اشترك في: الثلاثاء يناير 06, 2009 4:44 pm مشاركات: 6438
|
محمد زاهد بن حسن الحلمي الكوثري نسبة إلى قرية الكوثري بضفة نهر "شيز" من بلاد القوقاز، وقيل بأنه نسبة إلى أحد أجداده، ينحدر من أصل جركسي من قبيلة الشابسوغ الشركسية العريقة . مولده ولد بقرية حاج حسن قريسي القريبة من دوزجه بنحو ثلاثة أميال شرق الأستانة في تركيا، وكان ذلك يوم الثلاثاء 27أو 28 من شوال عام 1296 هـ الموافق 14 أكتوبر عام 1878م. حياته ومؤلفاته درس الفقه الإسلامي في جامع الفاتح بالآستانة ثم أصبح مًدرِّسا فيه ثم أصبح رئيسا للمدرسين فيه وعُيِّن وكيلا للمشيخة الإسلامية في دار الخلافة العثمانية الا انه اضطر للهجرة إلى مصر بعد استيلاء كمال اتاتورك على الحكم، حيث استقر فيها عام 1922 م فعيّن موظفا في دار المحفوظات المصرية لترجمة الكتب والوثائق التركية. كان الشيخ الكوثري من نشطاء الشراكسة القوميّين في استانبول حيث كان من مؤسِّسي جمعية التعاون الشركسية عام 1908 م في استانبول . له مؤلفات دينية كثيرة قد تزيد على خمسين مؤلفاً ومنها: (الإشفاق على احكام الطلاق) (تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة ابي حنيفة من الأكاذيب) ورسالة (إحقاق الحق وإبطال الباطل) و(مُغيث الخلق في ترجيح القول الحق) ورسائل في سير وتراجم كل من الإمام زُفز، ابي يوسف القاضي، محمد الشيباني، البدر العيني، الحسن بن زياد، محمد بن شجاع والطحاوي. وله كتاب (التعليقات المهمة على شروط الأئمّة) وتخريج كتاب (التبصرة في الدين)، وتكملة كتاب (السيف الصقيل) للسبكي والعشرات من المقالات المختلفة في المجلات والصحف العربية. كان مرجِعا في الحديث النبوي الشريف ورِِجاله وحُجّة في المراجع والمكتبات العامة والخاصة في العالم العربي والإسلامي. صحّح الجزء الخاص عن الشراكسة في دائرة المعارف الإسلامية وعلّق عليه وشارك الاستاذ حسن قاسم في كتابة الجزء الخاص بالشراكسة في مؤلفه الكبير ( المزارات والآثار الإسلامية في مصر والقاهرة). وضع رسالة مُطوّلة تبحث في تاريخ الشراكسة في مصر وهي ما تزال مخطوطة متداولة بانتظار النشر، وفيها تفنيد للكثير من المُغالطات والتجنِّيات التاريخية بشأن دولة السلاطين الشراكسة في مصر. وفاته توفي بتاريخ 19 من ذي القعدة 1371 هـ الموافق 11 أغسطس 1952م، عن خمس وسبعين سنة، وأمّ صلاة الجنازة الشيخ عبد الجليل عيسى شيخ اللغة العربية ، ودفن قرب قبر أبي العباس الطوسي في قرافة الشافعي . لسيدنا الإمام الكوثرى كتب عديدة ومؤلفات جمة وكان صديق حميم لجدى النسابة حسن قاسم ودائما كان يقوم بتصحيح والتعليق على مقالات وكتب النسابة حسن قاسم فقال :أن له أجازة من الإمام الكوثرى كتبها له على ثبتـــــــه ( التحرير الوجيز ) كتب فى ص 4( وممن استجارنى الأستاذ البارع السيد حسن قاسم صاحب المؤلفات الممتعة كان لله له حيثما يكون ورعا فى كل حركة وسكون ) – كما أنه له تعليقات على كتب حسن قاسم (ملتقى النخبة الإسلامي) رسالة
(الإمام الكوثري) المولود سنة 1296هـ –والمتوفي سنة 1371هـ ... للفقير إلى تعالى أحمد خيري باشا المولود سنة 1324هـ –المتوفي سنة 1387 هـ الإهداء
إلى الذين يُكْلَمُون في سبيل الله فلا يتكلمون ويتألمون فلا يتململون ويذبّون عن شرع طه ولا يتذبذبون أهدي هذه السيرة للعظة والذكرى إنصافًا للمروءة والدين وإرضاء للحق واليقين أحمد خيري تحريرًا بروضة خيري باشا يوم الخميس خامس المحرم سنة 1372هـ الإمام الكوثري بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الحكيم العليم القائل: » إنما يخشى الله من عباده العلماء « وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملك الأرض والسماء، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، خاتم الرسل وسيد الأنبياء. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل الصفاء والوفاء صلاة وسلاماً يكونان لنا في هول المحشر نعم الأمل والرجاء. وبعد: فهذه سيرة رجل له عليّ من الفضل ما لا يحصر إذ أفدت من علمه وتجاربه ونصحه المثمر وكان في كل ذلك عزوفاً عن الدنيا أبيًّا عن أن أعوضه شيئاً من دنياي المادية مقابل ما نلته منه لصلاح دنياي الروحية من علمية ودينية، حريصاً على أن يكون كل ما يمنحه من علومه خالصاً لوجه الله تعالى لا يرجو فيه الجزاء إلا من ربه الأعلى ولسوف يرضي. ومما لا شك فيه أن الإسلام رزئ رزءاً فادحاً وأن الأحناف نكبوا نكبة واضحة بوفاة إمام العصر، وشيخ علماء مصر التقى النقي- اللوذعي الألمعي- الأديب الأريب- الشاعر الناثر- الموحد المؤرخ- الفقيه الجدلي المحقق- والمحدث المفصل المدقق- مولانا حجة الله الأستاذ محمد زاهد أفندي(1) الكوثري المنتقل إلى رحمة الله تعالى بعد عصر يوم الأحد 19 من ذي القعدة سنة 1371 إحدى وسبعين عن خمس وسبعين سنة ودون الشهر. وقد قسمت هذه السيرة إلى ثمانية فصول: الفصل الأول: في سرد تاريخ حياته من المولد إلى الوفاة. الفصل الثاني: ذكر أهم الأحداث في حياته على ترتيبها الزمني. الفصل الثالث: وصفه وصفاً دقيقاً. الفصل الرابع: قصيدتي فيه وهي 75 بيتًا مع شرحها. الفصل الخامس: في بيان مؤلفاته وتقدماته وتعاليقه ومقالاته. الفصل السادس: في أمور خاصة بينه وبيني. الفصل السابع: بيان بعض شيوخه وبعض مأثور كلامه من منظوم ومنثور. الفصل الثامن: تلامذته مرتبة أسماء من تعيه الذاكرة منهم على حروف المعجم. وليس من عادتي أن أكيل المدح جزافاً كما أني أطبع هده الترجمة ولا يزال عارفو الرجل والناهلون من فضله أحياء يرزقون- ولذلك أقرر أن كل ما سيرد في هذه الترجمة هو دون حقيقة فضائل الرجل ومناقبه- ومهما يتوهم الجاهل أو الحاسد فيها من الغلو والمبالغة فإن العارف المنصف سيرى فيها قصوراً وتقصيرا. ــــــــــــــــــ (1) أفندي كلمة تركية معناها السيد وكانت تطلق على أفراد البيت المالك العثماني وعلى كبار العلماء- ولا نزال في مصر نستعمل كلمة (أفندي) ومعناها (سيدي)- في مجال الأدب والتكريم. ـــــــــــــــــــ الفصل الأول
في سرد تاريخ حياته من المولد إلى الوفاة هو محمد زاهد بن الحسن الحلمي المتوفى في دوزجه يوم الأربعاء ثاني عشر ربيع الآخر سنة 1345 عن مائة سنة، وكان انتقل إليها من قريته سنة 1303، وهو ابن علي الرضا المتوفى بموضع قرية الحاج حسن قبل بنائها وعقب وصولهم مهاجرين من القوقاس سنة 1280، وهو ابن نجم الدين خَضُوع المتوفى بالقوقاس في حدود سنة 1245، وهو ابن باي المتوفى بالقوقاس حوالي سنة 1220، وهو ابن قُنَيِّتْ المتوفى بالقوقاس في حدود سنة 1180، وهو ابن قانص المتوفى حوالي سنة 1140، وينحدر من أصل جركسي من فخذ يعرف جدهم باسم كوثر ومن هنا كانت النسبة ويرجح أن يكون بين قانص وكوثر نحو سبعة آباء. ولد يوم الثلاثاء 27 أو 28 من شوال سنة (1296) ست وتسعين مع أذان الفجر في قرية الحاج حسن أفندي(1). وتلقي مبادئ العلوم من شيوخ دُوزْجَه وغادرها سنة 1311 للآستانة ونزل عند وصوله في مدرسة دار الحديث التي بناها قاضي العسكر حسن أفندي المتوفى 1044 حيث كان ينزل عمه موسى الكاظم(2). وطلب العلم في جامع الفاتح على الشيخ إبراهيم حقي الأييني إلى أن توفي سنة 1318 فتمم على الشيخ علي زين العابدين الألصوني المتوفى سنة 1336 إلى أن تخرج عليه سنة 1322، وكان الامتحان للعالمية في ذلك الوقت يجري مرة كل خمس سنوات وتصدر به إِرادة سلطانية، وكان امتحان المترجم سنة 1325 بلجنة رئيسها وكيل الدرس أحمد عاصم المتوفى سنة 1329- وأعضاؤها محمد أسعد الأخِسْخَوي الذي ولي مشيخة الإسلام فيما بعد ومصطفى بن عظم الداغَستاني المتوفى 1336 وإسماعيل زهدي الطوسيوي المتوفى 1327 (3). وله مشايخ غير هؤلاء ذكر أغلبهم وترجم لبعضهم في ثبته المسمى »التحرير الوجيز«. ولما نال إجازته العلمية سنة 1325 اشتغل بالتدريس في جامع الفاتح إلى أوائل الحرب العظمى الماضية التي بدأت في سنة 1332 ولما كان ممن قاوموا التغيير الذي أراد يقوم به الاتحاديون القائمون بالحكومة العثمانية وقتئذ ذلك التغيير الذي أرادوا به القضاء على العلوم الدينية تحت ستار الإصلاح (4) فقد أصبح عرضة لاضطهادهم. وتفصيل الأمر أن النظام القديم كان يقضى بأن الطلبة يختارون شيخاً يحضرون عليه العلوم جميعها من مبدئها إِلى غايتها لمدة خمس عشرة سنة فأراد أصحاب النظام الجديد إِدخال العلوم الحديثة الغربية وتخصيص المدرسين بأن كل منهم ما يختار له من العلوم لعدة فصول وجعلوا مدة الدراسة ثماني سنين وعقدوا لذلك مجمعا وكان شيخنا من أعضائه فرأى في ذلك قضاء على الدين لقصر مدة الدراسة وكثرة العلوم خصوصا وأن الطلبة أتراك والعلوم الدينية تستلزم دراسة اللغة العربية فما زال يحتال ويمكر حتى جعل مدة الدراسة اثنتي عشرة سنة غير البدء بسنتين تحضيريتين، وبعد ذلك ثلاث سنوات للتخصص فأصبحت المدة سبع عشرة سنة وذلك بمعاونة بعض الصلحاء من أعضاء اللجنة مما أثار حفيظة صنائع الاتحاديين من أعضاء اللجنة فسعوا في عزل شيخ الإسلام في ذلك العهد محمد أسعد بن النعمان الأخِسْخَوِى وتعيين خيري أفندي الأرْكُوبي الذي كان على بغضه للقديم وصرامته ذا ورع ودين إِلى حد ما فلم ينل الاتحاديون مشتهاهم وصدر قانون الإصلاح محققاً لرغبات المجمع وهادماً لشهوات المتطرفين فلما شمرت الحرب عن ساقها وكان شيخنا اختير له علوم البلاغة والوضع والعروض والتدريس في معاهد نظامية يومياً ما عدا يوم الجمعة، أشار عليه بعض أصدقائه من الاتحاديين بأن وجوده في الآستانة أثناء الحرب قد يجعله عرضة لبعض الاضطهاد: فقال: إنه يود القيام بافتتاح المعهد الفرعي الذي أنشأته الحكومة في قسطموني بوسط الأناضول فصدر الأمر بنقله حيث بقى هناك ثلاث سنوات استقال عقبها وعاد إِلى الآستانة. ومما حدث له قبل ذهابه إِلى قسطموني أن الجامعة أرادت تعيين أحد أساتذتها لتدريس الفقه وتاريخه فتنافس في ذلك الأساتذة الاتحاديون فرأت الإدارة عقد امتحان وأخبره بالنبأ أحد زملائه فقدم طلب الدخول في الامتحان آخر يوم وأصبح فأدى الامتحان، وكان الأول في النجاح، ولكن الاتحاديين غاظهم الأمر، فقام أحد كبار نوابهم وكان زميلا للشيخ في التدريس بالفاتح واسمه فاضل عارف المتوفى سنة 1341 وطلب من وكيل(5) المعارف المدعو محمد شكري بك أن يوقف تبليغ موافقته للجامعة ففعل- فلما علم الشيخ بذلك زاره وقال له والآخر يعجب من زيادة خصمه-: علمت من الصحف نبأ تعييني ولما كنت زميلي في التدريس ومن ذوى الجاه الآن فلا بد أن ذلك كان بمساعدتك- واضطر عارف إلى مجاراة الشيخ وقبول شكره وتناسى معاكسته السالفة. ولما رأى الاتحاديون أنه لا مناص من تعيين خصمهم اكتفوا بانتداب أحد الأساتذة لهذه الوظيفة ولم يعينوا فيها أحداً حتى لا يتعرضوا للنقد بتعيين أحد أعوانهم وتخطي الناجح الأول- وحتى يتفادوا تعيين عدوهم في وظيفة جديدة ذات مرتب حسن. وعاد الشيخ من قسطموني إلى الآستانة، وفي طريقه غرق في أقتشه شهر وتفصيل ذلك في الفصل الثاني، وكان وصوله إلى الآستانة عقب الهدنة مباشرة فعين في دار الشفقة الإسلامية وهي مدرسة ليلية كبيرة تحت إشراف جمعية خاصة. وساعده نجاحه في الامتحان السابق الذكر على أن يلي تدريس التخصص مع صغر سنه بالنسبة إلى زملائه في تدريس التخصص وذلك بعد نحو شهر من اشتغاله بدار الشفقة الإسلامية- واستمر في ذلك حتى انتخب عضواً في مجلس وكالة الدرس نائبًا عن معهد التخصص وبعد ذلك عين وكلا للدرس ورئيسًا للمجلس المذكور (6) إلى أن عزل واستمر بعد عزله عضواً بمجلس وكالة الدرس لأنه لما عين رئيسًا لم يعين بدله في العضوية فلما عزل عن الرياسة بقى في العضوية والتدريس إلى أن غادر الآستانة (7) قاصداً مصر على الباخرة العباسية من بواخر شركة البوستة الخديوية فوصل الإسكندرية يوم الأحد 13 من ربيع الآخر سنة 1341 الموافق 3 ديسمبر سنة 1922م ونزل بالقباري أياما ثم سافر إلى القاهرة ونزل بفندق دار السلام بالحي الحسيني أياما ثم انتقل إلى شبرا وسكن منزلا بجوار قسم شبرا أشهرًا ثم سكن بمصر الجديدة أشهر أيضاً ثم عاد إلى الإسكندرية ومنها رحل رحلته الأولى إلى الشام قبل انقضاء عام على يوم وصوله من الآستانة فسافر بالبحر من إسكندرية إلى بيروت ومنها بسكة الحديد إلى دمشق حيث مكث بها ما يزيد على سنة ثم عاد بالسكة الحديدية إلى مصر عن طريق فلسطين فنزل بحلوان ثم تحول إلى مدرسة محمد بك أبي الذهب المتوفى سنة 1189 وهي المعروفة بين العامة باسم تكية الأتراك. وتقع شمال جامع أبي الذهب الكائن في شمال الجامع الأزهر والمطل على ميدان الأزهر . ثم رحل الرحلة الثانية إلى الشام سنة 1347 عن طريق فلسطين بسكة الحديد وأقام بدمشق حوالي سنة وعاد بنفس الطريق إلى مصر سنة 1348 (8) فنزل بفندق الكلوب المصري بالحي الحسيني فلما التحق بدار المحفوظات المصرية لتعريب الوثائق التركية بعد اختباره نقل سكنه إلى القلعة ليكون قريباً من عمله وهناك حضرت عائلته حيث رآها لأول مرة منذ مغادرته الآستانة، ثم انتقل بعائلته إلى شبرا فحلوان فشارع حسن الأكبر فشارع النزهة بالسكاكيني فشارع سوق العباسية بالمنزل رقم 17 فآخر شارع العباسية بالمنزل رقم 130 حيث زرته لأول مرة سنة 1356 ثم انتقل إلى رقم 60 من شارع العباسية في سنة 1357 وفي أوائل سنة 1358 انتقل إلى المنزل رقم 63 من شارع العباسية حيث بقى به عشر سنوات، وفي أواسط سنة 1368 انتقل إلى المنزل رقم 3 حارة الروم المتفرعة من شارع الملك وانتقل منه بعد أشهر يوم الاثنين 20 من شوال سنة 1368 إلى المنزل رقم 104 بشارع العباسية على يسار السالك من مصر إلى مصر الجديدة بجوار قسم الوايلي وبه توفي. [/align] ___________ (1) هي قرية أنشأها والد المترجم فعرفت باسمه » حاج حسن قريسي « وتقع قبلي قضاء دوزجه بنحو ثلاثة أميال وشرق الآستانة بنحو خمس مراحل. (2) هو موسى الكاظم الكوثري السيروزي المتوفى سنة 1353 في أطه بازار بالأناضول بين الآستانة ودوزجه عن حوالي تسعين سنة. (3) انظر ص 36 من ثبت المترجم » التحرير الوجيز « وقد ولي كل من الآخرين مصطفى وإسماعيل رتبة قضاء العسكر وهي المعروفة بصدارة الرومللي التي هي أرقى الرتب العلمية ويعرف أصحابها بالصدور العظام ومنهم كان يختار شيخ الإسلام عادة فيما سلف من تلك الأيام. (4) والإصلاح دائما هو الدعوى التي لجأ إليها الملاحدة إِذا أرادوا محاربة الدين الذي يرونه مانعاً لهم من بلوغ مآربهم الفاسدة. (5) أي الوزير وكانت تطلق عليه كلمة الوكيل وقتئذ باعتبار أن كل وزير نائب عن السلطان في وزارته فهو في حكم وكيله. (6) انظر معنى وكيل الدرس وسبب عزل الأستاذ في الفصل الثاني. (7) انظر سبب مغادرته الآستانة في الفصل الثاني. (8) من أهم من لقيهم في الرحلة الأولى السيد أبو الخير الحنفي المتوفى سنة 1343 والمترجم بدمشق قبل عودته وهو السيد محمد أبو الخير بن أحمد المتوفى سنة 1317 ابن عبد الغني شقيق العلامة ابن عابدين المتوفى سنة 1252- ولقي أيضاً السيد محمد بن جعفر الكتاني المالكي المتوفى سنة 1345- والشيخ محمد بن سعيد بن أحمد الفراء الحنفي المتوفى سنة 1345 وهو ابن بنت محمد علاء الدين عابدين المتوفى سنة 1306 –وعلاء الدين هذا هو الذي أكمل حاشية والده على الدر-. ولقي في رحلته الثانية محمد صالح الآمدي الحنفي المذكور في ص 16 من التحرير والوجيز – كما لقي في رحلته الأولى والثانية كلا من محمد توفيف الأيوبي الحنفي وكذا محدث الشام السيد بدر الدين الحسنى سمع منه ولم يستجزه.
__________________
وكان قد تزوج بعد اشتغاله بالتدريس وذلك قبيل الحرب العالمية الأولى بالسيدة الفاضلة التقية التي شاركته أفراحه وأتراحه وساكنته في هجرته وغربته وهي لا تشكو ولا تتذمر بل كانت مثال المؤمنة الصالحة التقية على الرغم مما نالها من بلاء يؤود الجبال وما نزل بها من أحزان تئط منها الجمال ولم بين على غيرها طول حياته، ورزق منها ولداً وثلاث بنات مات الولد وإحدى البنات بالآستانة قبل هجرته وماتت البنتان بمصر. فأما الآنسة سنيحة فماتت أثناء إقامته الثانية بحلوان في 20 من شوال سنة 1353 بحمى اليتفوئيد، وأما السيدة مليحة فقد تزوجت ثم طلقت لسبب صحي، وتوفيت ليلة الأحد 7 من رجب سنة 1367 وصلى عليها بالحرم الحسيني يوم الأحد ودفنت مع شقيقتها وكانت وفاتها نتيجة ضعف عام من تسلط مرض السكر على الرغم من صغر سنها وظلت تصلي إلى ظهر الجمعة ثم أحست بانهيار فأشهدت والدها أن عليها أداء الصلاة من عصر الجمعة فانظر إلى هذه المؤمنة التي تخرج من الدنيا وعليها صلاة يوم واحد بسبب وطأة المرض وشدة الاحتضار وقس هذه الحالة على كثير ممن يدعون الإسلام ويزعمون الانتساب إليه ثم لا يعرفون ما هي الصلاة. وانظر قبل ذلك كله إلى ذلك الرجل الصالح الذي ربي أولاده تربية إسلامية صحيحة ثم احتسبهم عند الله صابراً راضياً واذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما من مسلم تدرك له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه إلا أدخلتاه الجنة « » الجامع الصغير للسيوطي وحسنه «. وكان المترجم رضي الله عنه يشكو في سنواته الأخيرة تارة من السكر وتارة من الضغط وآونة من الأملاح وغيرها من أمراض الشيخوخة على أن ذلك لم يكن ليقعده عن التأليف ولقاء تلامذته وتعليمهم والرد على الأسئلة التي كانت تأتيه من المسلمين في مختلف البقاع وفي السنة الأخيرة من عمره شعر بضعف في بصره فأجريت له جراحة في إحدى عينيه ثم أصيب باحتباس البول ودخل مستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية- بالأجر- وغادره في آخر ربيع الآخر ولما زرته لآخر مرة وأفطرت عنده يوم الجمعة 27 من رمضان كانت تبدو عليه آثار الضعف ولكنه كان سليم الحواس حديد الذاكرة وأملى علي بعض فوائد عن مكتبة طوبقبو بالآستانة التي غادرها منذ أكثر من ثلاثين سنة وفي شوال عاوده احتباس البول فدخل المستشفى الإيطالي وغادره بعد شفائه، وقد أكد لي الأخ الشيخ عبد الله عثمان أن المترجم ظل ممتعاً بحواسه إلى آخر لحظات حياته. ولذا فإن من يزعم أنه كف قبيل موته يكذب على الله ويكذب على الأحياء من عباد الله، وفي يوم السبت السابق على وفاته شعر بأعراض الحمى فأحضر له الشيخ عبد الله عثمان وكان يلازمه في المدة الأخيرة- طبيباً قرر بعد فحصه أنه مصاب » بالأنفلونزا « وأمر له بدواء، وفي ليلة الأحد اشتدت الحرارة وزاد الضعف، وبعد ظهر يوم الأحد المذكور رأى الشيخ عبد الله أن الحالة تستدعي حضور بعض الإخوان لمعاونته على ما قد يحدث فنزل قبيل العصر ولما عاد في الساعة الخامسة إلا ثلثاً وجده انتقل إلى رحمة الله تعالى منذ خمس دقائق أي في الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة والثلاثين من بعد ظهر يوم الأحد تاسع عشرة ذي القعدة سنة 1371 إحدى وسبعين ولم يحضره إلا زوجته التي أوصاها المترجم أن تقرأ الفاتحة عند خروج روحه وقد نفذت وصيته وصلي عليه قبل ظهر الاثنين 20 منه في الجامع الأزهر وأمّ الناس الشيخ عبد الجليل عيسى شيخ كلية اللغة العربية- كان- ودفن في قرافة الإمام الشافعي في حوش صديقه الشيخ إبراهيم سليم بشارع الرضوان وهو شارع يتفرع من الشارع الرئيسي الموصل إلى البساتين ويتجه شرقاً إلى الجبل فإذا دخل فيه السائر مستدبراً شارع البساتين مستقبلا جبل المقطم وجد الحوش عن يمينه، فإذا دخله وجد حوشاً صغيراً غير مسقوف ويواجه الداخل قبر مكتوب عليه الفاتحة لروحي سنيحة ومليحة بنتي الكوري في 20 شوال سنة 1353هـ 7 رجب 1367هـ وإلى يمين الداخل دفن المترجم في قبر خاص لم تكن عليه كتابة يوم زرته بعد عصر الأربعاء 13 من ذي الحجة سنة 1371- وقد رأيت عند السيد حسام الدين القدسي لوحة من الرخام أعدت لتوضع على القبر مكتوب عليها ما يأتي: الفاتحة لروح محمد الزاهد الكوثري وهو القائل يا واقفًا بشفير اللحد معتبراً = قد صار زائر أمس اليوم قبرا فالموت حتم فلا تغفل وكن حذراً = من الفجاءة وادع للذي عبرا فالزاهد الكوثري ثاو بمرقده = مسترحمًا ضارعًا للعفو(1) منتظرا توفي في 19 » ذا « من سنة 1371 عن 75 سنة. وكان رضي الله عنه أملى علي هذا الشعر في 27 من رمضان سنة 1371 وقال إنه يود أن يكتب على قبره فأنه كان يؤذنني بأن هذا هو آخر لقاء بيننا في هذه الدنيا الفانية. وقبره قريب من قبر أبي العباس الطوسي المتكلم المشهور رضوان الله عليهما. هذا هو الرجل الذي فقده الإسلام وخسره الأحناف ورزئ فيه العلم وثكلته المروءة واستوحش لغيابه الزهد وشغر مكانه بمصر رضي الله عنه وأرضاه وأعلى في جنان الخلد منازله ومثواه. ــــــــــــــــ (1) يلاحظ أنه أملى عليّ » للصفح « بدلا من » للعفو « ــــــــــــــــ
الفصل الثاني: ذكر أهم الأحداث في حياته على ترتيبها الزمني
الفصل الثاني ذكر أهم الأحداث في حياته على ترتيبها الزمني فأولها: حادث الغرق بأقششهر . وتفصيل ذلك : أنه عقب الهدنة استقال من عمله في قسطموني وأراد العودة إلى الآستانة وكان الوقت شتاء ويستحيل السفر بالبر - لكثرة الثلوج وصعوبة السير- وليس إلا طريق البحر الأسود فسار من قسطموني إلى إينابولي وهي ميناؤها على البحر وتبعد عن قسطموني نحو مرحلة إلى الشمال . وهناك بعد أن طال انتظاره اضطر إلى ركوب باخرة صغيرة قديمة كانت تسير حيناً وتتلف آخر حتى وصل إلى ميناء أريلي . وهناك فضل تركها واستقل قاربا يقصد أقششهر وهي ميناء بلدته دوزجه وتبعد عنها نحو خمس ساعات بالعربة التي تجرها الخيل على نية أن يبقى ببلدته حتى تتيسر له سبيل العودة إلى الآستانة . وكانت مغادرة أريلي مع الفجر وقبيل العصر بدت له ولمن معه من الركاب مدينة أقششهر وبدأ اضطراب البحر واشتداد هياجه وما أن أشرفوا على الساحل عن بعد حتى انقلب بهم الزورق ولكنهم ظلوا متمسكين به ، ورآهم من كان على الشاطئ فهموا بإنزال زورق آخر ولكنهم اضطروا إلى العدول لشدة هياج البحر واضطراب أمواجه. فما كان من اثنين منهم إلا أن نزلا إلى الماء وسبحا ومعهما حبال طويلة ربطا بها الزورق وعادا لمن في البر لجذبه وأثناء الجذب اشتدت الأمواج المثلثة: وهي بأن تأتي الموجة تعقبها ثانية ثم ثالثة متتاليات. وأدى ذلك إلى أن أفلت من في البر الحبال وعاد الزورق إلى وسط البحر كما كان، كل هذا والغرقى مستمسكون بالزورق غير شاعرين بما يبذل لإنقاذهم فلما اشتدت الأمواج المثلثة أرغمتهم على إفلات الزورق وهنا بدأ الشيخ يغرق، وكان مما دار بخلده عند انقلاب الزورق أن لو كان غرق بعيداً لكان أجدى من غرقه هنا حيث يعثرون على جثته فيترتب على ذلك إزعاج والده وأهله. فلما بدأ يغرق قال لنفسه أهكذا الموت غرقا بهذه السهولة كنت أظنه أشد من ذلك ثم غاب عن وعيه- ولم يفق إلا على طنين في أذنيه ثم بدأت حواسه تعود إليه حتى أفاق . ثم ألزمه منقذوه أن يجري حتى لا يهلك مما تحمله من شدة البرد ومقاومة الأمواج ومع وجود كثير يعرفونه لم يعرفه أحد إلا بعد مدة حين تمت إفاقته وعاد الدم إلى وجهه- . وعلم بعد ذلك أن الرجلين اللذين ربطا الزورق بالحبال كانا في شبابهما ممن يعمل في البحر ثم أثريا وتركا تلك الصناعة لعمال تحت أيديهما، فلما شاهدا الحادث- واتفق عدم وجود أحد غيرهما يحسن الإنقاذ- نزلا وربطا الزورق، ولما اضطرت الأمواج المنقذين إلى إفلات الزورق عادا إلى النزول وأنقذا جميع الغرقى الذين خرجوا أحياء ولم يمت أحد منهم ولله الحمد- . ولما أراد شيخنا مكافأة الأخوين ماديا- وذلك لأن الرجلين المنقذين كانا أخوين- قيل له مهما تكافئهما فلن تؤثر مكافأتك عليهما لأنهما من الثراء بمكان عظيم، ولكن لو توسطت لدى الحكومة فشكرت لهما هذا الصنيع لكان أجدى فلما عاد إلى الآستانة وسط بعض أصدقائه لدى الصدر الأعظم فأنعم عليهما بنوط وأشير إلى ذلك لشهامتهما- . وعلم الشيخ أنهم عند إخراجه ظنوه قد مات ولكن أحد الشيوخ قال: اعملوا الواجب بأن تضربوه على رجليه وتستفرغوا الماء منه إلى آخر ما يعمل لإنقاذ الغرقى- . وما هي إلا هنيهة حتى أفاق وعاد إليه شعوره وكان معه عند الغرق مجموعة من أنفس المخطوطات- بلغ الحرص به عليها- أن نقلها معه من الآستانة إلى قسطموني- ولم يرد تركها هناك فحملها معه حيث غرقت فيما غرق من متاعه- وكان بينها مخطوط- كان من ضمن ما فيه أن كاتبه ذكر أنه رأى » الأمالي « لأبي يوسف القاضي الصاحب المتوفى سنة 182 في قمطر » دولاب « خاص وأن الكتاب المذكور في ثلثمائة مجلد. وكان هذا الحادث في سنة 1337. وكانت المخطوطات سالفة الذكر، منها ما هو من مخطوطات القرن السادس، ومنها ما هو من القرن السابع أي أنها كانت من عيون الذخائر، أما المخطوط الذي ذكر الأمالي فقد كان مخطوطًا بعد الألف، وليس له تاريخ ولا اسم مؤلف ولكن الشيخ يرجح أن مؤلفه هو العلامة » نوح القونوي « محشي درر الحكام شرح غرر الأحكام المتوفى سنة 1070- والمدفون بمصر قرب قبر عقبة بن عامر- وكانت الكتابة مبتدئة في كل صفحة من الزواية ثم تسير في أسطر مائلة حتى تنتهي في الزاوية المقابلة، وكان هذا المخطوط يحتوي على مجموعة رسائل نادرة من ضمنها رسالة لابن حجر الهيثمي الشافعي المتوفى سنة 974 في مناقب أبي حنيفة غير » الخيرات الحسان « وكان فيه أيضاً رسالة جاء بها أن مؤلفها رأى في مخطوط قديم رواية عن أبي عاصم العامري القاضي أن الأمالي بالوصف السابق ذكره- ولأبي عاصم هذا » المبسوط « في الفقه الحنفي في ثلاثين مجلداً وذكر عبد القادر القرشي المتوفى سنة 775 أنه موجود بمكتبة نور الدين الشهيد بالشام- وكان هذا المخطوط مما اشتراه شيخنا من تركة شيخه محمد خالص الشرواني المتوفى سنة 1331- . ومما غرق أيضاً يومئذ كتاب عقيدة الطحاوي المتوفى سنة 321 بخط ابن العديم صاحب تاريخ حلب المتوفى سنة 660 وعليه سماعات وغير ذلك من الذخائر والنفائس- . ولما أنقذ الشيخ لجأ إلى دوزجه ليستجم به بضعة أيام وفي أثناء ذلك وردت له برقية من الآستانة بتعيينه في دار الشفقة الإسلامية فتوجه إلى الآستانة كما مر ذكره في الفصل الأول. وثانيها: عزله المشرف من منصب وكالة الدرس . ويحسن أن نذكر معنى الكلمة وسببها وذلك أن السلطان بايزيد (1) الثاني بنى مدرسة وأمر بأن يدرس فيها شيخ الإسلام ومع تطوارت الزمن عين مشايخ للإسلام يجيدون السياسة أكثر من العلم فكانوا ينيبون عنهم وكيلا لأداء هذا الدرس عرف باسم وكيل الدرس أو » درس وكيلي « كما يقول الترك ثم انتهى الأمر بأن أصبح لشيخ الإسلام ثلاثة وكلاء أحدهم للفتوى ويسمونه » فتوى أميني « أي أمين الفتوى، والثاني: له الإشراف على العلم والعلماء والمدارس، وهو وكيل الدرس ووظيفته تقابل منصب شيخ الأزهر بمصر- والثالث: رئيس التحقيقات الشرعية، ووظيفته ضبط أعلام القضاء والإشراف على الشئون القضائية- أما تعيين القضاة وعزلهم فكان بأمر السلطان بناء على اقتراح شيخ الإسلام وتقرير مجلس القضاء. وكان سبب عزل الأستاذ عن منصب وكيل الدرس أن لجنة مساعدة منكوبي الحرائق بالآستانة أرادت هدم مدرسة أنشأها السلطان مصطفى الثالث المتوفى سنة 1187 والمشهور باسم لاله لي- لتبني عليها داراً لإسعاف المنكوبين تكون بمثابة مأوي لهم وكانت اللجنة برياسة شرف السلطان محمد وحيد الدين (2) السادس ورياسة توفيق باشا فعارض الأستاذ في هدمها وطلب من شيخ الإسلام (3) أن يعارض فلم يعمل شيئًا . فما كان من الأستاذ إلا أن رفع دعوى لدى المحكمة لمنع هدم المدرسة لأنها مستكملة شرائطها ولا يجوز هدمها إلا بحكم ووكل عنه محاميين ورفعها أمام أحد القضاة المطربشين » أي لابسي الطربوش « لعدم ثقته بالمعممين وأثناء سير الدعوى ولى توفيق باشا منصب الصدر الأعظم وحاولوا ثني الأستاذ عن عزمه فلم يفلحوا فاحتجوا بأن صاحب الحق في رفع الدعوى هو شيخ الإسلام فأخرج لهم الأستاذ نصًّا بأن المدارس تابعة لوكيل الدرس فلم يروا بدًّا من عزله وتعيين سواه على أنه بقي عضواً في مجلس وكالة الدرس الذي كان رئيسه كما مر ذكره. فلم يسكت بل ذهب لمن خلفه وقال له إن تسكت فبها ونعمت وإن لم تسكت وتنازلت عن الدعوى بعزل المحاميين فثق بأني مهاجمك فقال له: أنا أسكت والدعوى تأخذ سيرها . ثم انقلبت الأمور ودخل الكماليون الآستانة وقبيل دخولهم غادرها الأستاذ وهدمت المدرسة بعد ذلك فعلا وبنى مكانها بناء سلم لإدارة الهلال الأحمر . وهذه الدار الآن (4) هي مركز الكفر والإلحاد والعياذ بالله بينما كانت المدرسة المهدومة مسكنًا للطلبة الذين حصلوا على إجازات علمية وأصبحوا علماء، ولكن لم يتزوجوا فكان يسكنها كل صالح . وكان لشيخنا صديق من حاشية السلطان وحيد الدين وكان ذلك الصديق صالحًا ومتألمًا لهدم المدرسة، فقال له الشيخ أخبر السلطان أن السلطان مصطفى لاله لي وإن عرف عنه أنه كان مجنونًا إلا أنه هذه المدرسة المباركة وفي زمنه احترق جامع الفاتح فجدد بناءه ووقف عليه خيرات جمة وله عدة أوقاف وصدقات جارية بالآستانة فهدم هذه المدرسة المباركة يكون مشئوما خصوصا وقد بلغني أن السلطان قال هذا عمل جدي ولابد قبل هدمه من بناء سواه. والآن أقف برهة أسائل فيها نفسي كم من علماء الإسلام يستطيع- في سبيل ما يعتقده حقا- أن يقف في وجه من بيده أدنى سلطان فضلا عن الوقوف في وجه » جلالة « السلطان. أظن أن العدد يكون قليلا جدًّا- والكوثري كان من هذا القليل النادر. وكان مرتب منصب وكيل الدرس خمسة وسبعين جنيها عثمانيا ذهبًا في كل شهر وهو مبلغ طائل في تلك ال
دعاني إلى جلاء هذه النقطة ما نسب إلى الشيخ من التعصب، والتعصب لا يعدو أن تكون غايته الاستمساك باليقين والذب عن الدين. فهذا: فرض لازم على كل مسلم لدينه وعقيدته . أو أن يكون تعصبًا مذمومًا للهوى ونزغ الشيطان، وهذا ما عصم الله تعالى أستاذنا منه. وكتبه وتآليفه شاهدة جميعها بأن تعصبه كان الله ورسوله- ونعم التعصب هذا - فإن أبا حنيفة وأتباعه لم يخرجوا عن كونهم من الأمة ومن خير من دافعوا عن الدين الإسلامي- ورمى المترجم بالتعصب من خصومه مردود بأن مذمة الخصم معللة وتجريحه محجوج لخصومته وبغضه- والحالة الوحيدة التي قد يرتكز عليها بعض ذوى الهوى هي أن أحد تلامذته أشار إلى ذلك في بعض مطبوعاته ولكن حتى هذه الحجة منهارة فإن ذلك التلميذ حرص بعد ذلك على التودد إلى المترجم والإفادة من علمه والتفاخر بالانتساب إليه إلى يومنا هذا مما يدل على اعتذاره مما قال والفعل يجب القول؛ والآخر ينسخ الأول؛ والحسنة تمحو السيئة. وقد يقول متورع- وما أكثرهم حين لا يلزمون وأقلهم إذا ادلهم الخطب- قد يقول هذه المتورع المتزهد: أفلا نمسك عن قوم مضوا ولعل لهذا السم المعسول بعض الوجه إذا كان أذى المؤذي مات بموته ولكن الطاعنين على أبي حنيفة لا تزال كتبهم موجودة على توالي القرون بل زاد انتشارها بطبعها وقد تجد من يميل إلى زيفها فالرد عليها كفيل بقمع المفسد المتهور ونفع التائه المتحير- والغضب لله لا يكون تعصبًا . فإن رؤى بعد هذا أنه كذلك فنعم التعصب هذا. لأن السفيه إن لم يغلظ في القول لا ينفك مصراً على سفاهته ولا يفتأ سادراً في حماقته. وأي ورع يكون في الإمساك عمن يقول إن أمام ثلثي الأمة فتان هذه الأمة وإن جنازته ترى في النوم عليها ثوب أسود وحولها قسيسون (1)-! أو أن يلبس جلد كلب ويتوضأ بنبيذ ويقول إن هذه هي صلاة الأحناف (2).! وأي ورع يكون فيمن يقف ملجم اللسان من أجل سواد عيني الخطيب البغدادي (3)!. أو إمام الحرمين (4). اللذين لم يتورعا عن ذكر هذه المثالب القذرة التي لا تليق روايتها بحق عوام الناس وفساقهم فكيف بالإمام الجليل الذي تواضع الناس على إجلاله واتباعه جيلا بعد جيل!. ويُعذَرُ مضطرٌ إِذا ضَاقَ ذَرْعُهُ = فجرَّدَ صَمْصَامًا به يَتَذَرَّعُ فإِنَّ الذي تَعيا بِه من حَماقةٍ = سَتُقْنِعه حَتْمًا إِذا تَتَدرَّعَ __________________________ (1) انظر ص 453-454 من الجزء الثالث عشر من تاريخ بغداد طبع مطبعة السعادة بمصر سنة 1349. (2) انظر ص 56و68 من كتاب مغيث الخلق لإمام الحرمين المطبعة المصرية بمصر سنة 1352. (3) هو أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الشهير بالخطيب البغدادي توفي في بغداد سنة 463 وله تاريخ بغداد طبع بمصر في أربعة عشر مجلداً وقع في الجزء الثالث عشر منه وقيعة بذئية في إمامنا أبي حنيفة رضي الله عنه. (4) هو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني المعروف بإمام الحرمين له كتاب مغيث الخلق في ترجيح القول الحق جرح فيه مذهب الأحناف تجريحا كاذبا سخيفا.
كان الكوثري في زهده مثلاً حيًّا لاسمه زاهد. وكان في عفافه مترفعا عن الدنيا وعن أهلها إلى حد قد لا يتصور- ولا أستسيغ أن أذكر هنا بعض ما أعرف من نوادر عفافه لأنه كان يستحي من ذكرها ويتأذى من الكلام عن عسره- ولذا يكفيني والله سبحانه وتعالى يعلم صدقي أن أقول إن المترجم كان على قلة ذات يده أعف من رأيت- وإذا كان التعفف عن الدنيا في هذا الزمان أضحى متعسراً على الميسورين مستحيلا في حق المملقين فإن الله سبحانه وتعالى أراد خرق هذه الاستحالة فأوجد لنا معسراً عفيفا- هو الزاهد الكوثري. ومن فضائله الجمة عزوفه التام عن المماكسة : وقد كتب لي السيد حسام الدين القدسي يقول ضمن كتابه عن الأستاذ لما لقيه عند قدومه لدمشق أول مرة- في دار الكتب الظاهرية » وعاشرته فرأيت من خلقه أنه لا يساوم بائعًا ولكن إذا تحقق من غشه تركه ولم يعامله. وأخبرني الشيخ عبد الله الحمصي أنه كان في مستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية يعطي ثلاثة من الممرضين ثلاثين قرشا يوميا ويعطي اثنين يساعدانه في الحمام للغسل كل أسبوع مائة قرش لمرة واحدة يغتسل فيها في الأسبوع ويساعدانه على تنظيف جسمه. ويقول للشيخ عبد الله جرت عادة بعض المنتمين إلى سلك المشايخ أو العلماء على التقتير والشح والمساومة و. . . فيجب أن نقتلع من رؤوس الناس هذه الفكرة عنهم ا.هـ «. قلت: وأزيد على ما مر ذكره ما يأتي: 1- منية الألمعي فيما فات من تخريج أحاديث الهداية للزيلعي للحافظ ابن قطلوبغا، قدم له وحققه ونشر مذيلا بتعليقات الحافظ قاسم ابن قطلوبغا على النصف الثاني من الدراية مطبعة السعادة بمصر سنة 1369. 2- إيضاح الكلام فيما جرى للعز بن عبد السلام في مسألة الكلام بقلم ولده الشيخ محمد عبد اللطيف طبعه الأستاذ من نسخته بمطبعة الأنوار سنة 1370 وصححه وعلق بأوله تعليقة. 3- الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء علق لغاية ص 88 والكتاب طبع سنة 1350 في 190 صفحة بما في ذلك مقدمة الناشر والفهارس. وهناك أشياء من هذا القبيل أخفى الأستاذ فيها نفسه أذكر منها الآتي: 1- تعليقاته النفسية على تاريخ القواقاز الذي طبع تعريبه بمطبعة عيسى الحلبي سنة 1940م. وذكرت منسوبة إلى عالم جركسي جليل. 2- مذكرات الأمير محمد علي توفيق عربها وطبع التعريب في مطبعة عناني سنة 1366 في 57 صفحة ولم يذكر فيها اسمه. 3- بيان الخطوط الجميلة المحفوظة في المتحف الذي أنشأه الأمير محمد علي في سراي منيل الروضة المطبوع بمطبعة مصر سنة 1370 في 32 صفحة. 4- بعض وثائق تاريخية من عهد ساكني الجنان إسماعيل باشا وتوفيق باشا انتقاها وأمر بترجمتها الأمير محمد علي وطبعت بمطبعة عناني سنة1367 في 93 صفحة غير التصويب وذكر بأولها أنها ترجمة الأستاذ رضي الله عنه وكان الإفصاح باسمه هنا مخالفًا لما سبق. وإني أشكر مزيد الشكر كل من يتفضل فيرشدني إلى ما أكون غفلت عنه من مؤلفاته خاصة ومن تقدماته وتعاليقه عامه. وقد عثر في أوراق المترجم رضي الله عنه على رسالة بخطه في 16 صفحة اسمها »المنتقى المفيد « فيها أشياء من » العقد الفريد في علو الأسانيد « تأليف العلامة سيدي الشيخ أحمد بن سليمان الأروادي المتوفى سنة 1275 فرغ منها المترجم في خامس جمادى الثاني سنة 1354، وهي مخطوطة بخطه كما ذكر. كما عثر على نسخة من » حنين المتفجع « طبع قسطموني سنة 1337 وقد مر ذكرها ويأتي ذكر بعض أبياتها في الفصل السابع الخاص بذكر شعره ونثره بمشيئة الله تعالى. وعلى قدر ما بذلته من جهد لحصر مؤلفات أستاذنا رضي الله عنه وتعاليقه وتقدماته فإني أستشعر أن منها ما فاتني مضطراً . وقد نبهني السيد حسام الدين القدسي إلى أن الترجمة الموجودة في صدر الجزء الأول من فتاوى السبكي الذي طبعه سنة 1356 والواقعة في ص13-15 هي من صنع الأستاذ رضي الله عنه ولكنه لم يرد أن تذكر باسمه لصغرها وقلة الجهد المبذول فيها ولخلو الكتاب المطبوع من أي مجهود للأستاذ رضي الله عنه ومن يطالع هذه الترجمة ولاسيما في أواخر ص 14 يستشف منها روح الكوثري ومقدرته وعلمه وسعة أفقه . وأخيراً أرجو قبول عذري في ما فاتني وتكرار شكري لمن ينبهني إليه.
مقالاته للمترجم رضي الله عنه مقالات كثيرة في فنون متشبعة وفي كل مقالة منها من الدروس ما يفيد جماعة وقد كان ينشر في معظم المجلات التي تتمشى مع نواحي مقالاته على أنه اختص مجلة الإسلام ثم الشرق العربي بمعظم ما نشر. وقد حرص بعض فضلاء تلاميذه على جمع مقالاته ونشرها في مجلد مستقل رأوا أن تكون الترجمة في صدره والله المستعان . وختاما أحب أن أسجل أن للمترجم عدة رسائل علمية وهذه لا يسهل جمعها لأنها منتشرة في بقاع الأرض حيث كان يرسلها رداً إلى من يسألونه ولا أدري إذا كان احتفظ بصورها في أوراقه. أما مراسلاته الخاصة معي فمحفوظة بفضل الله ويأتي الكلام عليها في الفصل التالي إن شاء الله. ويحسن التنويه بأن للأستاذ ترجمة نفيسة للسيد عزت العطار في صدر تأنيب الخطيب وأخرى للأستاذ السراوي في أول الطبقات الكبرى لابن سعد طبع مصر. وقد كتب لي السيد عزت العطار بأن آخر ما كتبه شيخنا بخطه الكريم من تقدمة كتاب جذوة المقتبس الذي طبعه السيد عزت ونشره. هذه هي صفحة فخار من سجل حياة مجيدة لرجل عاش يرغب عن دنياه ويرجو من الله أخراه . رجل نقاه الله تعالى من الخطايا كما نقي الثوب الأبيض من الدنس. والله المسئول أن يغسله بالماء والثلج والبرد وأن يكرم نزله بمنه وفضله. انتهى............................................
الشريف على محمود محمد على
|
|