لا تجد بين رجال السياسة - على اختلاف مبادئهم - من يقيم وزنا لرجل يدعي السياسة وليس له مبدأ يسير عليه ويكافح عنه باقتناع وإخلاص ، وكذلك الرجل الذي يحاول أن يخادع الجمهور قائلا لكل فريق : أنا معك.
ومن أردأ خلال المرء أن يكون إمعة ، لا مع هذا الفريق ولا مع ذلك الفريق ، وإن تظاهر لكل فريق أنه معه . وقدما قال الشاعر العربي :
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن وإذا لقيت معديا فعدناني
ومن يتذبذب بين المذاهب منتهجا اللامذهبية في الدين الإسلامي فهو أسوأ وأردأ من الجميع .
وللعلوم طوائف خاصة تختلف مناهجهم حتى في العلم الواحد عن اقتناع خاص ؛ فمن ادعى الفلسفة من غير انتماء إلى أحد مسالكها المعروفة ، فإنه يعد سفيها منتسبا إلى السفه ، لا إلى الفلسفة ، والقائمون بتدوين العلوم لهم مبادئ خاصة ومذاهب معينة حتى في العلوم العربية لا يمكن إغفالها ، ولا تسفيه أحلام المتمسكين بأهدابها لمن يريد أن يكرع من ينابيعها الصافية .
وليس ثمة علم من العلوم عني به العلماء عناية تامة على توالي القرون من أبعد عهد في الإسلام إلى أدنى عهوده القريبة منا مثل الفقه الإسلامي ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم – كان يفقه أصحابه في الدين ، ويدربهم على وجوه الاستنباط ، حتى كان نحو ستة من الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – يفتون في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم - .
وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى استمر الصحابة على التفقه على هؤلاء ، ولهم أصحاب معروفون بين الصحابة والتابعين في الفتيا ، فالمدينة كانت مهبط الوحي ، ومقر جمهرة الصحابة إلى آخر عهد ثالث الخلفاء الراشدين ، وعني كثير من التابعين من أهل المدينة بجمع شتات المنقول عن الصحابة من الفقه والحديث ، حتى كان للفقهاء السبعة من أهل المدينة منزلة عظيمة في الفقه ، كان سعيد بن المسيب يسأله ابن عمر – رضي الله عنهما – عن أقضية أبيه ، تقديرا من ذلك الصحابي الجليل لسعة علم هذا التابعي الكبير بأقضية الصحابة .
ثم انتقلت علوم هؤلاء إلى شيوخ مالك من أهل المدينة ، فقام مالك بجمعها وإذاعتها على الجماهير ، فنسب المذهب إليه تأصيلا وتفريعا ، وانصاع له علماء كبار تقديرا لقوة حججه ونور منهجه على توالي القرون.
ولو قام أحد هؤلاء العلماء المنتمين إليه بالدعوة إلى مذهب يستجده لوجد من يتابعه من أهل العلم لسعة علمه وقوة نظره ، لكنهم فضلوا المحافظة على الانتساب إلى مذهب عالم المدينة ، حرصا على جمع الكلمة ، وعلما منهم بأن بعض المسائل الضعيفة المروية عن صاحب المذهب تترك في المذهب إلى ما هو أقوى حجة وأمتن نظرا برأي أصحاب الشأن من فقهاء المذهب ، حتى أصبح المذهب باستدراك المستدركين لمواطن الضعف بالغَ القوة ، بحيث إذا قارعه أحد المتأخرين أو ناطحه فَقَدَ رأسه .