موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 2 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: (بعض فوائد قوله تعالى: ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ)
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين إبريل 16, 2018 1:13 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2011 10:41 am
مشاركات: 2778
(بعض فوائد قوله تعالى:
( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء 1] .


الكلام على هذه الآية من وجوه:

الأول: في سبب نزولها
:
قال الإمام العالم العلامة أبو حيّان أثير الدين محمد بن يوسف الغرناطي- بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وبالطاء المهملة- في تفسيره المسمى بالنهر: «سبب نزولها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الإسراء به كذّبوه، فأنزلها الله تعالى» .


الثاني: في وجه اتصال هذه السورة بما قبلها:
قال الإمام فخر الدين الرازي، والبرهان النسفي: «وجه الاتصال بما قبلها أن في تلك السورة ذكر الخليل صلى الله عليه وسلم وذكر أوصافه الشريفة، وتشريعاته العليّة من الحضرة الأزلية، والأمر باتباع ملّة الحنيفية، والإقتداء به في العقائد الدينية، وفي هذه السورة ذكر من اتّبع ملّته بالصدق، وأقام سنّته على الحق، وفي آخر تلك السورة أمر نبينا صلى الله عليه وسلم: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل 125] . وأمره بعد ذلك بالصّبر فقال: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل 127] والصّبر هو التحمل للمكاره، والتّحمل من جملة ما يؤدّي إلى التّجمل، ومنه ما ذكر في أول هذه السورة.


النّهر: لما أمره الله تعالى بالصبر، ونهاه عن الحزن عليهم، وأن يضيق صدره من مكرهم، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسّخر والشّعر وغير ذلك مما رموه به، فأعقب الله تعالى ذلك بشرفه وفضله واحتفائه به وعلو منزلته عنده.


الشيخ رحمه الله تعالى في مناسباته: «هذه السورة والأربعة بعدها من قديم ما نزل، روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال في سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: هنّ من العتاق الأول وهنّ من تلادي» .
التّلاد- بكسر المثناة الفوقية وتخفيف اللام أي مما حفظ قديما، وهذا وجه في ترتيبها، وهو اشتراكها في قدم النزول وكونها مكيّات، وكلها مشتملة على القصص.
وظهر لي في وجه اتصالها بسورة النحل أنه سبحانه وتعالى لما قال في آخرها: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل 124] . فسّر في هذه السورة شريعة أهل السبت وشأنهم، فذكر فيها جميع ما شرع لهم في التوراة.
كما روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل» . وذكر عصيانهم وفسادهم وتخريب مسجدهم، ثم ذكر استفزازهم النبي صلى الله عليه وسلم وإرادتهم إخراجه من المدينة وسؤالهم إياه عن الروح. ثم ختم السورة بآيات موسى التسع، وخطابه مع فرعون. وأخبر أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض فأهلك. وأرّث بني إسرائيل الأرض من بعدهم. وفي ذلك تعريض بهم أنهم كما استفزوا النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فسيخرجون منها ويرثها هو وأصحابه كنظير ما وقع لهم مع فرعون لما استفزهم. وقد وقع ذلك أيضا. ولما كانت السورة مصدّرة بتخريب المسجد الأقصى افتتحت بذكر إسراء سيدنا محمد المصطفى إليه، تشريفا لحلول ركابه الشريف وجبرا لما وقع من تخريبه. انتهى.


الثالث: في حكمة استفتاحها بالتسبيح:
ابن الجوزي في زاد المسير: الحكمة في الإتيان به هنا وجهان: أحدهما: أن العرب تسبّح عند الأمر العجيب، فكأن الله تعالى عجّب خلقه بما أسدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإسراء به.
الثاني: أن يكون خرج مخرج الرد عليهم، لأنه صلى الله عليه وسلم لما حدّثهم عن الإسراء به كذّبوه، فيكون المعنى تنزّه الله تعالى أن يتّخذ رسولا كذّابا.


القاضي تاج الدين السبكي في تذكرته سأل الإمام: ما الحكمة في افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح والكهف بالتحميد؟ وأجاب بأن التسبيح حيث جاء قدّم على التحميد نحو:
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر 3] سبحان الله والحمد لله.


وأجاب ابن الزّملكاني- بفتح الزاي واللام-: أن سورة سبحان لما اشتملت على الإسراء وكذّب المشركون به النبي صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه تكذيب لله تعالى، أتي «بسبحان» لتنزيه الله عز وجل عما ينسب إليه من الكذب، وسورة الكهف لما نزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف وتأخير الوحي نزلت مبيّنة أن الله تعالى لم يقطع نعمته على نبيّه ولا على المؤمنين، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة.


الرابع: في الكلام على سبحان الله:
محمود الكرماني في «برهانه» : «كلمة استأثر الله تعالى بها، فبدأ بالمصدر في بني إسرائيل ثم بالماضي في الصّفّ والحشر لأنه أسبق، ثم بالمضارع في الجمعة والتغابن، ثم بالأمر في الأعلى استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها» ، انتهى.
وقوله: «فبدأ بالمصدر» أي بالاسم الموضوع موضع المصدر.

وروى الحاكم أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى «سبحان الله» ، فقال: «تنزيه الله من كل سوء» .

وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله تعالى عنهما، قال: «سبحان الله، اسم يعظّم الله تعالى به نفسه ويتحاشى به عن السوء» .


الماوردي رحمه الله تعالى: «هو ذكر يعظّم الله تعالى به لا يصلح إلا له» .
وأما ما ذكره في قول الشاعر.
«سبحان من علقمة الفاخر» .
فعلى سبيل الشذوذ.


صاحب النّظم: «السبّح- في اللغة- التباعد، يدل عليه قوله تعالى: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا) [المزمل 7] ، أي تباعدا طويلا. فمعنى سبح الله تعالى بعده عما لا ينبغي.


وللتسبيح معان أخر ذكرتها في كتاب: القول الجامع الوجيز الخادم للقرآن العزيز.


الإمام موفق الدين بن يعيش رحمه الله تعالى في شرح المفصّل: «اعلم أنهم قد علّقوا الأعلام على المعاني فأطلقوها على الأعيان، فمن ذلك قولهم: سبحان، وهو عندنا علم واقع على معنى التسبيح، وهو مصدر معناه البراءة والتنزيه وليس منه فعل، وإنما هو واقع التسبيح الذي هو المصدر في الحقيقة، جعل علما على هذا المعنى فهو معرفة لذلك، ولا ينصرف للتعريف وزيادة الألف والنون. وأما قول الشاعر: «سبحانه ثم سبحانا يعود له» ، ففي تنوينه وجهان: أن يكون ضرورة، والثاني: أن يكون أراد الفكرة» .


الضياء بن العلج رحمه الله، في البسيط: «لفظ المصدر لأنه مصدر سبّح إذا قال:
سبحان الله، ومدلول سبحان التنزيه لا اللفظ» .
قلنا: التسبيح بمعنى التنزيه أيضا لأن معنى سبّحت نزّهت الله تعالى، فتطابقا حينئذ على معنى التنزيه، فصحَّ تعليق سبحان على التسبيح، واستعماله علما قليل، وأكثر استعماله مضافا اما إلى فاعله أو إلى مفعوله. فإذا أضيف فليس بعلم لأن الأعلام لا تضاف.
قال: وقيل «سبحان» في البيت مضاف حذف المضاف إليه للعلم به وليس بعلم» .


أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله تعالى في أماليه: «الدليل على أن سبحان علم للتسبيح قول الشاعر:
قد قلت لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
ولولا أنه علم لوجب صرفه لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية» .


الشهاب السمين رحمه الله تعالى في إعرابه: «قيل هو مصدر لأنه سمع له فعل ثلاثي، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة. وقد يفرد، وإذا أفرد منع من الصرف للتعريف، وزيادة الألف والنون كما في البيت السابق. وقد جاء منوّنا كقوله:
سبحانه ثمّ سبحانا يعود له ... وقبلنا سبّح الجودي والجمد
فقيل ضرورة وقيل هو بمنزلة قبل وبعد، إن نوى تعريفه بقي على حاله، وإن نكّر أعرب، منصرفا. وهذا البيت يساعد على كونه مصدرا لا اسم مصدر لوروده منصرفا. ولقائل القول الأول أن يجيب عنه بأن هذا نكرة لا معرفة. وهو من الأسماء اللازمة النصب على المصدرية فلا تنصرف. والناصب له فعل مقدّر لا يجوز إظهاره» .


أبو شامة رحمه الله: «حيث جاء منصوبا نصب المفعول المطلق اللازم إضمار فعله، وفعله إما فعل أمر أو خبر. وهو في هذه السورة محتمل للأمرين أي سبّحوا الذي أسرى بعبده أو سبّح الذي أسرى بعبده، على أن يكون ابتداء ثناء الله تعالى علي نفسه كقول (الحمد لله رب العالمين) » .


القرطبي رحمه الله تعالى: «العامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه لا من لفظه إذ لم يجيء من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصّمّاء. فالتقدير عنده أنزّه الله تعالى تنزيها، فوقع «سبحان الله» مكان قولك تنزيها» . انتهى.


الزمخشري رحمه الله تعالى: «سبحان علم للتسبيح كعثمان لرجل وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره، تقديره أسبّح الله سبحان. ثم نزل منزلة الفعل فسدّ مسدّه ودلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله» .


الطيبي رحمه الله تعالى: «وذلك في جلب هذا المصدر في أصل هذا التركيب للتوكيد، وهو أسبّح تسبيحا ثم أسبح سبحان، ثم في حذف العامل وإقامته مقامه للدلالة على أن المقصود بالذات هو المصدر، والفعل تابع، فيفيد الإخبار بسرعة وجود التنزيه» .
وروى عن الكسائي أنه جعل منادى تقديره يا سبحانك، وأباه الجمهور.


السفاقسي والسمين: «وردّ بأنه لم يسمع دخول حرف النداء عليه، وزعم بعضهم أن لفظه لفظ التثنية ومعناه كذلك كلبّيك. وهو غريب. ويلزمه أن يكون مفرده سبحا وألا يكون منصوبا بل مرفوعا، وأن نونه لم تسقط بالإضافة وأن فتحها يلزم» .

ومن الغرائب أيضا ما حكاه الماوردي عن أبان بن تغلب- بالمثناة الفوقية والغين المعجمة- أن سبحان كلمة أصلها بالنبطية «شبهانك» فعرّبت «سبحانك» . والذي أضيف إلى سبحان مفعول به لأنه المسبّح، ويجوز أن يكون فاعلا لأن المعنى تنزه الذي أسرى بعبده.



الخامس: في الكلام على «أسرى»:
البرهان النسفي: قال أهل اللغة: أسرى وسرى لغتان. زاد غيره: يختصان بسير الليل.

السمين: فيكون سرى وأسرى كسقى وأسقى. والهمزة هنا ليست للتعدية، خلافا لابن عطية، وإنما المعدّى الباء في «بعبده» . وتقدم في البقرة أنها لا تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول عند الجمهور، خلافا للمبرد. وبسط الكلام على ذلك هنا وفي البقرة.


السفاقسي: الباء للتعدية وترادف الهمزة عند الجمهور خلافا للمبرد والسهيلي في أنها تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في الفعل بخلاف الهمزة حتى قال السهيلي: إذ قلت قعدت به فلا بد من مشاركة ولو باليد. وردّ عليهما بالآية: (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة 17] لأن الله لا يوصف بالذهاب مع النور. وردّ عليهما أيضا بقول الشاعر:
ديار الّتي كانت ونحن على منى ... تحلّ بنا لولا نجاء الرّكائب
أي تحلنا فالباء هنا للتعدية، ولم تقتض المشاركة لأن الديار لم تكن حراما فتصير حلالا، ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال أذهبت بزيد.
وجزم ابن دحية- بفتح الدال وكسرها- وابن المنير، بما قاله المبرّد فقالا: «يؤخذ من قوله: «أسرى بعبده» ما لا يؤخذ إن قيل: بعث إلى عبده، لأن الباء تفيد المصاحبة، أي صحبه في مسراه بالإلطاف والعناية والإسعاف» . زاد ابن دحية: «ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أنت الصاحب في السفر» .
ويؤخذ من ذلك أن من قال: لله علي إن أحجّ بفلان، يلزمه الحجّ معه، بخلاف ما لو قال: لله علي إن أحجّ فلانا، فإنه يلزمه أن يجهّزه للحج من ماله. والفرق بين الصورتين ما تعطيه الباء من المصاحبة» . انتهى. وتقدم ردّ ذلك.


الحافظ: «أسرى مأخوذ من السّرى وهو سير الليل، فقول العرب أسرى وسرى إذا سار ليلا، هذا قول الأكثر» .

وقال الحوفي: أسرى سار ليلا، وسرى سار نهارا» .

قال الحافظ في موضع آخر: «وقيل أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره» وهذا أقرب. ولم يختلف القراء في أسرى، بخلاف قوله تعالى في قصة لوط: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) [هود 81] . فقرئت بالوصل والقطع، وفيه تعقيب على من قال من أهل اللغة: أن أسرى وسرى بمعنى.


قال السهيلي: «السّرى من سريت إذا سرت ليلا، يعني فهو لازم. والإسراء يتعدى في المعنى، لكن حذف مفعوله حتى ظنّ من ظنّ أنهما بمعنى واحد، وإنما معنى «أسرى بعبده» ، جعل البراق يسري به، كما تقول: أمضيت كذا أي جعلته يمضي، لكن حذف المفعول لقوة الدلالة عليه، والاستغناء عن ذكره، إذ المقصود بالذكر المصطفي لا الدابة التي سارت به.
وأما قصة لوط فالمعنى: سر بهم على ما يتحملون عليه من دابة ونحوها، هذا معنى قراءة القطع. ومعنى الوصل: سر بهم ليلا، ولم يأت مثل ذلك في الإسراء، إلا أنه لا يجوز أن يقال:
«سرى بعبده» بوجه من الوجوه» .


قال الحافظ والنسفي: «الذي جزم به هو من هذه الحيثية التي قصر فيها الإشارة إلى أنه سار ليلا على البراق. والآن لو قال قائل: سرت بزيد بمعنى صاحبته لكان المعنى صحيحا.



السادس: في الكلام على العبد:
أجمع المسلمون على أن المراد بالعبد هنا سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لغة المملوك من نوع من يعقل.

قال في المحكم: «العبد الإنسان حرّا كان أو رقيقا، لأنه مملوك لبارئه» .

وقال غيره: «إنه مشتق من التعبد وهو التذلل» .

قال ابن الأنباري: «العبد الخاضع لله من قولهم: طريق معبّد إذا كان قد وطئها الناس» .

وللإمام جمال الدين بن مالك بيتان في جموع عبد، وذيّل الشيخ رحمه الله عليهما بمثلهما ووطّأ قبلهما ببيت، فقال:
جموع لعبد لابن مالك نظمها ... وزدت عليها مثلها فاستفد وجد
عباد عبيد جمع عبد وأعبد ... أعابد معبودا معبّدة عبد
كذلك عبدان وعبدان أثبتا ... كذاك العبدّى وامدد إن شئت أن تمد
وقد زيد أعباد عبود عبدّة ... وخفّف بفتح والعبدّان إن تشد
وأعبدة عبدون ثمّت بعدها ... عبيدون معبودا بقصر فخذ تسد


الإسنوي رحمه الله تعالى: «قال سيبويه: العبد في الأصل صفة، ولكنه استعمل استعمال الأسماء» .


الشيخ زكريا رحمه الله تعالى في فتح الرحمن «قال تعالى: «بعبده» دون نبيه أو حبيبه لئلا تضل أمته أو لأن وصفه بالعبودية المضافة إلى الله تعالى أشرف المقامات» .


الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى: «ليس للمؤمن صفة أتمّ ولا أشرف من العبودية، ولهذا أطلقها الله تعالى علي نبيه في أشرف المواطن، كقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء 1] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف 1] ، (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم 10] ، (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان 1] .


الشيخ عبد الباسط البلقيني رحمه الله: «ومن هنا يؤخذ الجواب عن وصفه صلى الله عليه وسلّم بذلك ووصف يحيى عليه السلام بالسيادة في قوله تعالى: (وَسَيِّداً، وَحَصُوراً) [آل عمران 39] .


الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله: «في معناه أنشدوا:
يا قوم قلبي عند زهراء ... يعرفه السّامع والرّائي
لا تدعني إلّا بيا عبدها ... فإنّه أشرف أسمائي»


العوفي رحمه الله: «والسبب في ذلك أن الإلهية والسيادة والربوبية إنما هي في الحقيقة لله عز وجل لا غير. والعبودية في الحقيقة لمن دونه. فإذا كان في مقام العبودية فهو في رتبته الحقيقية، والرتبة الحقيقة أشرف المراتب إذ ليس بعد الحقيقة إلا المجاز، ولا بعد الحق إلا الضلال» .


البرهان النسفي رحمه الله: «قيل لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعراج، أوحى الله تعالى إليه: يا محمد أشرفك؟. قال: يا رب تنسبني إلى نفسك بالعبودية، فانزل الله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ الآية.


وأقوال القوم في العبد والعبودية كثيرة، والألفاظ مختلفة معانيها، وكل أحد يتكلم بلسان حاله على قدر مقامه، فقال أبو حفص النيسابوري رحمه الله: «العبد هو القائم إلى أوامر سيده على حدّ النشاط حيث جعله محل أمره» .


ابن عطاء رحمه الله: «العبد الذي لا ملك له» .


الجريري- بفتح الجيم-: «حقيقة العبد هو الذي يتخلّق بأخلاق ربّه» .


رويم رحمه الله تعالى: «يتحقق العبد بالعبودية إذا أسلم القياد من نفسه وتبرّأ من حوله وقوته، وعلم أن الكل له وبه» .


عبد الله بن محمد رحمه الله: «حزت صفة العبودية إن كنت لا ترى لنفسك ملكا، وتعلم أنك لا تملك لها نفعا ولا ضرا.


ورحم الله من قال:
وكنت قديما أطلب الوصل منهم ... فلمّا أتاني الحلم وارتفع الجهل
تيقّنت أنّ العبد لا مطلب له ... فإن قرّبوا فضل وإن أبعدوا عدل
وإن أظهروا لم يظهروا غير وصفهم ... وإن ستروا فالسّتر من أجلهم يحلو


الإمام الرازي رحمه الله، دل قوله بعبده على إن الإسراء كان بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن العبد اسم للجسد والروح، قال تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى، عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق: 9، 10] .



السابع: في الكلام على قوله تعالى: «ليلا».
الحافظ رحمه الله تعالى: «ليلا ظرف للإسراء وهو للتأكيد، وفائدته رفع توهم المجاز، لأنه قد يطلق على سير النهار أيضا، ويقال بل هو إشارة إلى أن ذلك وقع في بعض الليل لا في جميعه، والعرب تقول: سرى فلان ليلا إذا سار بعضه، وسرى في ليلة إذا سار في جميعها. ولا يقال أسرى ليلا إلا إذا وقع سيره في أثناء الليل، وإذا وقع في أوله يقال أدلج، ومن هذا قوله تعالى في قصة موسى وبنى إسرائيل: (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا) [الدخان: 23] ، أي من وسط الليل» .


أبو شامة رحمه الله تعالى: إنما نسب السّرى إلى الليل لما كان السّرى واقعا فيه كقوله تعالى: (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس: 67] ، أي يبصر فيه، فهو من باب قوله: «ليل نائم وساهر، أي يحصل فيه النوم والسّهر، وهذا باب من أبواب المجاز معروف» .

واستشكل كثير من الناس كون «ليلا» ظرفا للإسراء. ووجه الإشكال أنه قد تقدم أن الإسراء هو سير الليل، فإذا أطلق الإسراء فهم أنه واقع ليلا، فهو كالصّبوح في شرب الصباح، لا يحتاج إلى قوله: شربت الصّبوح صباحا.
وجوابه أن الأمر وإن كان كذلك إلا أن العرب تفعل مثل ذلك في بعض الأوقات إذا أرادت تأكيد الأمور. والتأكيد نوع من أنواع كلامهم وأسلوب منه. والعرب تقول: أخذ بيده، وقال بلسانه. وفي القرآن العزيز: (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام: 38] ، (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران: 167] ، (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل: 26] ، وقال جرير:
سرى نحوها ليلا كأنّ نجومه ... قناديل فيهنّ الذّبال المفتّل
الذّبال: جمع ذبالة- بضم الذال المعجمة وهي الفتيلة.


الجوهري: «وإنما قال ليلا، وإن كان السّرى لا يكون إلا بالليل للتأكيد، كقولهم: سرت أمس نهارا والبارحة ليلا.


الزمخشري: فإن قلت الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل؟ قلت: أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه وقع السّرى في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة «من الليل» أي بعض الليل كقوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء: 79] يعني الأمر بقيام الليل في بعض الليل.


قال أبو شامة: «وهذا الوجه لا بأس به، وقد زاد شيخنا أبو الحسن- يعنى السخاوي في تفسيره أيضا وتقريرا، فقال: وإنما قال: «ليلا» ، والإسراء لا يكون إلا بالليل، لأن المدة التي أسرى به فيها لا تقطع في أقل من أربعين يوما، فقطعت به في ليل واحد المعنى سبحان الذي أسرى بعبده في ليل واحد من كذا إلى كذا، وهو موضع التعجب» . قال: «وإنما عدل عن ليلة إلى ليل، لأنهم إذا قالوا: سرى ليلة، كان ذلك في الغالب لاستيعاب الليلة، فقيل: ليلا أي في ليل» .


وتعقّب صاحب الفوائد كلام الزمخشري بكلام تعقبه فيه الطيبي، ثم قال الطيبي:
«ويمكن أن يراد بالتنكير التعظيم والتفخيم، والمقام يقتضيه، ألا ترى كيف افتتحت السورة بالكلمة المنبئة عنه؟ ثم وصف المسرى به بالعبودية، ثم أردف تعظيم المكانين بالحرام وبالبركة لما حوله، يعظّم الزمان ثم يعظّم الآيات بإضافتها إلى صيغة التعظيم، وجمعها لتشمل جميع أنواع الآيات، وكلّ ذلك شاهد صدق على ما نحن بصدده، والمعنى ما أعظم شأن من أسري [به] ممّن حقّق له مقام العبودية، وصحّح له استنهاله للعناية السرمدية ليلا، أي ليل له شأن جليل.


ابن المنير رحمه الله تعالى: «وإنما كان الإسراء ليلا لأنه وقت الخلوة والاختصاص عرفا، ولأنه وقت الصلاة التي كانت مفروضة عليه في قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] وليكون أبلغ للمؤمن في الإيمان بالغيب، وفتنة للكافر» .


ابن دحية رحمه الله: «كرم الله نبينا صلى الله عليه وسلم ليلا بأمور منها: انشقاق القمر، وإيمان الجنّ به، ورأى أصحابه نيرانهم، كما في صحيح مسلم، وخرج إلى الغار ليلا. والليل أصل، ولهذا كان أول الشهور، وسواده يجمع ضوء البصر، ويحدّ كليل النّظر، ويستلذّ فيه بالسّمر. وكان أكثر أسفاره ليلا. وقال عليه الصلاة والسلام: «عليكم- بالدّلجة فإن الأرض تطوى بالليل» .
والليل وقت الاجتهاد للعبادة. وكان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تورّمت قدماه. وكان قيام الليل في حقّه واجبا، فلما كانت عبادته ليلا أكرم بالإسراء [به] فيه ليكون أجر المصدّق به أكثر، ليدخل فيمن آمن بالغيب دون من عاينه نهارا، وقدّم الحق تبارك وتعالى اللّيل في كتابه على ذكر النهار، فقال عز وجل: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) [الإسراء: 12] ، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [الفرقان: 62] إلى غير ذلك من الآيات» .
وصحّ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربّنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث اللّيل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له»، الحديث.
وهذ الخصيصة لم تجعل للنهار، نبّه بها صلى الله عليه وسلم لما في ذلك الوقت من الليل من سعة الرحمة ومضاعفة الأجر وتعجيل الإجابة، ولإبطال كلام الفلاسفة أن الظّلمة من شأنها الإهانة والشّرّ، لأن الله تعالى أكرم أقواما في الليل بأنواع الكرامات كقوله في قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) [الأنعام: 76] الآية. وفي لفظ بقوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) [هود: 81]. وفي موسى: (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) [الأعراف: 142] وناجاه ليلا، وأمره بإخراج أهله ليلا.


بعض أهل الإشارات: «لما محا الله آية الليل، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الإسراء: 12] انكسر الليل، فجبر بأن أسري فيه بمحمد صلى الله عليه وسلم» . انتهى.


أبو أمامة بن النّقّاش رحمه الله: «ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر أفضل في حق الأمة، لأنها لهم خير من عمل أكثر من ثمانين سنة ممن كان قبلهم.
وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف، ولذلك لم يعيّنها النبي صلى الله عليه وسلم» .

ويؤخذ من قول الإمام البلقيني رحمه الله في قصيدته التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم:
أولاك رؤيته في ليلة فضلت ... ليالي القدر فيها الرّبّ أرضاكا
أن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر.


قال في الاصطفاء: «ولعل الحكمة في ذلك اشتمالها على رؤيته تعالى التي هي أفضل كل شيء، ولذا لم يجعلها ثوابا عن عمل من الأعمال مطلقا، بل منّ بها على عباده المؤمنين يوم القيامة تفضّلا منه تعالى.


تنبيه: اختلف هل الليل أفضل من النهار؟ فرجّح كلّا مرجّحون. وقد ألف الإمام أبو الحسين بن فارس اللغوي كتابا في التفضيل بينهما فذكر وجوها في تفضيل هذا ووجوها في تفضيل هذا.



الثامن: في الكلام على قوله تعالى (من المسجد الحرام):.
«من» ههنا لابتداء الغاية.

الزركشي رحمه الله في كتابه: «أعلام الساجد بأحكام المساجد» : المسجد لغة مفعل بالكسر اسم لمكان السجود وبالفتح اسم للمصدر» .


قال أبو زكريا الفرّاء: «كل ما كان على فعل يفعل كدخل يدخل، فالمفعل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا، فلا يقع فيه الفرق مثل دخل مدخلا. ومن الأسماء ما ألزموها كسر العين منها: المسجد والمطلع والمغرب والمشرق وغيرها، فجعلوا الكسر علامة للاسم، وربما فتحه بعض العرب. وقد روى المسجد المسجد والمطلع المطلع» .
قال: «والفتح في كله جائز وإن لم نسمعه» .

قال في الصحاح: «والمسجد بالفتح جبهة الرجل حيث يصيبه السجود.

وقال أبو حفص الصقلى- بفتحتين- في كتاب تثقيف اللسان «ويقال مسجد بفتح الميم، حكاه غير واحد، فتحصلنا فيه على ثلاث لغات» .

والمسجد بكسر الميم الخمرة بضم الخاء المعجمة وهي الحصير الصغير، قاله العسكري.

وأما عرفا فكل موضع من الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
قلت وسيأتي الكلام على هذا الحديث في الخصائص.


ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه اشتقّ اسم المكان منه، فقيل مسجد، ولم يقولوا مركع. ثم إن العرف خصّص المسجد بالمكان المهيّا للصلوات الخمس حتى يخرج المصلّى المجتمع فيه للأعياد ونحوها، فلا يعطى حكمه، وكذلك الرّبط والمدارس فإنها هيّئت لغير ذلك.



التاسع: في الكلام على قوله: الحرام.
أبو شامة: أصل الحرام المنع، ومنه البيت الحرام، وفلان حرام أي محرم وهو ضد الحلال، وذلك لما منع منه المحرم مما يجوز لغيره، ولما منع في الحرم مما يجوز في غيره من البلاد.


الماوردي رحمه الله في كتاب الجزية من حاويه: «كلّ موضع ذكر الله تعالى فيه المسجد الحرام فالمراد به الحرم، إلا في قوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة: 144] فإنه أراد به الكعبة.


الحافظ رحمه الله تعالى: «لفظ المسجد الحرام في الأصل حقيقة الكعبة فقط، وهو المعنيّ بقوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) [آل عمران: 96] ، وبقوله صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو ذرّ عن أول مسجد وضع في الأرض فقال: «المسجد الحرام» .
واستعمله بعد ذلك في المسجد المحيط بالكعبة في قوله: «صلاة في المسجد الحرام بكذا وكذا صلاة» ،
على وجه التغليب المجازي.

وفي قوله تعالى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الإسراء: 1] على قول من يقول المراد به مكة، لأنه كان في بيت أم هانئ. وفي دور مكة والحرم حولها في قوله: «ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام» . كل ذلك من باب التغليب المسوغ للمجاز المتوسّع فيه وإلا لزم الاشتراك في موضع لفظ المسجد الحرام، والمجاز أولى منه، وكيف يقال بالاشتراك؟
والفهم ما تبادر عند الإطلاق إلى الكعبة، أو إليها مع المسجد حولها، ولا يتبادر إلى مكة كلها إلا بقرينة» . انتهى ملخّصا.



العاشر: في الكلام على الأقصى.
البرهان النسفي رحمه الله: «اتفقوا على أن المراد به مسجد بيت المقدس، وسمّي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام» .

الزمخشري رحمه الله: «سمّى الأقصى لأنه لم يكن وراءه مسجد» .

الكفيل: فثبت له هذا النّعت وإن كان وراءه بعد مساجد هي أقصى منه، لأن العلمية إذا أثبتت لسبب لم يضرّ زوال السبب» .

ابن دحية رحمه الله: «وهو معدن الأنبياء من لدن الخليل صلى الله عليه وسلم، ولذا جمعوا له هناك كلهم، وأنهم في محلتهم ودارهم، ليدل ذلك على أنه الرئيس المقدّم، والإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم» .

أبو شامة: «هو بيت المقدس الذي عمره نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلّم بأمر الله عز وجل، وما زال مكرّما محترما، وهو أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال شرعا إلا إليها، أي لا تقصد بالزيارة والتعظيم من جهة أمر الشارع إلا هذه الثلاثة. وكان أبعد مسجد عن أهل مكة أو من النبي صلى الله عليه وسلم، والأقصى أفعل من القصيّ والقاصي هو البعيد» .


ابن أبي جمرة- بفتح الجيم وبالراء- رحمه الله: «والحكمة في إسرائه صلى الله عليه وسلم أولا إلى بيت المقدس، لإظهار الحق على من عاند، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء، لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح. فلما ذكر أنه أسرى به إلى بيت المقدس سألوه عن أشياء من بيت المقدس كانوا رأوها وعلموا إنه لم يكن رآها قبل ذلك. فلما أخبرهم بها حصل التحقق بصدقه فيما ذكر من الإسراء به إلى بيت المقدس في ليلة. وإذا صحّ خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكر» . انتهى.

وقيل: ليحصل له العروج مستويا من غير تعويج لما روي عن كعب أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة يقابل باب بيت المقدس، قال: وهو أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.

الحافظ: «وفيه نظر. وقيل ليجمع بين القبلتين، لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء فحصل له الرحيل إليه في الجملة ليجمع بين أسباب الفضائل. وقيل لأنه محل الحشر، فأراد الله تعالى أن تطأه قدمه ليسهل على أمته يوم القيامة وقوفهم ببركة أثر قدميه. وقيل أراد الله سبحانه وتعالى أن يريه القبلة التي صلى إليها مدة، كما عرفت الكعبة التي صلى إليها.

وقيل لأنه مجمع أرواح الأنبياء فأراد الله تعالى أن يشرّفهم بزيارته صلى الله عليه وسلم. وقيل لتفاؤل حصول التقدير له حساّ ومعنى.


ابن دحية: «ويحتمل أن يكون الحق سبحانه وتعالى أراد ألّا يخلي تربة فاضلة من مشهده ووطء قدميه، فتمّم تقديس بيت المقدس بصلاة سيدنا محمد فيه. فلما تمم تقديسه به، أخبر صلى الله عليه وسلم أنه: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام لأنه مولده ومسقط رأسه وموضع نبوّته، ومسجد المدينة، لأنه محل هجرته وأرض تربته، والمسجد الأقصى، لأنه موضع معراجه صلى الله عليه وسلم» .


رموز الكنوز: «فإن قيل الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة، فهلّا أخبرهم تعالى بعروجه إلى السماء؟ قلت: استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا، فلما ظهرت أمارات صدقه، وصحّت لهم براهين رسالته، واستأنسوا بتلك الآية الخارقة، أخبرهم بما هو أعظم منها وهو المعراج، فحدّثهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى سورة النّجم» .


الإمام الرازي والبرهان: «اعلم أن كلمة «إلى» لانتهاء الغاية فمدلول قوله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أنه وصل إلى ذلك المسجد، ولا دلالة في اللفظ على أنه دخل» .

قلت: قال المحققون: إذا كانت «إلى» لانتهاء الغاية، فإن دلّت قرينة على دخول ما بعدها عمل بها، نحو قرأت القرآن من أوله إلى آخره. فالقرينة هنا ذكر الآخر وجعله غاية. وقيل القرينة هي كون الكلام مسبوقا لحفظ القرآن كله، وذلك مناف لخروج الغاية، فتعيّن دخولها، أو دلّت القرينة على خروج ما بعدها عمل بها نحو: (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة: 187] . والقرينة في آية الإسراء العلم لا يسرى به إلى البيت المقدس ولا يدخله وصرّحت السّنّة الصحيحة بما اقتضته القرينة من دخوله صلّى الله عليه وسلم بيت المقدس.


الحادي عشر: معنى قوله: بارَكْنا حَوْلَهُ:
الراغب رحمه الله: «البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والمبارك ما فيه ذلك الخير» .

المصباح: «البركة الزيادة والنّماء، وبارك الله تعالى فيه فهو مبارك، والأصل مبارك فيه» .

الأنموذج: فإن قيل: كيف قال: بارَكْنا حَوْلَهُ، ولم يقل باركنا عليه أو فيه، مع أن البركة في المسجد تكون أكثر من خارج المسجد وحوله، خصوصا المسجد الأقصى؟ قلنا أراد البركة الدنيوية كالأنهار الجارية والأشجار المثمرة، وذلك حوله لا فيه. وقيل أراد البركة الدينية فإنه مقر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومتعبّدهم ومهبط الوحى والملائكة. وإنما قال: بارَكْنا حَوْلَهُ، لتكون بركته أعمّ وأشمل، فإنه أراد بما حوله ما أحاط به من أرض الشام وما قاربه منها، وذلك أوسع من مقدار بيت المقدس، ولأنه إذا كان هو الأصل، وقد بارك في لواحقه وتوابعه من البقاع كان هو مباركا فيه بالطريق الأولى بخلاف العكس. وقيل أراد بالبركة: الدينية والدنيوية ووجههما ما مرّ.
وقيل المراد: باركنا ما حوله من بركة نشأت منه، فعمّت جميع الأرض، لأن مياه الأرض كلها أصل انفجارها من تحت صخرة بيت المقدس» . انتهى.


الكفيل: «فإن قيل إذا كانت البركة حول المسجد الأقصى فماذا يتميز عليه المسجد الحرام؟ قلت: البركة حول المسجد الأقصى باعتبار الدنيا ورفاهيتها وخصبها، والبركة حول المسجد الحرام باعتبار الدين والفضل وتضعيف الحسنات فيه للطائفين والعاكفين والمتوطنين والوافدين، لأن الأجر يكون على قدر النّصب، وهو واد غير ذي زرع، نزهه الله عن خصب الدنيا وسعتها، لئلا يكون القصد إليه ممزوجا بقصد الدنيا، فهذه البركة الدينية أفضل من تلك البركة الدنيوية» . انتهى.

«وحوله» منصوب على الظرف أي أوقعنا البركة حوله، وقيل تقديره: باركنا ما حوله.

أبو عبيد الهروي رحمه الله تعالى: «رأيت الناس حوله وحواليه وحواله ويجمع أحوالا» .

الراغب: حول الشيء جانبه الذي يمكن أن يتحوّل إليه والضمير راجع إلى المسجد الأقصى» .



الثاني عشر: في الكلام على قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا:
السّمين وابن عادل: «قرأ العامة بنون العظمة، جريا على «باركنا» ، وفيه التفات من الغيبة في قوله: أَسْرى بِعَبْدِهِ إلى التكلم في «باركنا» و «لنريه»، وقرأ الحسن «ليريه» بالمثناة التحتية أي الله تعالى».
وعلى هذه القراءة في الآية أربع التفاتات، لأنه التفت أولا من الغيبة في «أسرى» إلى التكلم في «باركنا» . ثم التفت ثانيا من التكلم في «باركنا» إلى الغيبة. «ليريه» ثم التفت ثالثا إلى التكلم في «آياتنا» . ثم التفت رابعا إلى الغيبة في إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

الزمخشري: «وطريقة الالتفات من طرق البلاغة.


الطيبي: «وذكرك أن قوله: «سبحان الذي أسرى بعبده» يدل على مسراه من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فهو بالغيب أنسب. وقوله: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ دالّ على إنزال البركات وتعظيم شأن المنزل، فهو بالحكاية على التفخيم أحرى. وقوله: «ليريه» بالياء إعادة إلى مقام السّرّ والغيبوبة من هذا العالم، فالغيبوبة بهما أليق. وقوله: «من آياتنا» عود إلى التعظيم على ما سبق وقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ إشارة إلى مقام اختصاصه بالمنح والزّلفى وغيبة شهوده في عين «بي يسمع وبي يبصر» فالعود إلى الغيبة أولى» انتهى.

ومعنى الرؤية هو ما أري تلك الليلة من العجائب والآيات الدّالة على قدرة الله تعالى ومنها ما ذكره في القصة.


أبو شامة: «من» هنا للتبعيض، وإنما أتي بها هنا تعظيما لآيات الله، فإن هذا الذي رآه محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان جليلا عظيما فهو بعض بالنسبة إلى جملة آيات الله وعجائب قدرته وجليل حكمته. والآية العلامة الظاهرة على ما يلازمها، فمن علم ملازمة العلم للطريق المنهاج، ثم وجد العلم على أنه وجد الطريق، وكذا إذا وجد شيئا مصنوعا، فإنه يعلم إنه لا بد له من صانع، فآية الشيء علامته الظاهرة، ثم غلب ذلك على صدق الرسل، وعلى الإلهية وكرامات الأولياء وما أشبه ذلك» .


البرهان النسفي: «فإن قيل الآية تدل على أنه تبارك وتعالى ما أراه إلا بعض الآيات وقال في حق إبراهيم صلى الله عليه وسلم: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الانعام: 75] ، يدل على أنه تعالى أراه جميع الآيات، فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل من معراج محمد صلى الله عليه وسلم، فنقول: ملكوت السموات والأرض بعض آيات الله أيضا بعضا مخصوصا، والبعض المطلق أفضل من البعض المخصوص، إذ المطلق يصرف إلى الكامل. والجواب المشهور عنه هو أن بعض آيات الله أفضل من ملكوت السموات والأرض. انتهى.



الثالث عشر: في الكلام على قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ:

السمين: «الصحيح إن الضمير في «إنّه» لله تبارك وتعالى» .

الطيبي: «ولا يبعد أن يرجع الضمير إلى العبد، كما نقله أبو البقاء عن بعضهم، قال: إنه السميع» ، لكلامنا، «البصير» لذاتنا. وأما توسّط ضمير الفعل فللإشعار باختصاصه بهذه الكرامة وحده، ولعل السّرّ في مجيء الضمير محتملا للأمرين الإشارة إلى المطلوب وأنه صلّى الله عليه وسلم إنما رأى رب العزّة وسمع كلامه به» .


الماوردي: «في الحكمة بالإتيان بالسميع والبصير هنا وجهان:
أحدهما: أنه تعالى وصف نفسه بهما، وإن كانا من صفاته اللازمة لذاته في الأحوال كلها، لأنه حفظ لرسوله عند الإسراء به في ظلمة الليل، فلم يضرّه ألّا يبصر فيها، وسمع كلامه دعاءه فأجابه إلى ما سأل.
الثاني: أن قومه لما كذّبوه حين أخبرهم بإسرائه، فقال: السميع، يعني لما يقولونه من تصديق أو تكذيب. البصير، فيما يفعله من الإسراء والمعراج.


الزمخشري: «إنه هو السمّيع» لأقوال محمد، «البصير» بأفعاله، العالم بتهذّبها وخلوصها فيكرمه ويقرّبه على حسب ذلك.

ولم يتعقّب ذلك الطيبي ولا السّكوني- بالفتح والضمّ- في التمييز مع مبالغته في التنكيب والاعتراض عليه. وقال صاحب الكفيل: «ذكر صفتي السمع والبصر تنبيهاً على أنه علم حيث يجعل رسالاته وكراماته، والبصير بآياته، وكما أنه أعلم فهو أسمع وأبصر. والمراد أنه السميع لمن صدّق بالإسراء البصير بمن كذّب به» ، ثم ذكر كلام الزمخشري السابق، ثم قال: «وفي كلامه هذا إيماء إلى القول بإيجاب الجزاء وتلويح إلى اعتقاده أن فضائل النبوة مكتسبة، فاحذر هذه العقيدة. انتهى.


الغزالي رحمه الله: المقصد الأسنى: «السميع هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفي، فيسمع السّرّ والنجوى، بل ما هو أدق وأخفى، ويدرك دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصّمّاء، يسمع بغير أصمخة وآذان، وسمعه منزّه عن أن يتطرّق إليه الحدثان. ومهما نزّهت السمع عن تغير المسموعات وقدّسته عن أن يسمع بأذن وآلة علمت أن السمع في حقه عبارة عن صفة ينكشف بها كمال صفات المسموعات. ومن لم يدقق نظره فيه وقع بالضرورة في بحر التشبيه فخذ حذرك ودقّق فيه نظرك» .


وقال أيضا: «البصير هو الذي يشاهد ويرى ولا يعزب عنه ما تحت الثّرى، وإبصاره منزّة عن أن يكون بحدقة وأجفان، مقدّس عن أن يرجع عن انطباع الصور والألوان في ذاته تعالى، كما تنطبع في حدقة الإنسان، وأن ذلك من التغير والتأثير المقتضي للحدثان. وإذا نزّه عن ذلك كان البصر في حقه عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المصنوعات، والله تعالى أعلم بالصواب» .) اهـ


سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (3/ 4-21)

_________________
مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: (بعض فوائد قوله تعالى: ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْد
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس فبراير 16, 2023 11:15 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مارس 29, 2012 9:53 pm
مشاركات: 45691
صلى الله عليه وسلم

_________________
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه
أستغفر الله العلى العظيم الذى لا اله الاّ هو الحى القيوم وأتوب اليه


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 2 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 8 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط