانباً من أن يقع بجسده الشريف ما هو محرم مبغض لله تعالى ملعون فاعله ، بل هذا من المتيقن المقطوع ببطلانه لأهل الإيمان فلو كان اتخاذ المسجد عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ممنوعاً متخذه لحمى الله تعالى جانب نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم منه ولصرف العباد عنه كما صرفهم عن غيره فلما لم يفعل ذلك دل على أنه جائز ومطلوب ومن اعتقد خلاف هذا فهو قرني ممقوت لم يذق للإيمان طعماً ولا عرف من منزلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم العليا ومكانته السامية عند ربه شيئاً فهو مدخول العقيدة مختل الإيمان .

الدليل الثالث : أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يدفن في البناء

إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن يدفن في البناء فقال (( ما قبر نبي إلا حيث يموت )) وحدث بهذا الصديق رضي الله عنه حين اختلف الصحابة رضي الله عنهم في موضع دفنه فقال قوم في البقيع وقال آخرون في المسجد وقال آخرون يحمل إلى أبيه إبراهيم فيدفن معه فلما حدثهم الصديق رضي الله عنه بما عنده في هذا أجمعوا رأيهم واتفقوا عليه ودفنوه في بيت عائشة رضي الله عنها وهو دليل صريح على وجود البناء حول القبر وأن النهي خاص بما كان فوقه لأنا بالضرورة نعلم أن النهي عن البناء ليس هو عن فعل الفاعل وبناء البناء ، وإنما هو عن وجود نفس البناء على القبر وإذا جوز الشارع وجود الميت داخل البناء فقد جوز البناء إذ لا فارق بين أن يوجد بعد الدفن أو قبله لأن الغاية واحدة والصورة متفقة وهي وجود القبر داخل البناء وإذا جاز ذلك فلا فرق بين أن يكون البناء بيتاً أو قبة أو مدرسة لأن الكل بناء والعلة في ذاته لا في أشكاله وصوره فليس النهي متعلقاً بصورة القبة أو المدرسة بل بذات البناء كيفما وجد، وحيث أجاز الشارع الدفن في البيت الذي هو بناء علمنا أن النهي مخصوص بالبناء كيفما وجد،وحيث أجاز الشارع الدفن في البيت الذي هو بناء علمنا أن النهي مخصوص بالبناء الذي هو فوق القبر للعل السابقة غير عام في جميع البناء .

الدليل الرابع : أن أمره بالدفن في البناء

وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن يدفن في بيته الذي هو بناء فقد تقرر في قواعد الفقه أن الرضي بالشيء رضى بما يؤول إليه ذلك الشيء ، فالذي تزوج امرأة بعد علمه بمرض كذا فيها ثم تزايد ذلك المرض إلى حد يمنع من الاستمتاع فلا رجوع له لأنه رضي بمبادئه فكان راضياً بما يؤول إليه ، وبيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان ملاصقاً للمسجد وبابه شارعة إليه حتى كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا اعتكف يخرج رأسه الشريف إلى عائشة فترجله وهي في البيت وهو في المسجد وقد علم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن أمته ستكثر وأن المدينة ستتسع وتعظم حتى يصل بناؤها إلى سلع كما أخبر هو صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك وأمر بشد الرحلة إلى زيارة قبره الشريف وإلى مسجده للصلاة فيه ورغب في ذلك بقوله (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) و (( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام )) ومسجده صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في عصره صغيراً لا يسع عشر معشار ربع من يقصده من أمته وقبره الشريف واقع في بيت عائشة الذي تسكنه وهو يعلم ضرورة أنه يتعذر على الأمة زيارته وهو في بيت مملوك لامرأة ساكنة فيه يجب تعظيمها واحترامها كما يجب ذلك في حق من يملكه ويسكنه من بعدها ، كما أنه يعلم أن أمته ستدوم إلى قيام الساعة وأن قصدهم لزيارته سيدوم بدوام الأمة وأن البيت الذي سيدفن فيه لا يمكن عادة أن يدوم أكثر من مائة سنة لأنه مبني بالطين واللبن غير محكم البناء فهو يعلم علم اليقين أن بيته المذكور سيؤول أمره إلى أن يدخل في المسجد إذا علم ذلك وأمر بدفنه فيه فهو رضي منه بدخول قبره الشريف في المسجد الذي ستصير الأمة به متخذة على قبره مسجداً كما هو الواقع ، ومن المحال المقطوع به أن يرضى صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما هو محرم ملعون فاعله لا سيما فيما يتعلق بجسده الشريف فدل علي أن اتخاذ المسجد على قبره الشريف غير محرم ولا مكروه وإذا جاز ذلك في حقه جاز في غيره من باب أولى لأن ما يخشى من الفتنة بقبره أعظم مما يخشى من الفتنة بقبر غيره لأن الفتنة إنما تقع من جهة التعظيم ولا يوجد في الأمة من يعظم قبراً أكثر من قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم .

الدليل الخامس : أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر بأن قبره الشريف سيكون داخل مسجده

إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر بأن قبره الشريف سيكون داخل مسجده وزاد فأخبر بأن ما بين قبره ومنبره روضة من رياض الجنة وهذا منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم إشارة إلى استحباب إدخال قبره الشريف في المسجد لأنه ترغيب يدعو إلى ذلك ، إذ المراد فضيلة الصلاة ما بين القبر والمنبر والترغيب فيها في ذلك الموضع إذا لم يكن القبر الشريف داخل المسجد لا تتصور الصلاة بين القبر والمنبر ولا يتأتى التعبير بقوله ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة لأنه إذا كان المنبر وسط المسجد والبيت الذي فيه قبره الشريف خارج المسجد لم يصح في العادة التعبير بالبينية خصوصاً عند إرادة الصلاة فإن البيت وسوره حاجز بين القبر والمنبر مانع من الصلاة في موضعه فلا يقول ما بين قبري ومنبري رياض من رياض الجنة إلا وهو يريد أن القبر سيكون دخل المسجد ليس بينه وبين المنبر حاجز البيت .

فإن قيل : لفظ الحديث في أكثر طرقه إنما هو (( ما بين بيتي ومنبري )) حتى إن البخاري لما ترجم للحديث بباب فضل ما بين القبر والمنبر وأورد الحديث من حديث عبد الله ابن زيد المازني ومن حديث أبي هريرة بلفظ (( ما بين بيتي )) شرحه الحافظ في الفتح بقوله : ترجم بلفظ القبر وأورد الحديثين . بلفظ البيت لأن القبر صار في البيت وقد ورد في بعض طرقه بلفظ القبر .
قال القرطبي : الرواية صحيحة بيتي ويروى قبري وكأنه بالمعنى لأنه دفن في بيت سكناه اهـ . وقال في موضع آخر من الفتح قوله (( ما بين بيتي ومنبري )) كذا للأكثر ووقع في رواية ابن عساكر وحده قبري يدل بيتي وهو خطر فقد تقدم الحديث بهذا الإسناد بلفظ بيتي وكذلك هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه . نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ القبر . قلت : الجواب عنه من وجوه .

الوجه الأول

أن هذا بالنسبة لرواية البخاري فقط لا بالنسبة لسائر طرق الحديث كما صرح به الحافظ نفسه من كونه ورد بلفظ القبر من حديث سعد بن أبي وقاص بسند رجاله ثقات ، وكذلك من حديث ابن عمر مع أنه لم يرد بلفظ القبر من حديث هذين . فقط بل ورد كذلك من حديث أم سلمة وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن زيد وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب ، ثم إن حديث ابن عمر الذي عزاه الحافظ للطبرانى أخرجه أيضاً جماعة آخرون كلهم بلفظ القبر .

قال الطحاوى في مشكل الآثار حدثنا محمد بن علي بن داود حدثنا أحمد بن يحيى المسعود قال حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة )) .

وقال الخطيب في التاريخ أخبرني ابن علان حدثنا أبو الفضل العباس بن محمد بن أحمد بن تميم الأنماطى حدثنا موسى بن إسحاق القاضي الأنصاري حدثنا مالك بن يحيى بن المنذر حدثنا مالك به مثله بلفظ القبر .

وقال أيضاً في المهروانيات أخبرنا محمد بن الحسين بن الفضل حدثنا أبو الحسين أحمد بن عثمان حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا مالك به مثله .

قال الطحاوى : وهذا من حديث مالك يقول أهل العلم بالحديث إنه لم يحدث به عن مالك أحد غير أحمد بن يحيى هذا ، وغير عبد الله بن نافع الصائغ اهـ . وقال الخطيب في المهروانيات : هذا حديث غريب من حديث مالك عن نافع تفرد بروايته عنه أحمد بن يحيى الأحول وتابعه عبد الله بن نافع عن مالك .

قلت وهو ثقة من رجال الصحيح ومتابعته أخرجها أبو نعيم في الحلية .

قال حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن حدثنا إسحاق بن أبي حسان حدثنا القاسم ابن عثمان الجوعى حدثنا عبد الله بن نافع المدني عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة وإن منبري لعلى حوضي )) .

طريق آخر عن نافع قال الدولابى في الكنى والأسماء حدثنا عن ابن معبد ابن نوح حدثنا موسى ابن هلال حدثنا عبد الله بن عمر أبو عبد الرحمن أخو عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله : (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) وقال : (( وما بين قبري ومنبري ترعة من ترع الجنة )) .

وقال الطحاوى في مشكل الآثار حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقى حدثنا محمد عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي )) .
طريق آخر عن نافع قال أبو نعيم في تاريخ أصبهان ثنا أحمد بن جعفر بن معبد ثنا عمر بن أحمد بن السني ثنا نصر بن علي ثنا زياد بن عبد الله عن موسى الجهينى عن نافع عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : (( صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام )) قال وقال ابن عمر إن ما بين القبر والمنبر من رياض الجنة .
وحديث سعد بن أبي وقاص أخرجه أيضاً الخطيب في التاريخ من رواية ابنته عائشة عنه بلفظ القبر .

وحديث أم سلمة أخرجه الطحاوى في مشكل الآثار قال حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل ثنا سفيان بن عيينة عن عمر الدهني عن أبي سلمة عن أم سلمة ( رضي الله عنها ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة وإن قوائم منبري هذا رواسب في الجنة )) .

وحديث أبي سعيد أخرجه البخاري في التاريخ الكبير قال : اسحاق ابن شرقي مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي سمع أبا بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن عمر عن عبد الله بن عمر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة )) قال لي الحرمى بن حفص وتابعه عفان عن عبد الواحد بن زياد سمع إسحاق .

قلت متابعة عفان أخرجها الخطيب في التاريخ عن أبي نعيم عن أبي الشيخ عن بن الجارود عن محمد بن أحمد بن جهور ثنا عفان ثنا عبد الواحد بن زياد ثنا إسحاق بن شرقي به مثله بلفظ القبر .
وأخرجها الطحاوى في مشكل الآثار ثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة ومحمد بن علي بن داود قالا حدثنا عفان به مثله أيضاً بلفظ القبر .

وحديث عبد الله بن زيد قال الطحاوى أيضاً ثنا يونس ثنا ابن وهب أن مالكاً حدثه عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد المازنى " أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة " .

قال : وحدثنا الربيع الجيزى ثنا مطرف بن عبد الله ثنا مالك عن عبد اله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد الخطمى أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة )) .

قال : وحدثنا محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان جميعاً قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث بن سعد قال حدثني بن الهاد عن أبي بكر بن محمد عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : (( إن ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة )) .

وحديث أبي هريرة كذلك وقع في رواية مالك في الموطأ على بعض الروايات وهي النسخة المطبوعة مع شرح تنوير الحوالك للحافظ السيوطي :

وحديث جابر أخرجه الخطيب في التاريخ من طريق محمد بن كثير الكوفي ثنا سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة )) .

وحديث عمر أخرجه الإسماعيلي في مسند عمر من رواية عطاء بن زيد الليثى حدثني سعيد بن المسيب عن عمر به ولفظه (( ما بين قبري و اسطوانة التوبة روضة من رياض الجنة )) . وفي لفظ ما بين قبري ومنبري .

الوجه الثاني

أن ما حكم به الحافظ من الخطأ على رواية ابن عساكر غيره مسلم ولو بالنسبة إلى رواية البخاري إذ يجوز أن يكون الصواب مع من قال قبري ، ويكون الذي قال بيتي أخطأ أو ذهب ذهنه إلى حديث آخر مما ورد بلفظ بيتي . فإن لفظه قبري وقعت كذلك في رواية للموطأ أيضاً ، ويؤيد صحتها ترجمة البخاري بلفظ القبر وقد نص الطحاوى في مشكل الآثار على أن أكثر الروايات لهذا الحديث إنما هي بلفظ قبري لا بيتي ، كما سأذكر نصه قريباً ، وإذا كان ذلك كذلك فلا وجه لتخطئة من قال في رواية البخاري قبري .

الوجه الثالث

أن المراد بقوله بيتي في الروايات الأخرى هو قوله في هذه الأحاديث قبري لأننا بالضرورة ندري أن المنبر والبيت لم يكن لها هذا الفضل لمجرد أعواد المنبر وحجارة البيت وطينه فإنه لا فضل لخشب على خشب ولا لحجارة على حجارة بل ولا دخل لهما في وجود فضيلة في الدين البتة . وإنما ذلك لتشرف المنبر بوقوفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الوعظ والتذكير وتبليغ أمر ربه ولوجود قبره الشريف في البيت . إذ المراد هو القبر لأن الفضل راجع إليه لا إلى البيت ، فمن يحاول من أهل العصر أن ينكر وجود رواية قبري للتوصل إلى نفي ما يتعلق به من فضيلة قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنما يحاول عبثاً ويخبط خبطاً عشوائياً . فالحدث سواء ورد بلفظ قبري أو بلفظ بيتي فمعنى اللفظيين واحد وكلاهما راجع إلى القبر الشريف وعلى هذا المعنى نص أكثر المحدثين بل جل من تكلم على الحديث أو شرحه .

قال الطحاوى في مشكل الآثار وفي هذا الحديث معنى يجب أن يوقف عليه وهو قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة )) على ما في أكثر هذه الآثار وعلى ما في سواه منها (( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة )) على ما في أكثر هذه الآثار وعلى ما في سواه منها (( ما بين بيتي ومنبري )) ، فكان تصحيحها يجب به أن يكون بيته هو قبره ويكون ذلك علامة من علامات النبوة جليلة المقدار ؛ لأن الله عز وجل قد أخفى على كل نفس ( سواه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) الأرض التي تموت بها لقوله عز وجل ( وما تدري نفس بأي أرض تموت ) فأعلمه الموت الذي يموت فيه والموضع الذي فيه قبره حتى أعلم بذلك في حياته وحتى علمه من علمه من أمته فهذه منزلة لا منزلة فوقها زاده الله تعالى بها شرفاً وخيراً . اهـ .

وقال ابن حزم في المحلى : قد أنذر عليه الصلاة والسلام بموضع قبره بقوله (( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة )) واعلم أنه في بيته بذلك ولم ينكر عليه الصلاة والسلام كون القبر في البيت ، ولا نهى عن بناء قائم ، وإنما نهى عن بناء على القبر قبة فقط أي على نفس القبر ملتصقاً به على هيئة القبة كما جرت به عادة أكثر الناس . وهكذا نص على أن المراد بالبيت القبر كل شراح الحديث كما يعلم من مراجعه شروح البخاري ومسلم وغيرهما فلا نطيل بذكر نصوصهم .

الوجه الرابع

وعلى فرض أنه أراد نفس البيت لا القبر فقد علم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإعلام الله إياه أن بيته سيدخل في المسجد وأن قبره سيكون فيه فيكون القبر داخل المسجد وبه صار ما بين البيت والمنبر روضة من رياض الجنة فكيفما دار الحديث دل على المطلوب وهو إذن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإدخال قبره الشريف في المسجد والإشارة إلى ذلك بقوله : (( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة )) . [ 1 ]

يتبع إن شاء الله

هامش

[ 1] " إحياء المقبور من أدلة بناء المساجد علي القبور " تأليف المحدث أحمد عبد الله الصديق الغماري .
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد نوفمبر 18, 2007 2:06 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14299
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
الدليل السادس : إجماع الصحابة على دفنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بيته .

تم إجماع الصحابة واتفاقهم بعد الاختلاف في موضع دفنه على دفنه في بيته عملاً بما أخبرهم به أبو بكر ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلو كان ذلك غير صحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو منسوخاً بما ذكره في مرض وفاته مع أن الخبر لا يدخله النسخ لما أجمع الصحابة عليه . وقد قام الدليل على حجية الإجماع ولا سيما إجماع الصحابة ( رضي الله عنهم ) .

الدليل السابع : إجماع التابعين ومن بعدهم .

أجمع التابعون في عهد وجود كبار أئمتهم مثل عمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين وفقهاء المدينة والكوفة والبصرة والشام وغيرها من أقطار الإسلام . ثم أجمعت الأمة بعدهم على إدخال بيته المشتمل على قبره داخل المسجد وجعله في وسطه . وإجماعهم حجة ولو كان ذلك منهياً عنه لاستحال أن تتفق الأمة في عصر التابعين على المنكر والاجتماع على الضلالة لولا أنهم فهموا من النهي أن المراد به علته التي زالت باستقرار الإيمان ورسوخ العقيدة . لا يقال إنهم سكتوا على ذلك لأجل ضرورة توسعة المسجد فإنه كان في الإمكان توسعته من جهة القبلة والجهة المقابلة لها والجهة الجنوبية لها دون الجهة الشمالية الواقع فيها قبره ( عليه الصلاة والسلام ) لا سيما والآمر بذلك خليفة العصر الذي اشترى البيوت بالمال لإدخالها في المسجد ، فكان يمكنه أن يشتري البيوت الواقعة في غير جهة قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويبقى بيت عائشة الذي فيه القبر الشريف خارج المسجد مجاوراً له ، كما كان في عهده صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما فعل ذلك بمرأى من التابعين والأئمة ولم ينهه أحد منهم عن ذلك دل دلالة قاطعة على جواز واتخاذ المسجد على القبر . وأن المنهي عنه إنما هو قصد الصلاة إلى القبر المؤدي إلى عبادته والإشراك به . ولذلك لما أدخله عمر بن عبد العزيز في المسجد جعل البيت الذي فيه القبور مثلث الشكل حتى لا يمكن الصلاة إلى القبور .

الدليل الثامن : أن الصحابة بنوا مسجداً على القبر في حياته صلى الله عليه وعلى آله وسلم :

إن الصحابة بنوا على القبر مسجداً في حية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأقرهم على ذلك ولم يأمرهم بهدمه ويستحيل أن يقر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على باطل .

قال ابن عبد البر في الاستيعاب ( 4 / 1614 ) في ترجمة أبي بصير ما نصه :

وله قصة في المعازى عجيبة ذكرها ابن إسحاق وغيره ورواها عبد الرازق عن معمر عن ابن شهاب في قصة القضية عام الحديبية – قال : ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلت قريش في طلبه رجلين فقالا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلماً فدفعه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الرجلين فخرجا حتى بلغا به ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمرهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيد يا فلان فاستله الآخر وقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال له أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتى برد ، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين رآه (( لقد رأى هذا ذعراً )) فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال يا رسول الله قد والله وفت ذمتك قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (( ويل أمة مسعر حرب لو كان معه أحد )) فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة ، قال فوالله ما سمعوا بعيراً خرجت لقريش إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تناشده الله والرحم ألا أرسل إليهم فمن أتاك منهم فهو آمن . وكان أبو بصير يصلي لأصحابه ويكثر من قوله : الله العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصره . فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمهم واجتمع إلى أبي جندل حين سمع بقدومه ناس في بني غفار واسلم وجهينة وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة وهم مسلمون ، فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير وكتب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أبي جندل وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بيده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجداً . أهـ باختصار وبلا شك يدري كل ذي حس سليم يعرف سيرة الصحابة مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه لا يمكن إحداث أمر عظيم مثل هذا ولا يذكرونه للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو رسول الله تعالى وخليفته في خلقه والأمر أمره والحكم حكمه والصحابة كلهم جنده ونوابه ومنفذون أمره ، وكذلك يستحيل أن يحدث مثل هذا من أصحابه الذين هم تحت حكمه وأمره ويكون ذلك حراماً ملعوناً فاعله يجر إلى كفر وضلال ، ثم لا يعلمه الله تعالى به ولا يوحي إليه في شأنه ، كما أعلمه بمسجد الضرار وقصد أصحابه من بنائه وأمره بهدمه بل وبما هو أدون من هذا وأقل ضررا بكثير فإذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اطلع على بنائهم المسجد على قبر أبي بصير ولم يأمرهم بهدمه إذ لو أمر بذلك لنقل في نفس الخبر أ, غيره ، لأنه شرع لا يمكن أن يضيع بل يستحيل ذلك لخبر الله تعالى أنه حفظ الدين من أن يضيع منه شيء ولا يصل إلى آخر هذه الأمة ما وصل إلى أولها . فلما لم يأمر بهدمه دل ذلك على جوازه . وأما كونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم حذر بعد ذلك من اتخاذ المسجد على قبره الشريف بقوله : (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) يحذر ما صنعوا فإنما ذلك لما يخشى من الفتنة بقبره الشريف ، لأن القوم كلهم كانوا أهل جاهلية وعبادة أوثان وصور وأحجار وعهدهم بذلك قريب فلما آمنوا برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشاهدوا من معجزاته الظاهرة وكمالاته الباهرة وأحواله العجيبة الخارقة حتى صار أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وأولادهم وأنفسهم لم يأمن صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يفتتنوا بقبره بعد انتقاله .

وهذا عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) وهو من هو قد افتتن عند موته وأنكر أن يكون قد مات أو يلحقه الموت فأخذ سيفه بيده وجعل يقول من قال : إن محمداً مات ضربته بسيفي هذا وذلك لما وقر في نفسه من تلك الكمالات التي لا تتناسب الفناء والموت حتى ذكره الصديق ( رضي الله عنه) بالآية الكريمة (( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل .. )) الآية . فحينئذ ثاب إليه عقله وعلم أم العبد عبد والرب رب فلهذا حذر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من اتخاذ المسجد على قبره في أول الأمر وأشار إلى جواز اتخاذه عند استقرار الإيمان كما فعلت الأمة فأدخلت قبره الشريف في مسجده بعد نحو تسعين سنة من انتقاله . وإنما لم يأمر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهدم المسجد الذي بني على أبي بصير لأن أبا بصير لا شهرة له بين الناس بفضل حتى يمكن أن يفتتنوا بقبره ، وإنما هو فرد من أفراد المسلمين فلم يخش من المسجد على قبره أي ضرر وخلل في الاعتقاد .

الدليل التاسع : أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أصحابه بفتح بيت المقدس :

إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أصحابه بفتح بيت المقدس وأقطع تميماً الداري أرضا بالتحليل تحقيقاً لوعد الله وخبره بالفتح ، وهو يعلم أن بالخليل قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ( عليهم السلام ) . وعلى هذه القبور معبد وقبة فلم يأمر أصحابه إذ أمرهم أن يدفعوا لتميم الداري الأرض التي أقطعه إياها أن يهدموا البناء الذي هو على قبر إبراهيم وعلى قبر غيره من الأنبياء الموجودين بفلسطين بالقدس والخليل وما بينهما . فدل على أن المراد التحذير من علة ذلك لا من نفس بناء المسجد والقبة .

الدليل العاشر أن الصحابة فتحوا البلاد في زمن الخلفاء الراشدين :

أن الصحابة – رضي الله عنهم – لما فتحوا البلاد في زمن الخلفاء الراشدين لم يهدموا البناء الذي كان على قبور الأنبياء بالشام والعراق وغيرهما من أرض العرب مع قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنفيذ كل ما أمرت الشريعة به وما ينقل عن عمر – رضي الله عنه – في قبر دانيال فذاك خاص به لما وجد عند قبره من الكتابة التي تخبر بأمور وكوائن غيبية ، وكان عمر – رضي الله عنه – يبالغ في التنفير من كل علم يخشى أن يفتتن الناس به ويعرضون معه عن الكتاب والسنة أو يعتقدون معه خلاف ما يجب أن يعتقد في ذلك المخلوق حتى كان إذا قبل الحجر الأسعد عند الطواف يقول رافعاً صوته ليسمع الناس إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقبلك ما قبلتك ، وإنما كان يفعل هذا لأنه خشي على العرب وهم حديثو عهد بجاهلية وعبادة الحجر أنهم لما يرون المسلمين يقبلون الحجر ربما اعتقدوا أن ذلك لتأثير عنده وتصرف كما كانوا يعتقدونه في الأحجار التي كانوا يعبدونها فلما وجد عند قبر دانيال لوحاً مكتوباً فيه أخبار عن أمور مغيبة وكوائن آتية خاف أن يفتتن الناس بذلك فأمر بهدم البناء الذي على القبر لأن اللوح المذكور ملصق فيه أو الكتابة كانت على نفس البناء الذي على القبر ، أما قبور غيره من الأنبياء فقد أقر عمر – رضي الله عنه – البناء الذي كان عليها ولم يهدمه لأنه لم يكن عليها شيء مما كان على قبر دانيال .

الدليل الحادي عشر : أن جماعة من الأنبياء والمرسلين مدفونين في المسجد الحرام

أنه جاء في عدة أحاديث وآثار أن جماعة من الأنبياء والمرسلين مدفونون في المسجد الحرام ما بين زمزم والمقام ، وأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن منهم نوحاً ، وهوداً وصالحاً ، وشعيباً ، وأن قبورهم بين زمزم والحجر ، وكذلك ورد في قبر إسماعيل أنه بالمسجد الحرام ، وهو أشرف مسجد على وجه الأرض هو ومسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فلو كان وجود القبر في المسجد محرماً لذاته لنبش النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخرجهم فدفنهم خارج المسجد ، فإنه أخبر الله أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وأنهم أحياء في قبورهم ، كما أخبر الله تعالى – بمثل ذلك عن الشهداء ، وأمرنا بأن لا نسميهم أمواتاً فنكون كاذبين في ذلك وهو أحياء ولكن حية برزخية تلائم الكون في القبر ، ولا نتصور كنهها وحقيقتها لأنها من أمور الآخرة التي لا تصل إليها عقول أهل الدنيا . فلما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك دل على أن وجود القبر في المسجد أو بناء المسجد على القبر ليس محرماً لذاته وإنما ذلك لعلته التي بانتفائها ينتفي حكمها ، وإذا علمت أن أفضل المساجد على وجه الأرض مسجد مكة ومسجد المدينة اللذان هما الحرمان الشريفان – وقد شاء الله تعالى – وحكم أن يكون في كل منها قبور متعددة ، ففي حرم مكة قبور جماعة من الأنبياء ، وفي حرم المدينة قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقبر صاحبيه – رضي الله عنهما – ومعهما قبر رابع سيدفن فيه عيسى عليه السلام حين نزوله ، كما ورد في بعض الأخبار – تعلم أن الدفن في المسجد أو اتخاذ المسجد في القبر من أشرف الأعمال تأسياً بالحرمين الشريفين ، فكل مسجد ليس فيه قبر فهو ناقص الفضل قليل البركة عديم الأسوة بأفضل المساجد وأشرفها .

الدليل الثاني عشر : الوسائل لها حكم المقاصد

القاعدة المقررة في الفقه أن الوسائل لها حكم المقاصد واحترام قبر الميت المسلم وتعظيمه بعدم الجلوس عليه والمشي فوقه ونبشه وكسر عظامه مقصود شرعاً ، وضده محرم منهي عنه أشد النهي حتى قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر )) رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ، وورد نحوه بأسانيد صحيحة من حديث عبد الله بن مسعود وعقبة بن عامر وغيرهما ، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( كسر عظم الميت ككسره حياً )) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان في الصحيح ، بل بالغ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تعظيم قبور المؤمنين حتى أمر من رآه يمشي بينها بنعلين أن يخلعهما احتراماً لقبور المؤمنين .

وبالضرورة نعلم أن القبر إذا بقي دون بناء حوش حوله أو بيت أو قبة عليه فهو بلا شك معرض للمشي فوقه والجلوس عليه واندراس أثره ، كما هو مشاهد بالعيان من مرور الناس فوق القبور التي لا بناء عليها . وربما يجهل أن هناك قبراً فيبول ويتغوط فوقه بخلاف القبور المحفوظة بالبناء ، كما أننا شاهدنا مرات متعددة من يحفر قبراً في موضع لا يظنه قبراً فيجد فيه جمجمة ميت وعظام يده ورجليه ، فمنهم من يحيد عن ذلك الموضع ويحفر في مكان آخر ، ومنهم من يحملها فيدفنها في حفرة ، ومنهم من يكسره ويرمي بها . وإنما يقع هذا بالقبور التي لا بناء عليها ، أما المبنية فهي محفوظة من ذلك طول الدهر ما وجد ذلك البناء عليها . فإذا كان البناء فيه مصلحة المحافظة على حرمة الميت وحفظ حقه وفيه مصلحة الحي بامتثال أمر الشارع وعدم اعتدائه على الحدود ، وكونه سبباً موصلاً إلى ذلك ، كان مطلوباً لا محالة لأنه سبب موصل إلى المقصود فيكون له حكمه . وجل أحكام الشريعة والفروع التي شرعها الفقهاء ولم يرد بها نص إنما هي من هذا القبيل ، أعني مأخوذة من طريق الاستدلال .

الدليل الثالث عشر : مالا يتوصل إلى المطلوب إلا به فهو مطلوب .

القاعدة المقررة أيضاً ، أن مالا يتوصل إلى المطلوب إلا به فهو المطلوب ، وزيارة القبور مطلوبة . أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بها ورغب فيها ، وفي زيارة قبره المعظم ، فقال في الأول (( زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة وتزهد في الدنيا )) ، وقال في قبره الشريف : (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )) ، وهو حديث صحيح له طرق متعددة أفردها الحفاظ بالتأليف ومنهم التقي السبكي وكتابه مطبوع متداول فلا نطيل بذكر أسانيده وبيان صحته بعد أن بسط ذلك الإمام تقي الدين المذكور .

وكذلك رغب صلى الله عليه وعلى آله وسلم في زيارة قبر الوالدين وزيارة قبر الأصدقاء والسلام عليهم ، وذكر الأئمة والأولياء أن لزيارة القبور تأثيراً عظيماً في تنوير الباطن ، لا سيما قبور الأولياء والصالحين ، وأن الدعاء عند قبور بعضهم مستجاب كما قال الإمام الشافعي – رضي الله عنه – في قبر موسى الكاظم عليه السلام :- (( إنه الترياق المجرب )) ، وجرب ذلك آلاف مؤلفة من الخلائق في سائر العصور عند قبر القطب ابن مشيش – رضي الله عنه – في المغرب وقبر القطب البدوي – رضي الله عنه – وقبر السيدة نفيسة – رضي الله عنها – بالقاهرة ، وقبور أخرى لغيرهم من أكابر العارفين – رضي الله عنهم – بما إنكاره مكابرة للمحسوس ودفع للمشاهد المعاين الملموس ، فلو لم يبن على قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يدخل في المسجد لاندرس كما اندرست قبور إخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين هم مع كثرتهم لا يعرف قبر عشرة ، بل ولا خمسة منهم بسبب عدم البناء عليهم ، ولم يبق محفوظاً إلا قبر إبراهيم – عليه السلام – ومن معه بسبب البناء أيضاً ، ولحرم الناس منفعة زيارته صلى الله عليه وعلى آله وسلم الموجبة لشفاعته لهم ، كما حرموا بركة زيارة غيره من الأنبياء الذي اندرست قبورهم لعدم البناء عليها ، فلما كان البناء موصلاً لهذا المطلوب الشرعي كان مطلوباً لا محالة

الدليل الرابع عشر : أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضع على قبر عثمان بن مظعون صخرة عظيمة .

أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضع على قبر عثمان بن مظعون – رضي الله عنه – صخرة عظيمة ، وقال : (( أعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي )) رواه أبو داود وابن ماجة وجماعة ، فهذا تأسيس لوضع العلامة على القبر وتشريع لها وللمحافظة على القبر لا سيما قبور الصالحين والعلامة لا تنحصر في الصخرة ، وإنما وضعها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنها كانت المتيسرة أمامه ساعة الدفن ، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يتكلف لشيء ، بل يقضي بالموجود في كل شيء من طعام وملبوس ومركوب وغير ذلك .
فإن جازت العلامة على القبر لحفظه من الاندراس فلا فرق بين أن تكون بصخرة أو بغيرها كما أنه إذا جازت الصخرة جاز اثنان وثلاثة وأربعة بحسب ما تدعوه الحاجة إلى إثبات العلامة ، وكذلك يجوز ربط تلك الأحجار بعضها ببعض بالطين والجير لئلا تتبعثر وكونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن البناء قد برهنا على أن المراد بالبناء الذي يكون فوق القبر لطمسه لا البناء الذي يكون حول القبر .

الدليل الخامس عشر : ارتفاع قبور الشهداء والصحابة

إن قبور الشهداء والصحابة كانت مرتفعة كما في صحيح البخاري عن خارجة بن زيد قال رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان – رضي الله عنه – أن أشدنا وثبة الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه ، وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما وضع عليه صخرة : وكون الشاب لا يستطيع أن يثب عليه إلا إذا كان قوياً شديداً يدل على عظم ارتفاعه وتباعد جانبيه وذلك لا يمكن بالتراب وحده ولا بالصخرة وحدها لوجوه :

أحدها : أن وضع التراب الكثير على القبر الزائد على الخارج منه مكروه .

ثانيها : أنه لا يمكن في العادة أن يبقى التراب الكثير مرتفعاً مجموعاً فوق القبر أزيد من ثلاثين سنة .

ثالثها : أن التراب المجلوب لا يمكن أن يرتفع هذا الارتفاع المشار إليه دون أن يخالطه حجارة وطين ، كما أنه لا يمكن أن يدوم هذه المدة الطويلة .. فإنا نرى التراب الذي يجعل على القبر لا يمر عليه سنة أو سنتان حتى يذهب وتنسفه الرياح ويبقى القبر مسوى بالأرض .

رابعها : أن هذا لا يمكن أيضاً بالنسبة للصخرة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند قبره ، لأنها وإن كانت كبيرة فهي لا تصل إلى هذا الحد الذي لا يستطيع أن يثب عليها إلا الشاب القوي . لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حملها بيده الكريمة ووضعها عند القبر ، وأيضاً لو كان ذلك بالنسبة لها لقال : وإن أشدنا الذي يثب الصخرة التي على قبر عثمان مع أنه عبر بالقبر دون الصخرة فدل على أنه كان مبنياً في زمن الخلفاء الراشدين الذين فهموا من وضع العلامة على قبره الأذن في البناء عليه .

وقال ابن أبي شيبة في المصنف : حدثنا وكيع عن أسامة بن زيد عن عبد الله بن أبي بكر ، قال رأيت قبر عثمان بن مظعون مرتفعاً ، فهذا صريح في أنه كان مبنياً بناء مرتفعاً .

وقال ابن أبي شيبة أيضاً : حدثنا ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي ، قال : أتيت على قبور الشهداء بأحد فإذا هي شاخصة من الأرض والقبور المشخصة بالتراب لايمكن عادة أن تبقى من وقت عزوة أحد في السنة الثالثة إلى زمن التابعين .. [ 1 ]

يتبع إن شاء الله

هامش

[ 1 ] من كتاب : "إحياء المقبور من أدلة بناء المساجد علي القبور " تأليف : المحدث أحمد عبد الله الصديق الغماري
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين نوفمبر 19, 2007 4:13 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14299
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
خاتمــة

فبان من هذه الأدلة جواز البناء على القبر إذا كان دائراً حوله سواء كان بيتاً أو مدرسة أو قبة أو مسجداً وأن الجمع الذي جمعنا به بين هذه الأدلة الدالة على الجواز وأحاديث النهي الدالة على المنع أو الكراهة جمع واجب متعين لنفي التعارض الواقع ظاهراً بين الأدلة وأن بذلك الجمع المؤيد بالدليل والبرهان ، ارتفع الإشكال في الباب ، وبقي الجواب عن الحديث الذي ذكره السائل أيضاً ، وهو حديث علي – رضي الله عنه – وقوله لأبي الهياج أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (( لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته )) وهو من وجوه :

الوجه الأول : إنه خبر متروك الظاهر بالاتفاق لأن الأئمة متفقون على كراهة تسوية القبر وعلى استحباب رفعه قدر شبر ، بل عند الحنفية قول بوجوب ذلك .

الوجه الثاني : إنه مخالف للسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة بعده من رفع القبور وتسنيمها ومخالف لقبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه كما ذكره السائل نفسه في الأحاديث التي ذكرها حينئذ فلا بد من أحد أمرين : إما أن يكون غير ثابت في نفسه أو هو محمول على غير ظاهره ولا بد .

الوجه الثالث : وإذا ثبت أنه على غير ظاهره وأنه يجب رده أو تأويله ليتفق مع الأحاديث الأخرى التي هي أقوى منه سنداً ومعنى ، فقد أجاب عنه الأئمة والفقهاء كما ذكره غير واحد منهم النووي فقال في شرح المهذب : أجاب عنه أصحابنا قالوا لم يرد تسويته بالأرض ، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأحاديث اهـ . أي فيكون حجة للشافعية ومن وافقهم فيما ذهبوا إليه من أن تسطيح القبر أولى من تسنيمه ، ولئن كان هذا المراد به فهو حجة ظاهرة قوية في تأييد مذهبهم .

الوجه الرابع : وهو الصحيح عندنا أنه أراد قبور المشركين التي كانوا يقدسونها في الجاهلية وفي بلاد الكفار التي افتتحها الصحابة – رضي الله عنهم – بدليل ذكر التماثيل معها وإلا فالسنة وعمل الصحابة على خلافه بالنسبة لقبور المسلمين ، وقد مر أن قبور الشهداء كانت مرتفعة ، وأن قبر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه – رضي الله عنهما – كانت مرتفعة كما ذكره السائل نفسه في الأحاديث التي احتج بها المنتقد ، وممن فعل ذلك بها علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – نفسه لأنه كان وقتئذ بالمدينة وهو من أهل الحل والعقد في الأمور . لا يفعل أمر مثل هذا إلا بموافقته ؛ ولو كان عنده أمر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبور لما وافق على رفع قبره وقبر صاحبيه ، فكيف يجوز مع هذا أن يأمر أبا الهياج بتسوية القبور ، وقد سبق أيضاً أن الحكيم الترمذى روى عن فاطمة – عليها السلام – أنها كانت تأتي قبر حمزة فترمه وتصلحه ، وكذلك رواه مسدد في مسنده ونقله عنه ابن عبد البر في التمهيد أنه كانت تتعاهد قبر حمزة – رضي الله عنه – كل سنة وترمه .

وهذا في حياة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنها لم تعش بعده إلا ستة أشهر ، كما أنها ما كانت تخرج لذلك إلا بإذن من زوجها على بن أبي طالب وموافقته ، فلو كان عنده أمر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتسوية القبور كما يقول أبو الهياج لما وافق زوجته على ذلك ، وأيضاً لو كان عنده أمر بذلك من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما تأخر عن تنفيذه لا سيما في زمن خلافته وإفضاء الأمر إليه ، وقد ثبت في الآثار السابقة وغيرها أن قبور الصحابة والشهداء كانت مرتفعة في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم في زمان التابعين ، فوجب أن يكون مراد علي – رضي الله عنه – قبور المشركين ولا بد أن يكون الخبر مردوداً ، وغير هذا لا يكون أصلاً . اهـ

تم بحمد الله

****مراجع هذا الموضوع ****

1- الإفهام والإفحام أو قضايا الوسيلة والقبور في ضوء سماحة الإسلام - للأستاذ محمد زكي إبراهيم
سلسلة منشورات العشيرة المحمدية – الطبعة الثالثة – 1403 هـ -1983 م

2- إحياء المقبور من أدلة جواز بناء المساجد على القبور – تأليف المحدث أحمد عبد الله الصديق الغماري
مكتبة القاهرة – القاهرة – الطبعة الثالثة 1426 هـ - 2005 م
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: هل يجوز البناء على قبر ؟
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء فبراير 10, 2015 2:37 am 
غير متصل

اشترك في: الأربعاء فبراير 03, 2010 12:20 am
مشاركات: 7602
للرفع
جزاكم الله خيرا
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

_________________
صلوات الله تعالى تترى دوما تتوالى ترضي طه والآلا مع صحب رسول الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: هل يجوز البناء على قبر ؟
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء فبراير 11, 2015 6:12 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14299
مكان: مصـــــر المحروسة

أكرمكم الله شيخنا الفاضل (فراج يعقوب) ، ورفع درجاتكم في الدنيا وفي الآخرة .

جزاكم الله خيراً ويسعدني دائماً مروركم الكريم .


_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: هل يجوز البناء على قبر ؟
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أغسطس 09, 2022 1:51 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


للرفع
﷽___________
اللهم صل على سيدنا محمد النور الحبيب العالي القدر العظيم الجاه وعلى آله وسلم
كل عام انتم بخير
- - -
زادك الله بسطة فى العلم والفهم وجزاك الله خيرا وكساك بأنوار حضرته ﷺ)
- - -
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: هل يجوز البناء على قبر ؟
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أغسطس 09, 2022 6:25 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14299
مكان: مصـــــر المحروسة

اللهم آمين يارب العالمين وجمعاً يارب.

وكل عام وأنتم بألف خير وسلام وأمن وأمان أخي الفاضل (أحمد ماهر البدوي) أعزكم الله وبارك فيكم وجزاكم الله خيراً.


_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: هل يجوز البناء على قبر ؟
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء أغسطس 10, 2022 11:04 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


للرفع
﷽___________
اللهم صل على سيدنا محمد النور الحبيب العالي القدر العظيم الجاه وعلى آله وسلم عليه قدر نظرك إليه
- - -
زادك الله بسطة فى العلم والفهم وجزاك الله خيرا وكساك بأنوار حضرته ﷺ)
- - -
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: هل يجوز البناء على قبر ؟
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة أغسطس 12, 2022 5:18 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14299
مكان: مصـــــر المحروسة

اللهم آمين يارب العالمين وجمعاً يارب.

أخي الفاضل (أحمد ماهر البدوي) أعزكم الله وبارك فيكم وجزاكم الله خيراً.


_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 13 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 11 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط