موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 45 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1, 2, 3  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يونيو 13, 2008 12:21 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
[B]وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)

قوله تعالى: { وَعُرِضُواْ عَلَىا رَبِّكَ صَفَّاً.. } [الكهف: 48] العرض: أن يستقبل العارض المعروضَ استقبالاً مُنظّماً يدلّ على كُلِّ هيئاته، كما يستعرض القائد الجنود في العرض العسكري مثلاً، فيرى كل واحد من جنوده { صَفّاً } أي: صُفوفاً منتظمة، حتى الملائكة تأتي صُفوفاً، كما قال تعالى:{ وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }[الفجر: 22]
أي: أنها عملية مُنظمة لا يستطيع فيها أحد التخفي، ولن يكون لأحد منها مفَرٌّ، وهي صفوف متداخلة بطريقة لا يُخِفي فيها صَفٌّ الصفَّ الذي يليه، فالجميع واضح بكل أحواله.
وفي الحديث عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يَحشر الله الخَلْق ثم ينادي: يا عبادي أحضروا حُجتكم ويسِّروا جوابكم، فإنكم مجموعون مُحَاسَبُون مَسْئولون، يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب ".
ولك أنْ تتصوَّر المعاناة والألم الذي يجده مَنْ يقف على أطراف أنامل قدميْه؛ لأن ثقل الجسم يُوزَّع على القدمين في حال الوقوف، وعلى المقعدة في حال الجلوس، وعلى الجسم كله في حال النوم، وهكذا يخفّ ثقل الجسم حسب الحالة التي هو عليها، فإنْ تركّز الثقل كله على أطراف أنامل القدمين، فلا شَكَّ أنه وَضْع مؤلم وشاقّ، يصعُب على الناس حتى إنهم ليتمنون الانصراف ولو إلى النار.
ثم يقول تعالى: { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.. } [الكهف: 48]
أي: على الحالة التي نزلتَ عليها من بطن أمك عرياناً، لا تملك شيئاً حتى ما يستر عورتك، وقد فُصِّل هذا المعنى في قوله تعالى:{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىا مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }[الأنعام: 94]
وقوله تعالى: { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } [الكهف: 48] والخطاب هنا مُوجَّه للكفار الذين أنكروا البعث والحساب { زَعَمْتُمْ } [الكهف: 48] والزعْم مطيّة الكذب.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ... }.
(/2172)
________________________________________
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)

قوله تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } [الكهف: 49] أي: وضعته الملائكة بأمر من الله تعالى، فيعطون كل واحد كتابه، فهي ـ إذن ـ صور متعددة، فمَنْ أخذ كتابه بيمينه فرح وقال:
{ هَآؤُمُ اقْرَءُواْ كِتَابيَهْ }[الحاقة: 19] يعرضه على ناس، وهو فخور بما فيه؛ لأنه كتاب مُشرِّف ليس فيه ما يُخجل؛ لذلك يتباهى به ويدعو الناس إلى قراءته، فهو كالتلميذ الذي حصل على درجات عالية، فطار بها ليعرضها ويذيعها.
وهذا بخلاف مَنْ أوتي كتابه بشماله فإنه يقول:{ يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَآ أَغْنَىا عَنِّي مَالِيَهْ * هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ }[الحاقة: 25-29]
إنه الخزي والانكسار والندم على صحيفة مُخْجِلة.
{ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } [الكهف: 49] أي: خائفين يرتعدون، والحق سبحانه وتعالى يصور لنا حالة الخوف هذه لِيُفزع عباده ويُحذِّرهم ويُضخِّم لهم العقوبة، وهم ما يزالون في وقت التدارك والتعديل من السلوك، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
فحالتهم الأولى الإشفاق، وهو عملية هبوط القلب ولجلجته، ثم يأتي نزوع القول: { وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا } [الكهف: 49] يا: أداة للنداء، كأنهم يقولون: يا حسرتنا يا هلاكنا، هذا أوانُك فاحضري.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابني آدم ـ عليه السلام ـ لما قتل قابيل هابيل، وكانت أول حادثة قتل، وأول ميت في ذرية آدم؛ لذلك بعث الله له غراباً يُعلِّمه كيف يدفن أخاه، فقال:{ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي.. }[المائدة: 31]{ يَاوَيْلَتَا }[المائدة: 31] يا هلاكي كأن يتحسَّر على ما أصبح فيه، وأن الغراب أعقل منه، وأكثر منه خبرة؛ لكي لا نظلم هذه المخلوقات ونقول: إنها بهائم لا تَفهم، والحقيقة: ليتنا مثلهم.
قوله تعالى: { مَالِ هَـاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [الكهف: 49] أي: لا يترك كبيرة أو صغيرة إلا عدَّها وحسبها { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [الكهف: 49] فكل ما فعلوه مُسجَّل مُسطّر في كُتبهم { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [الكهف: 49] لأنه سبحانه وتعالى عادل لا يؤاخذهم إلا بما عملوه.
ثم يقول الله سبحانه: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ... }.
(/2173)
________________________________________
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)

تكررتْ قصة سجود الملائكة لآدم ـ عليه السلام ـ كثيراً في القرآن الكريم، وفي كل مرة تُعطينا الآياتُ لقطةً معينة، والحق سبحانه في هذه الآية يقول لنا: يجب عليكم أنْ تذكّروا جيداً عداوة إبليس لأبيكم آدم، وتذكروا جيداً أنه أخذ العهد على نفسه أمام الله تعالى أنْ يُغويكم أجمعين، فكان يجب عليكم أن تتنبهوا لهذه العداوة، فإذا حدّثكم بشيء فاذكروا عداوته لكم.
والحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما يُحذّرنا من إبليس فإنه يُربِّي فينا المناعة التي نُقاومه بها، والمناعة أنْ تأتيَ بالشيء الذي يضرُّ مستقبلاً حين يفاجئك وتضعه في الجسم في صورة مكروب خامد، وهذا هو التطعيم الذي يُعوِّد الجسم على مدافعة المرض وتغلَّب عليه إذا أصابه.
فكذلك الحق سبحانه يعطينا المناعة ضد إبليس، ويُذكِّرنا ما كان منه لأبينا آدم واستكباره عن السجود له، وأن نذكر دائماً قوله:{ أَرَأَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً }[الإسراء: 62]
فانتبهوا ما دُمنا سنُسيّر الجبال، ونُسوِّي الأرض، ونحصر لكلٍّ كتابه، فاحذروا أنْ تقفوا موقفاً حرجاً يوم القيامة، ثم تُفَاجأوا بكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وها أنا أُذكّركم من الآن في وقت السَّعة والتدارك، فحاولوا التوبة إلى الله، وأنْ تصلحوا ما بينكم وبين ربكم.
والأمر هنا جاء للملائكة: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ.. } [الكهف: 50] لأنهم أشرف المخلوقات، حيث لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمَرُون. وحين يأمر الله تعالى الملائكة الذين هذه صفاتهم بالسجود لآدم، فهذا يعني الخضوع، وأن هذا هو الخليفة الذي آمُركُم أنْ تكونوا في خدمته.
لذلك سمَّاهم: المدبّرات أمراً، وقال تعالى عنهم:{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ }[الرعد: 11] فكأن مهمة هؤلاء الملائكة أن يكونوا مع البشر وفي خدمتهم.
فإذا كان الحق سبحانه قد جنَّد هؤلاء الملائكة وهم أشرفُ المخلوقات لخدمة الإنسان، وأمرهم بالسجود له إعلاناً للخضوع للإنسان، فمن باب أَوْلى أن يخضع له الكون كله بسمائه وأرضه، وأن يجعلَه في خدمته، إنما ذكر أشرف المخلوقات لينسحب الحكم على مَنْ دونهم.
وقلنا: إن العلماء اختلفوا كثيراً على ماهية إبليس: أهو من الجن أم من الملائكة، وقد قطعت هذه الآية هذا الخلاف وحَسَمَتْه، فقال تعالى: { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ.. } [الكهف: 50] وطالما جاء القرآن بالنص الصريح الذي يُوضّح جنسيته، فليس لأحد أن يقول: إنه من الملائكة.
وما دام كان من الجن، وهم جنس مختار في أنْ يفعل أو لا يفعل، فقد اختار ألاَّ يفعل: { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.. } [الكهف: 50] أي: رجع إلى أصله، وخرج عن الأمر.
وقوله تعالى: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.

. { [الكهف: 50] فهذا أمر عجيب، فكيف بعد ما حدث منه تجعلونه ولياً من دون الله الذي خلقكم ورزقكم، فكان أَوْلَى بهذه الولاية.
و } وَذُرِّيَّتَهُ.. { [الكهف: 50] تدل على تناسل إبليس، وأن له أولاداً، وأنهم يتزاوجون، ويمكن أن نقول: ذريته: كل مَنْ كان على طريقته في الضلال والإغواء، ولو كان من الإنس، كما قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً.. }[الأنعام: 112]
} بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً { [الكهف: 50] أي: بئس البدل أن تتخذوا إبليس الذي أبى واستكبر أنْ يسجدَ لأبيكم وَلياً، وتتركوا ولاية الله الذي أمر الملائكة أنْ تسجدَ لأبيكم.
ثم يقول الحق سبحانه: } مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ... {.
(/2174)
________________________________________
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)

إن هذا الشيطان الذي واليتموه من دون الله، وأعطيتموه الميْزة، واستمعتم إليه ما أشهدتهم خَلْق السماوات والأرض مجرد المشاهدة، لم يحضروها لأن خَلْق السماوات والأرض كان قبل خَلْقهم، وكذلك ما شَهِدوا خَلْق أنفسهم؛ لأنهم ساعة خَلْقتهم لم يكونوا موجودين، إنهم لم يشهدوا شيئاً من ذلك لكي يخبروكم.
{ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51] أي: مساعدين ومعاونين ومساندين، فما أشهدتهم الخَلْق وما عاونوني فيه.
والعَضُد: هو القوة التي تُسعفك وتسندك، وهو مأخوذ من عَضُد الإنسان، حيث يزاول أغلب أعماله بيده، وحين يزاول أعماله بيده تتحرك فيه مجموعة من الأعضاء قَبْضاً وبَسْطاً واتجاهاً يميناً وشمالاً، وأعلى وأسفل، وكُلُّ هذه الحركات لا بُدَّ لها من مُنظِّم أو موتور هو العضد، وفي حركة اليد ودقتها في أداء مهمتها آياتٌ عُظْمى تدلُّ على دِقَّة الصَّنْعة.
وحينما صنع البشر ما يشبه الذراع واليد البشرية من الآلات الحديثة، تجد سائق البلدوزر مثلاً يقوم بعدة حركات لكي يُحرِّك هذه الآلة، أما أنت فتحرِّك يدك كما شئْتَ دون أن تعرف ماذا يحدث؟ وكيف تتم لك هذه الحركة بمجرد أن تُفكّر فيها دون جهد منك أو تدبير؟
فكل أجزائك مُسخَّرة لإرادتك، فإنْ أردتَ القيام مثلاً قمتَ على الفور؛ لذلك إياك أنْ تظن أنك خَلْق ميكانيكي، بل أنت صَنْعة ربانية بعيدة عن ميكانيكا الآلات، بدليل أنه إذا أراد الخالق سبحانه أن يُوقِف جزءاً منك أمر المخ أنْ يقطعَ صِلَته به، فيحدث الشلل التام، ولا تستطيع أنت دَفْعَه أو إصلاحه.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في قصة موسى:{ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ.. }[القصص: 35] أي: نُقوِّيك ونُعطيك السَّنَد والعَوْن.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ... }.
(/2175)
________________________________________
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)

يعني: واذْكر يا محمد، ولتذْكُرْ معك أمتك هذا اليوم: { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ.. } [الكهف: 52] يقول الحق سبحانه للكفار: ادعوا شركائي الذين اتخذتموهم من دوني. وزعمتم: أي: كذبتم في ادعائكم أنهم آلهة { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ.. } [الكهف: 52]
وهذا من سماجتهم وتبجُّحهم وسوء أدبهم مع الحق سبحانه، فكان عليهم أنْ يخجلوا من الله، ويعودوا إلى الحق، ويعترفوا بما كذَّبوه، لكنهم تمادَوْا { فَدَعَوْهُمْ.. } [الكهف: 52] ويجوز أن من الشركاء أناساً دون التكليف، وأناساً فوق التكليف، فمثلاً منهم مَنْ قالوا: عيسى. ومنهم مَنْ قالوا: العزير، وهذا باطل، وهل استجابوا لهم؟
ومنهم مَنِ اتخذوا آلهة أخرى، كالشمس والقمر والأصنام وغيرها، ومنهم مَنْ عبد ناساً مثلهم وأطاعوهم، وهؤلاء كانوا موجودين معهم، ويصح أنهم دَعَوْهم ونادوهم: تعالوا، جادلوا عنّا، وأخرجونا مما نحن فيه، لقد عبدناكم وكنا طَوْعَ أمركم، كما قال تعالى عنهم:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى.. }[الزمر: 3]
ولكن، أنَّى لهم ما يريدون؟ فقد تقطعتْ بينهم الصلات، وانقطعت حجتهم { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ.. } [الكهف: 52] ثم جعل الحق سبحانه بين الداعي والمدعو وادياً سحيقا: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً.. } [الكهف: 52]
والمَوْبِق: المكان الذي يحصل فيه الهلاك، وهو وَادٍ من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً، أو: أن بين الداعي والمدعو مكاناً مُهْلكاً، فلا الداعي يستطيع أنْ يلوذَ بالمدعو، ولا المدعو يستطيع أنْ ينتَصرَ للداعي ويُسعفه، لأن بينهم منبعَ هلاك.
ومن ذلك قوله تعالى:{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىا ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ }[الشورى: 34] يعني: يهلكهن.
ومن العجيب أن تكون هذه أولَ إطاعة منهم لله تعالى، فلما قال لهم: { نَادُواْ شُرَكَآئِيَ.. } [الكهف: 52] استجابوا لهذا الأمر، في حين أنهم لم يطيعوا الأوامر الأخرى.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا... }.
(/2176)
________________________________________
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)

رأى: الرؤية: وقوع البصر على المرئيّ، والرؤية هنا مِمّن سيُعذّب في النار، وقد تكون الرؤية من النار التي ستعذبهم؛ لأنها تراهم وتنتظرهم وتناديهم، كما قال تعالى:{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ }[ق: 30] أي: هاأنا ذا أنتظرهم ومستعدة لملاقاتهم؟
والمجرمون: الذين ارتكبوا الجرائم، وعلى رأسها الكفر بالله. إذن: فالرؤية هنا متُبَادلة: المعذِّب والمعذَّب، كلاهما يرى الآخر ويعرفه.
وقوله تعالى: { فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا.. } [الكهف: 53] الظن هنا يُراد منه اليقين. أي: أيقنوا أنهم واقعون فيها، كما جاء في قول الحق سبحانه:{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ رَبِّهِمْ.. }[البقرة: 46]
أي: يوقنون.
{ وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً.. } [الكهف: 53] أي: في حين أن بينهما مَوْبقاً، وأيضاً لا يجدون مفرّاً يفرون منه، أو ملجأ يلجؤون إليه، أو مكاناً ينصرفون إليه بعيداً عن النار، فالمَوْبِق موجود، والمصْرِف مفقود.
ثم يقول تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـاذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ... }.
(/2177)
________________________________________
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)

سبق أن تكلمنا عن تصريف الآيات، وقلنا: إن التصريف معناه تحويل الشيء إلى أشياء متعددة، كما يصرّف الله الرياح مثلاً، فلا تأتي من ناحية واحدة، بل تأتي مرة من هنا، ومرة من هناك، كذلك صَرّف الله الأمثال. أي: أتى بأحوال متعددة وصُور شتى منها.
والحق سبحانه يضرب الأمثال كأنه يقرع بها آذان الناس لأمر قد يكون غائباً عنهم، فيمثله بأمر واضح لهم مُحَسٍّ ليتفهموه تفهّماً دقيقاً.
وما دام أن الحق سبحانه صرّف في هذا القرآن من كل مثَل، فلا عُذْر لمن لم يفهم، فالقرآن قد جاء على وجوه شتّى ليُعلم الناس على اختلاف أفهامهم ومواهبهم؛ لذلك ترى الأمي يسمعه فيأخذ منه على قدر فَهْمه، والنصف مثقف يسمعه فيأخذ منه على قدر ثقافته، والعالم الكبير يأخذ منه على قدر علمه ويجد فيه بُغْيته، بل وأكثر من ذلك، فالمتخصص في أيِّ علم من العلوم يجد في كتاب الله أدقّ التفاصيل؛ لأن الحق سبحانه بيَّن فيه كل شيء.
ثم يقول تعالى: { وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [الكهف: 54] أي: كثير الخصومة والتنازع في الرأي، والجدل: هو المحاورة ومحاولة كل طرف أن يثبت صِدْق مذهبه وكلامه، والجدل إما أن يكون بالباطل لتثبيت حجة الأهواء وتراوغ لتبرر مذهبك ولو خطأً، وهذا هو الجَدل المعيب القائم على الأهواء. وإما أن يكون الجدل بالحق وهو الجدل البنّاء الذي يستهدف الوصول إلى الحقيقة، وهذا بعيد كل البعد عن التحيّز للهوى أو الأغراض.
ولما تحدَّث القرآن الكريم عن الجدل قال تعالى:{ وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. }[العنكبوت: 46]
وقال:{ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. }[النحل: 125] " والنبي صلى الله عليه وسلم لما مرَّ على عليٍّ وفاطمة ـ رضي الله عنهما ـ ليوقظهما لصلاة الفجر، وطرق عليهما الباب مرة بعد أخرى، ويبدو أنهما كانا مستغرقيْن في نوم عميق، فنادى عليهما صلى الله عليه وسلم " ألا تصلون؟ " فردَّ الإمام علي قائلاً: يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله، إن شاء أطلقها وإن شاء أمسكها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: { وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } " [الكهف: 54]
لأن الإنسان له أهواء متعددة وخواطر متباينة، ويحاول أنْ يُدلّل على صحة أهوائه وخواطره بالحجة، فيقارع الحق ويغالط ويراوغ. ولو دققتَ في رأيه لوجدتَ له هوىً يسعى إليه ويميل إلى تحقيقه، وترى ذلك واضحاً إذا اخترتَ أحد الطرق تسلكه أنت وصاحبك مثلاً لأنه أسهلها وأقربها، فإذا به يقترح عليك طريقاً آخر، ويحاول إقناعك به بكل السُّبل، والحقيقة أن له غرضاً في نفسه وهوىً يريد الوصول إليه.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ... }.
(/2178)
________________________________________
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)

ما الذي منعهم أن يؤمنوا بعد أن أنزل عليهم القرآن، وصرّفنا فيه من الآيات والأمثال، بعد أن جاءهم مطابقاً لكل الأحوال؟
وفي آية أخرى، أوضح الحق سبحانه سبب إعراضهم عن الإيمان، فقال تعالى:{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـاذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىا أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً * وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىا فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ }[الإسراء: 89-93]
فكُلُّ هذه التعنّتات وهذا العناد هو الذي حال بينهم وبين الإيمان بالله، والحق سبحانه وتعالى حينما يأتي بآية طلبها القوم، ثم لم يؤمنوا بها يُهلكهم؛ لذلك قال بعدها: { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ.. } [الكهف: 55] فهذه هي الآية التي تنتظرهم: أن تأتيهم سُنَّة الله في إهلاك مَنْ كذَّب الرسل.
فقبل الإسلام، كانت السماء هي التي تتدخل لنُصْرة العقيدة، فكانت تدكُّ عليهم قُراهم ومساكنهم، فالرسول عليه الدعوة والبلاغ، ولم يكن من مهمته دعوة الناس إلى الحرب والجهاد في سبيل نَشْر دعوته، إلا أمة محمد فقد أَمِنها على أن تحمل السيف لتُؤدِّب الخارجين عن طاعة الله.
وقوله تعالى: { وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ.. } [الكهف: 55] أي: على ما فات من المهاترات والتعنُّتات والاستكبار على قبول الحق { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ.. } [الكهف: 55] أي: بهلاك المكذبين { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً.. } [الكهف: 55] أي مُقابِلاً لهم، وعياناً أمامهم، أو { قُبُلاً } جمع قبيل، وهي ألوان متعددة من العذاب، كما قال تعالى:{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ.. }[الطور: 47]
أي: لهم عذاب غير النار، فألوان العذاب لهم متعددة.
ثم يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يأبه لعمل الكفار، ولا يهلك نفسه أَسَفاً على إعراضهم، فيقول سبحانه: { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ... }.
(/2179)
________________________________________
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)

قلنا: إن الجدل قد يكون بالحق، وقد يكون بالباطل كما يفعل الذين كفروا هنا، فيجادلون بالباطل ويستخدمون كل الحِيَل لدحْضِ الحق أي: ليُعطّلوه ويزيلوه { وَاتَّخَذُواْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً } [الكهف: 56] أي: الآيات الكونية التي جاءت لتصديق الرسل، وكذلك آيات القرآن، وآيات الأحكام اتخذوها سُخْرية واستهزاءً، ولم يعبأوا بما فيها من نذارة.
ولذلك قال الحق سبحانه: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا... }.
(/2180)
________________________________________
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)

{ وَمَنْ أَظْلَمُ.. } [الكهف: 57] جاء الخبر على صورة الاستفهام لتأكيد الكلام، كأنْ يدَّعي صاحبك أنك لم تصِلْه، ولم تصنع معه معروفاً، فمن الممكن أن تقول له: صنعتُ معك كذا وكذا على سبيل الخبر منك، والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب.
إنما لو عرضْتَ المسألة على سبيل الاستفهام فقُلْتَ له: ألم أصنع معك كذا؟ فسوف تجتذب منه الإقرار بذلك، وتقيم عليه الحجة من كلامه هو، وأنت لا تستفهم عن شيء من خَصْم إلا وأنت واثق أن جوابه لا يكون إلا بما تحب.
وهكذا أخرج الحق سبحانه الخبر إلى الاستفهام: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ.. } [الكهف: 57]؟ وترك لنا الجواب لنقول نحن: لا أحدَ أظلمُ ممَّنْ فعل ذلك، والإقرار سيد الأدلة.
وقوله { فَأَعْرَضَ عَنْهَا.. } [الكهف: 57] تركها { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ.. } [الكهف: 57] نسى السيئات، وكان من الواجب أن ينتبه إلى هذه الآيات فيؤمن بها، لعل الله يتوب عليه بإيمانه، فيُبدِّل سيئاته حسنات.
ثم يقول تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىا قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ.. } [الكهف: 57]
أكنة: أغطية جمع كِنّ، فجعل الله على قلوبهم أغطية، فلا يدخلها الإيمان، ولا يخرج منها الكفر، وليس هذا اضطهاداً منه تعالى لعباده، تعالى الله عن ذلك، بل استجابة لما طلبوا وتلبية لما أحبُّوا، فلما أحبُّوا الكفر وانشرحتْ به صدورهم زادهم منه؛ لأنه رَبٌّ يعطي عبده ما يريد.
كما قال عنهم في آية أخرى:{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }[البقرة: 10]
وقال تعالى في هذا المعنى:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ وَعَلَىا سَمْعِهِمْ وَعَلَىا أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }[البقرة: 7]
ومعنى { أَن يَفْقَهُوهُ.. } [الكهف: 57] أي: يفهموه، يفهموا آيات الله؛ لأنهم سبق أنْ ذُكِّرُوا بها فأعرضوا عنها، فحرَمهم الله فقهها وفهمها.
وقوله تعالى: { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً.. } [الكهف: 57] أي: صمم فلا يسمعون { وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىا الْهُدَىا فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً } [الكهف: 57] وهذا أمر طبيعي، بعد أن ختم الله على قلوبهم وعلى أسماعهم، وسد عليهم منافذ العلم والهداية؛ لأن الهدى ناشئ من أن تسمع كلمة الحق، فيستقبلها قلبك بالرضا، فتنفعل لها جوارحك بالالتزام، فتسمع بالأذن، وتقبل بالقلب، وتنفعل بالجوارح طاعةً والتزاماً بما أُمِرَتْ به.
وما دام في الأذن وَقْر وصَمَمٌ فلن تسمع، وإنْ سمعتْ شيئاً أنكره القلب، والجوارح لا تنفعل إلا بما شُحِن به القلب من عقائد.
ويقول الحق سبحانه: { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ... }.
(/2181)
________________________________________
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)

فمن رحمة الله بالكفار أنه لم يعاجلهم بعذاب يستأصلهم، بل أمهلهم وتركهم؛ لأن لهم موعداً لن يهربوا منه، ولن يُفلِتوا، ولن يكون لهم مَلْجأ يحميهم منه، ولا شكَّ أن في إمهالهم في الدنيا حكمة لله بالغة، ولعل الله يُخرِج من ظهور هؤلاء مَنْ يؤمن به، ومَنْ يحمل راية الدين ويدافع عنه، وقد حدث هذا كثيراً في تاريخ الإسلام، فمِنْ ظَهْر أبي جهل جاء عكرمة، وأمهل الله خالد بن الوليد، فكان أعظمَ قائد في الإسلام.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَتِلْكَ الْقُرَىا أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ... }.
(/2182)
________________________________________
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)

تلك: أداة إشارة لمؤنث هي القرى، والكاف للخطاب، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمتُه مُنْضوية في خطابه؛ لأن خطابَ الرسول خطاب لأمته. لكن الإشارة لا تكون إلا لشيء معلوم موجود مُحَسٍّ، كما جاء في قوله تعالى:{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَىا }[طه: 17]
فأين هذه القُرَى؟ وهل كان لها وجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
نعم، كان لهذه القرى آثار وأطلال تدل عليها ويراها النبي صلى الله عليه وسلم ويراها الناس في رحلاتهم إلى الشام وغيرها مثل: قُرَى ثمود قوم صالح، وقرى قوم لوط، وقد قال تعالى عنها:{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[الصافات: 137-138]
إذن: فتلك إشارة إلى موجود مُحَسٍّ دَالٍّ بما تبقّى منه على ما حاق بهذه القرى من عذاب الله، وما حلَّ بها من بَأْسِه الذي لا يُرَدُّ عن القوم الظالمين.
وكلمة { الْقُرَىا } جمع قرية، وتُطلَق على المكان الذي تتوفّر فيه مُقوِّمات الحياة وضرورياتها، بل بها ما يزيد على الضروريات ومُقوّمات الحياة العادية؛ لأن القرية لا تُطلَق إلا على مكان تتسع فيه مُقوِّمات الحياة اتساعاً يكفي لمن يطرأ عليها من الضيوف فيجد بها قِرَى. فإنْ كانت قرية كبيرة يأتيها الرزق الوفير من كل مكان كأنها أُمٌّ، نسميها (أم القرى).
ثم يقول الحق سبحانه: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىا لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّىا أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ... }.
[/B]


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت يونيو 14, 2008 11:08 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)

قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىا لِفَتَاهُ.. } [الكهف: 60] أي: اذكر يا محمد وقت أنْ قال موسى لفتاه، وفتى موسى هو خادمه يوشع ابن نون، وكان من نَسْل يوسف ـ عليه السلام ـ وكان يتبعه ويخدمه ليتعلم منه.
{ لا أَبْرَحُ حَتَّىا أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ.. } [الكهف: 60]
لكن، ما حكاية موسى مع فتاه؟ وما مناسبتها للكلام هنا؟
مناسبة قصة موسى هنا أن كفار مكة بعثوا ليهود المدينة يسألونهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أهل كتاب وأعلم بالسماء، فأرادوا رأيهم في محمد: أهو مُحِقٌّ أم لا؟ فقال اليهود لوفد مكة: اسألوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجابكم فهو نبي: اسألوه عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر، والرجل الطواف الذي طاف البلاد، وعن الروح، فما كان منهم إلا أن سألوا رسول الله هذه الأسئلة، فقال لهم: " في الغد أجيبكم ".
إذن: إجابة هذه الأسئلة ليست عنده، وهذه تُحسَب له لا عليه، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم يضرب الكلام هكذا دون علم لأجابهم، لكنه سكت إلى أن يأتي الجواب من الله تعالى، وهذا من أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه الذي أدبه فأحسن تأديبه.
ومرَّتْ خمسة عشر يوماً دون أن يُوحَى لرسول الله في ذلك شيء، حتى شق الأمر عليه، وفرح الكفار والمنافقون؛ لأنهم وجدوا على رسول الله مأخذاً فاهتبلوا هذه الفرصة لينددوا برسول الله، إنما أدب الله لرسوله فوق كل شيء ليبين لهم أن رسول الله لن يتكلم في هذه المسألة إلا بوحي من الله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ولا يصدر عن رأيه.
ولو كان لهؤلاء القوم عقول لفهموا أن البُطْءَ في هذه المسألة دليلُ صِدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك جاءت قصة موسى هنا لتردَّ على مهاترات القوم، وتُبيِّن لهم أن النبي لا يعلم كل شيء، وهل المفروض فيه أن يجيبكم عن كل شيء؟ وهل يقدح في مكانته أنه لا يعرف مسألة ما؟
جاءت هذه الآيات لتقول لليهود ومَنْ لَفَّ لَفَّهم من كفار مكة: أنتم متعصبون لموسى وللتوراة ولليهودية، وهاهو موسى يتعلم ليس من الله، بل يتعلم من عبد مثله، ويسير تابعاً له طلباً للعلم.
جاءت الآيات لتقول لهم: يا مَنْ لقنتم كفار مكة هذه الأسئلة وأظهرتم الشماتة بمحمد حينما أبطأ عليه الوحي، اعلموا أن إبطاء الوحي لتعلموا أن محمداً لا يقول شيئاً من عند نفسه، فكان من الواجب أنْ تلفتكم هذه المسألة إلى صدق محمد وأمانته، وما هو على الغيب بضنين.
وسبب قصة موسى عليه السلام ـ يُقال: إنه سأل الله ـ وكان له دلال على ربه:

{ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ.. }[الأعراف: 143] والذي أطمعه في هذا المطلب أن الله كلَّمه:{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَىا }[طه: 17] فأطال موسى الكلام مع ربه، ومَنْ الذي يكلمه الله ولا يطيل أمد الأُنْس بكلام الله؟ لذلك قال موسى:{ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىا غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىا }[طه: 18]
وهكذا أطال موسى مدة الأنس بالله والحديث معه سبحانه، لذلك سأله: يا ربّ، أيوجد في الأرض أعلم مني؟ فأجابه ربُّه تبارك وتعالى: نعم في الأرض مَنْ هو أعلم منك، فاذهب إلى مجمع البحرين، وهناك ستجد عبداً من عبيدي هو أعلم منك، فأخذ موسى فتاه وذهب إلى مَجْمع البحرين.
وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى ـ عليه السلام ـ خطب مرة فسُئِل: مَنْ أعلم؟ فقال: أنا ـ يعني من البشر، فأخبره الله تعالى: لا بل في الأرض من هو أعلم منك من البشر حتى لا يغتَرَّ موسى ـ عليه السلام ـ بما أعلمه الله.
ثم يقول تعالى: } لا أَبْرَحُ حَتَّىا أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ { [الكهف: 60]
لا أبرح: أي لا أترك، والبعض يظن أن لا أبرح تعني: لا أترك مكاني الذي أنا فيه، لكنها تعني: لا أترك ما أنا بصدده، فإنْ كنتُ قاعداً لا أترك القعود، وإنْ كنتُ ماشياً لا أترك المشي، وقد قال موسى ـ عليه السلام ـ هذا القول وهو يبتغي بين البحرين، ويسير متجهاً إليه، فيكون المعنى: لا أترك السير إلى هذا المكان حتى أبلغ مجمع البحرين.
وقد وردت مادة (برح) في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: } فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىا يَأْذَنَ لِي أَبِي.. { [يوسف: 80] قالها كبيرهم بعد أن أخذ يوسف أخاه بنيامين ومنعه من الذهاب معهم، فهنا استحى الأخ الأكبر من مواجهة أبيه الذي أخذ عليهم العهد والميثاق أنْ يأتوا به ويُعيدوه إليه.
و " مجْمَع البحرين " أي: موضع التقائهما، حيث يصيران بحراً واحداً، كما يلتقي مثلاً دجلة والفرات في شَطِّ العرب.
وقوله: } أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً { [الكهف: 60]
الحُقُب: جمع حِقْبة، وهي الفترة الطويلة من الزمن، وقد قدَّروها بحوالي سبعين أو ثمانين سنة، فإذا كان أقل الجمع ثلاثة، فمعنى ذلك أن يسير موسى ـ عليه السلام ـ مائتين وعشرة سنين، على اعتبار أن الحِقْبة سبعون سنة.
ويكون المعنى: لا أترك السير إلى هذا المكان ولو سِرْتُ مائتين وعشرة سنين؛ لأن موسى عليه السلام كان مَشُوقاً إلى رؤية هذا الرجل الأعلم منه، كيف وهو النبي الرسول الذي أوحى الله إليه؛ لذلك أخبره ربه أن عِلْم هذا الرجل علم من لدنا، علم من الله لا من البشر.
ثم يقول الحق سبحانه: } فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا... {.
(/2184)
________________________________________
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)

{ بَلَغَا } أي: موسى وفتاه { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } أي: مجمع البحرين { نَسِيَا حُوتَهُمَا } أي: حدث النسيان منهما معاً، وإنْ كان حمل الحوت منوطاً بفتى موسى وقد نسيه، فكان على موسى أنْ يُذكِّره به، فرئيس القوم لا بُدَّ أن يتنبه لكل جزئية من جزئيات الرَّكْب، وكانت العادة أنْ يكون هو آخر المبارحين للمكان ليتفقده وينظر لعل واحداً نسى شيئاً، إذن: كان على موسى أن يعقب ساعة قيامهم لمتابعة السير، ويُذكِّر فتاهُ بما معهم من لوازم الرحلة.
والحوت: نوع من السمك معروف، وفي بعض البلاد يُطلِقون على كل سمك حُوتاً، وقد أعدُّوه للأكل إذا جاعوا أثناء السير، وكان الفتى يحمله وهو مشوي في مكتل.
وقوله تعالى: { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً } [الكهف: 61] أي: خرج الحوت المشوي من المكتل، وتسرَّب نحو البحر، والسَّرَب: مثل النفق أو السرداب، أو هو المنحدر، كما نقول: تسرب الماء من القِرْبة مثلاً؛ ذلك لأن مستوى الماء في القِرْبة أعلى فيتسرَّب منها، وهذه من عجائب الآيات أن يقفز الحوت المشويّ، وتعود له الحياة، ويتوجّه نحو البحر؛ لأنه يعلم أن الماء مسكنه ومكانه.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا... }.
(/2185)
________________________________________
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)

أي: جاوزا في سيرهما مجمع البحرين ومكان الموعد، قال موسى ـ عليه السلام ـ لفتاه: أحضر لنا الغداء فقد تعبنا من السفر، والنَّصَب: هو التعب.
فمعنى ذلك أنهما سارا حتى مجمع البحرين، ثم استراحا، فلما جاوزا هذا المكان بدا عليهما الإرهاق والتعب؛ لذلك طلب موسى الطعام. وهنا تذكَّر الفتى ما كان من نسيان الحوت.
(/2186)
________________________________________
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)

هذا كلام فتى موسى: أرأيت: أخبرني إِذْ لجأنا إلى الصخرة عند مَجْمع البحرين لنستريح { فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ.. } [الكهف: 63] ونلحظ أنه قال هنا { نَسِيتُ } وقال في الآية السابقة{ نَسِيَا.. }[الكهف: 61] ذلك لأن الأولى إخبار من الله، والثانية كلام فتى موسى.
فكلام الله تبارك وتعالى يدلُّنا على أن رئيساً متبوعاً لا يترك تابعه ليتصرف في كل شيء؛ لأن تابعه قد لا يهمه أمر المسير في شيء، وقد ينشغل ذِهْنه بأشياء أخرى تُنسِيه ما هو منُوط به من أمر الرحلة.
ثم يعتذر الفتى عما بَدَر منه من نسيان الحوت، ويقول: { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [الكهف: 63] فالشيطان هو الذي لعب بأفكاره وخواطره حتى أنساه واجبه، وأنساه ذكْر الحوت.
وقوله تعالى: { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً } [الكهف: 63] أي: اتخذ الحوتُ طريقه في البحر عَجَباً، في الآية السابقة قال:{ سَرَباً }[الكهف: 61] وهذه حال الحوت، وهنا يقول { عَجَباً } لأنه يحكي ما حدث ويتعجب منه، وكيف أن الحوت المشويّ تدبّ فيه الحياة حتى يقفز من المكتل، ويتجه صَوْبَ الماء، فهذا حقاً عجيبة من العجائب؛ لأنها خرجتْ عن المألوف.
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ.. }.
(/2187)
________________________________________
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64)

أي: قال موسى ـ عليه السلام { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ.. } [الكهف: 64] أي: نطلب، فهذا المكان الذي فُقِد فيه الحوت هو المكان المراد، فكأن الحوت كان أعلم بالموعد من موسى، وهكذا عُرف عنوان المكان، وهو مَجْمع البحرين، حتى يلتقي البحران فيصيران بحراً واحداً.
وهذه الصورة لا توجد إلاَّ في مسرح بني إسرائيل في سيناء. وهناك خليج العقبة وخليج السويس، ويلتقيان في بحر واحد عند رأس محمد.
ثم يقول تعالى: { فَارْتَدَّا عَلَىا آثَارِهِمَا قَصَصاً } [الكهف: 64] أي: عادا على أثر الأقدام كما يفعل قَصَّاصُو الأثر، ومعنى: { قَصَصاً } [الكهف: 64] أي: بدقة إلى أنْ وصلاَ إلى المكان الذي تسرَّب فيه الحوت، وهو الموعد الذي ضربه الله تعالى لموسى - عليه السلام - حيث سيجد هناك العبد الصالح.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا... }.
(/2188)
________________________________________
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)

سبق أن تحدثنا عن العبودية، فإنْ كانت لله تعالى فهي العزّ والشرف، وإنْ كانت لغير الله فهي الذلُّ والهوان، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ حَظْوة الإسراء والمعراج إلا لأنه عبد لله، كما قال سبحانه:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ.. }[الإسراء: 1]
كما أن العبودية لله يأخذ فيه العبد خَيْر سيده، أما العبودية للبشر فيأخذ السيد خَيْر عبده.
ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح، فقال: { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا.. } [الكهف: 65]وقد تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا، فقالوا: الرحمة وردتْ في القرآن بمعنى النبوة، كما في قوله تعالى:{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31]
فكان رَدُّ الله عليهم:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ.. }[الزخرف: 32]
أي: النبوة، ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل ـ عليه السلام ـ وعلى يد الرسل، أما هذه الرحمة، فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملَك؛ لذلك قال تعالى: { آتَيْنَاهُ.. } [الكهف: 65] نحن، وقال: { مِّنْ عِندِنَا.. } [الكهف: 65]
فالإتيان والعندية من الله مباشرة.
ثم يقول بعدها: { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً.. } [الكهف: 65] أي: من عندما لا بواسطة الرسل: لذلك يسمونه العلم اللدني، كأنه لا حرجَ على الله تعالى أن يختار عبداً من عباده، ويُنعِم عليه بعلم خاص من وراء النبوة.
إذن: علينا أنْ نُفرِّق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لأن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق بالتكاليف: افعل كذا ولا تفعل كذا، لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها عِلَل باطنة فوق العِلل الظاهرية، وهذه هي التي اختصَّ الله بها هذا العبد الصالح (الخضر) كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تُحرّم القتل وتحرم إتلاف مال الغير، فأتى الخضر وأتلف السفينة وقتل الغلام، وقد اعترض موسى ـ عليه السلام ـ على هذه الأعمال؛ لأنه لا عِلْم َله بعلتها، ولو أن موسى ـ عليه السلام ـ علم العلّة في خَرْق السفينة لبادر هو إلى خرقها.
إذن: فعلم موسى غير علم الخضر؛ لذلك قال له:{ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً }[الكهف: 67-68]
فهذا عِلْم ليس عندك، فعِلْمي من كيس الولاية، وعلمك من كيس الرسل، وهما في الحقيقة لا يتعارضان، وإنْ كان لعلم الولاية عِلَل باطنة، ولعلم الرسالة عِلَل ظاهرة.
ثم يقول تعالى: { قَالَ لَهُ مُوسَىا هَلْ أَتَّبِعُكَ... }.
(/2189)
________________________________________
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)

كأن موسى عليه السلام يُعلِّمنا أدب تلقّي العلم وأدب التلميذ مع معلمه، فمع أن الله تعالى أمره أن يتبع الخضر، فلم يقُل له مثلاً: إن الله أمرني أن أتبعك، بل تلطّف معه واستسمحه بهذا الأسلوب: { هَلْ أَتَّبِعُكَ.. } [الكهف: 66]
والرشد: هو حُسْن التصرّف في الأشياء، وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده، وسبق أن قلنا: إن الرُّشْد يكون في سنِّ البلوغ، لكن لا يعني هذا أن كل مَنْ بلغ يكون راشداً، فقد يكون الإنسان بالغاً وغير راشد، فقد يكون سفيهاً.
لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن اليتامى قال:{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىا }[النساء: 6] أي: اختبروهم، واختبار اليتيم يكون حال يُتْمه وهو ما يزال في كفالتك، فعليك أنْ تكلّفه بعمل لإصلاح حاله، وتعطيه جزءاً من ماله يتصرَّف فيه تحت عينك وفي رعايتك، لترى كيف سيكون تصرفه.
عليك أنْ تحرص على تدريبه لمواجهة الحياة، لا أن تجعله في مَعْزل عنها إلى أنْ يبلغَ الرشْد، ثم تدفع إليه بماله فلا يستطيع التصرف فيه لعدم خبرته، وإنْ فشل كانت التجربة في ماله والخسارة عليه.
إذن: فاختبار اليتيم يتمُّ وهو ما يزال في ولايتك، وتحت سمعك وبصرك رعاية لحقه.{ حَتَّىا إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ.. }[النساء: 6] وهو سن البلوغ، ولم يقُلْ بعدها: فادفعوا إليهم أموالهم؛ لأن بعد البلوغ شرطاً آخر{ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً.. }[النساء: 6] فعلى الوصيّ أنْ يُراعِيَ هذا الترتيب:
أنْ تُراعي اليتيم وهو تحت ولايتك، وتدفع به في مُعْتَرك الحياة وتجاربها حتى يتمكن من مواجهة الحياة ولا يتخبط في ماله لعدم تجربته وخبرته، فإن علمت رشده بعد البلوغ فادفع إليه بماله ليتصرف فيه، فإن لم تأنس منه الرشد وحسن التصرف فلا تترك له المال يبدده بسوء تصرفه. لذلك يقول تعالى في هذا المعنى:{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ.. }[النساء: 5] ولم يقُلْ: أموالهم؛ لأن السفيه لا مالَ له حال سَفَهه، بل هو مالكم لِتُحسِنوا التصرف فيه وتحفظوه لصاحبه لحين تتأكد من رُشْده.
إذن: فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الأشياء، لكن هل يعني ذلك أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكن راشداً؟ لا، بل كان راشداً في مذهبه هو كرسول، راشداً في تبليغ الأحكام الظاهرية.
أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح، وقد دلّ هذا على أنه طلب شيئاً لم يكن معلوماً له، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال:{ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }[الإسراء: 85] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم:{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }[طه: 114]
لذلك يقول الشاعر:كُلّما ازْدَدْتُ عُلوماً زِدْتُ إيقَانَاً بجْهلي

لأن معنى أنه ازداد عِلْماً اليوم أنه كان ناقصاً بالأمس، وكذلك هو ناقص اليوم ليعلمَ غداً.
والإنسان حينما يكون واسعَ الأفق محباً للعلم، تراه كلما عَلِم قضية اشتاق لغيرها، فهو في نَهمٍ دائم للعلم لا يشبع منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: " منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال ".
والشاعر الذي تنَّبه لنفسه حينما دَعَتْه إلى الغرور والكبرياء والزَّهْو بما لديه من علم قليل، إلا أنه كان متيقظاً لخداعها، فقال:قالتِ النفْسُ قَدْ علِمْتُ كَثِيراً قُلْتُ هَذَا الكثيرُ نَزْعٌ يسيِرُثم جاء بمثل توضيحي:تمْلأُ الكُوزَ غَرْفَةٌ من مُحيِط فَـيَرى أنَّـهُ المحيـطُ الكَبـيِرُثم يقول الحق سبحانه: } قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً {.
(/2190)
________________________________________
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)

هنا يبدأ العبد الصالح يُملي شروط هذه الصُّحْبة ويُوضّح لموسى ـ عليه السلام ـ طبيعة عِلْمه ومذهبه، فمذهبُك غير مذْهبي، وعلمي من كيس غير كيسك، وسوف ترى مني تصرفات لن تصبر عليها؛ لأنه لا عِلْم لك ببواطنها، وكأنه يلتمس له عُذْراً على عدم صَبْره معه؛ لذلك يقول: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً }.
(/2191)
________________________________________
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)

فلا تحزن لأني قُلت: لن تستطيع معي صبراً؛ لأن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خُبر بها، وكيف تصبر على شيء لا عِلْمَ لك به؟
ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ أدبَ الحوار واختلافَ الرأي بين طريقتين: طريقة الأحكام الظاهرية، وطريقة ما خلف الأحكام الظاهرية، وأن كلاً منهما يقبَل رأْيَ الآخر ويحترمه ولا يعترض عليه أو يُنكره، كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم على بعض، بل ويُكفِّر بعضهم بعضاً، فإذا رأَوْا مثلاً عبداً مَنْ عباد الله اختاره الله بشيء من الفيوضات، فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه، وربما وصل الأمر إلى الشتائم والتجريح، بل والتكفير.
لقد تجلى في قول الخضر: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [الكهف: 68] مظهر من مظاهر أدب المعلّم مع المتعلِّم، حيث احترم رأيه، والتمس له العُذْر إن اعترض عليه، فلكُلٍّ منهما مذهبه الخاص، ولا يحتج بمذهب على مذهب آخَر.
فماذا قال المتعلم بعد أن استمع إلى هذه الشروط؟ { قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ.. }.
(/2192)
________________________________________
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)

أي: أنا قابل لشروطك أيُّها المعلم فاطمئن، فلن أجادلك ولن أعارضك في شيء. وقدّم المشيئة فقال: { إِن شَآءَ اللَّهُ.. } [الكهف: 69] ليستميله إليه ويُحنَّن قلبه عليه { صَابِراً.. } [الكهف: 69] على ما تفعل مهما كان { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } [الكهف: 69] وهكذا جعل نفسه مأموراً، فالمعلم آمراً، والمتعلّم مأمور.
(/2193)
________________________________________
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)

وهذا تأكيد من الخضر لموسى، وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته: إنْ تبعتني فلا تسألْني حتى أخبرك، وكأنه يُعلِّمه أدب تناول العلم والصبر عليه، وعدم العجلة لمعرفة كل أمر من الأمور على حِدة.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَانْطَلَقَا... }.
(/2194)
________________________________________
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)

{ فَانْطَلَقَا } سارا معاً، حتى ركبا سفينة، وكانت مُعَدَّة لنقل الركاب، فما كان من الخضر إلا أنْ بادر إلى خَرْقها وإتلافها، عندها لم يُطِق موسى هذا الأمر، وكبُرت هذه المسألة في نفسه فلم يصبر عليها فقال: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } [الكهف: 71]
أي: أمراً عجيباً أو فظيعاً. ونسى موسى ما أخذه على نفسه من طاعة العبد الصالح وعدم عصيانه والصبر على ما يرى من تصرفاته.
كأن الحقَّ ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يُعلِّمنا أن الكلام النظري شيء، والعمل الواقعي شيء آخر، فقد تسمع من أحدهم القول الجميل الذي يعجبك، فإذا ما جاء وقت العمل والتنفيذ لا تجد شيئاً؛ لأن الكلام قد يُقَال في أول الأمر بعبارة الأريحية، كمن يقول لك: أنا رَهْن أمرك ورقبتي لك، فإذا ما أحوجك الواقع إليه كنت كالقابض على الماء لا تجد منه شيئاً.
ونلحظ هنا أن موسى ـ عليه السلام ـ لم يكتف بالاستفهام: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا.. } [الكهف: 71] بل تعدَّى إلى اتهامه بأنه أتى أمراً منكراً فظيعاً؛ لأن كلام موسى النظري شيء ورؤيته لخرق السفينة وإتلافها دون مبرر شيء آخر؛ لأن موسى استحضر بالحكم الشرعي إتلاف مال الغير، فضلاً عن إغراق ركاب السفينة، فرأى الأمر ضخماً والضرر كبيراً، هذا لأن موسى يأخذ من كيس والخضر يأخذ من كيس آخر.
(/2195)
________________________________________
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)

وهذا درس آخر من الخضر لموسى ـ عليهما السلام ـ يقول: إن كلامي لك كان صادقاً، وقد حذرتُك أنك لن تصبرَ على ما ترى من تصرفاتي، وها أنت تعترض عليَّ، وقد اتفقنا وأخذنا العهد ألاَّ تسألني عن شيء حتى أُخبرك أنا به.
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ... }.
(/2196)
________________________________________
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)

يعتذر موسى ـ عليه السلام ـ عما بدر منه لمعلمه، ويطلب منه مسامحته وعدم مؤاخذته { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } [الكهف: 73] أي: لا تُحمِّلني من أمر اتباعك عُسْراً ومشقة. فسامحه الخضر وعاود السير.
(/2197)
________________________________________
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)

تلاحظ أن الاعتداء الأول من الخضر كان على مال أتلفه، وهنا صعَّد الأمر إلى قَتْل نفس زكية دون حق، فبأيِّ جريرة يُقتل هذا الغلام الذي لم يبلغ رُشْده؟ لذلك قال في الأولى: { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } [الكهف: 71] أي عجيباً أما هنا فقال: { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } [الكهف: 74] أي: مُنكَراً؛ لأن الجريمة كبيرة.
والنفس الزكية: الطاهرة الصافية التي لم تُلوِّثها الذنوب ومخالفة التكاليف الإلهية.
وكذلك يأتي الرد من الخضْر مخالفاً للرد الأول، ففي المرة الأولى قال:{ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً }[الكهف: 72]
أي: قلت كلاماً عاماً، أما هنا فقال: { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً }.
(/2198)
________________________________________
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)

وأكَّدها وأرده بالكلام أي: قُلْت لك أنت.
ثم بعد المرة الثانية التي يقاطع فيها موسى معلمه الخضر يأخذ عهداً جديداً على نفسه.
(/2199)
________________________________________
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)

وهكذا قطع موسى ـ عليه السلام ـ الطريق على نفسه، وأعطى لها فرصة واحدة يتم بعدها الفراق؛ لذلك في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " رحمنا الله، ورحم أخي موسى لو صبر لعرفنا الكثير ".
فهذه هي الثالثة، وليس لموسى عذر بعد ذلك.
ومعنى: { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً } [الكهف: 76] أي: قد فعلت معي كل ما يمكن فعله، وليس لي عُذْر بعد ذلك.
ثم يقول سبحانه: { فَانطَلَقَا حَتَّىا إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ... }.
(/2200)
________________________________________
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)

استطعم: أي طلب الطعام، وطلَبُ الطعام هو أصدق أنواع السؤال، فلا يسأل الطعام إلا جائع محتاج، فلو سأل مالاً لقلنا: إنه يدخره، إنما الطعام لا يعترض عليه أحد، ومنْعُ الطعام عن سائله دليل بُخْل ولُؤْم متأصل في الطباع، وهذا ما حدث من أهل هذه القرية التي مَرّا بها وطلبَا الطعام فمنعوهما.
والمتأمل في الآية يجد أن أسلوب القرآن يُصوّر مدى بُخْل هؤلاء القوم ولُؤْمهم وسُوء طباعهم، فلم يقُلْ مثلاً: فأبوا أن يطعموهما، بل قال: { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا.. } [الكهف: 77]وفرْق بين الإطعام والضيافة، أَبَوْا الإطعام يعني منعوهما الطعام، لكن أَبَوْا أن يُضيّفوهما، يعني كل ما يمكن أنْ يُقدَّم للضيف حتى مجرد الإيواء والاستقبال، وهذا مُنْتَهى ما يمكن تصوُّره من لُؤمْ هؤلاء الناس.
وتلحظ أيضاً تكرار كلمة { أَهْلَ } فلما قال: { أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } [الكهف: 77] فكان المقام للضمير فيقول: استطعموهم، لكنه قال: { اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا.. } [الكهف: 77] لأنهم حين دخلوا القرية: هل قابلوا كل أهلها، أم قابلوا بعضهم الذين واجهوهم أثناء الدخول؟
بالطبع قابلوا بعضهم، أما الاستطعام فكان لأهل القرية جميعاً، كأنهما مرّا على كل بيت في القرية وسألا أهلها جميعاً واحداً تلو الآخر دون جدوى، كأنهم مجمعون على البُخْل ولُؤْم الطباع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ.. } [الكهف: 77]
أي: لم يلبثا بين هؤلاء اللئام حتى وَجَدا جداراً يريد أنْ ينقضّ، ونحن نعرف أن الإرادة لا تكون إلا للمفكر العاقل، فإنْ جاءت لغير العاقل فهي بمعنى: قَرُب. أي: جداراً قارب أنْ ينهار، لما نرى فيه من علامات كالتصدُّع والشُّروخ مثلاً.
وهذا الفهم يتناسب مع أصحاب التفكير السطحي وضَيِّقي الأفق، أما أصحاب الأفق الواسع الذين يعطون للعقل دوره في التفكير والنظر ويُدققون في المسائل فلا مانع لديهم أنْ يكون للجدار إرادة على أساس أن لكل شيء في الكون حياةً تناسبه، ولله تعالى أن يخاطبه ويكون بينهما كلام.
ألم يقل الحق سبحانه:{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ.. }[الدخان: 29]
فإذا كانت السماء تبكي فقد تعدَّتْ مجرد الكلام، وأصبح لها أحاسيس ومشاعر، ولديها عواطف قد تسمو على عواطف البشر، فقوله:{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ.. }[الدخان: 29] دليل على أنها تبكي على فَقْد الصالحين.
وقد سُئِل الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ عن هذه المسألة فقال: " نعم، إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في السماء وموضوع في الأرض، أما موضعه في الأرض فموضع مُصلاَّه، أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله ".
وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع الكَوْن من حوله، فالكون ساجد لله مُسبِّح لله طائع لله يحب الطائعين وينُبو بالعاصين ويكرههم ويلعنهم؛ لذلك العرب تقول: (نَبَا به المكان) أي: كرهه لأنه غير منسجم معه، فالمكان طائع وهو عاصٍ، والمكان مُسبِّح وهو غافل.

وعلى هذا الفهم فقوله تعالى: } يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ.. { [الكهف: 77] قول على حقيقته.
إذن: فهذه المخلوقات لها إحساس ولها بكاء، وتحزن لفقد الأحبة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أُبعث ".
ورُوِي في السيرة حنين الجذع إلى رسول الله، وتسبيح الحصى في يده صلى الله عليه وسلم. وسبق أن أوضحنا هذه المسألة فقلنا: لا ينبغي أن نقول: سَبَّح الحصى في يد رسول الله؛ لأن الحصى يُسبِّح أيضاً في يد أبي جهل، لكن نقول: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يديه.
ولا غرابة أن يعطينا القرآن أمثلة لكلام هذه الأشياء، فقد رأينا العلماء في العصر الحديث يبحثون في لغة للأسماك، ولغة للطير، ولغة للوطاويط التي أخذوا منها فكرة الرادار، بل وتوصلوا إلى أن الحيوان يستشعر بوقوع الزلزال وخاصة الحمار، وأنها تفرّ من المكان قبل وقوع الزلزال مباشرة. إذن: فلهم وسائل إدراك، ولهم لغة يتفاهمون بها، ولهم منطق يعبرون به.
ثم يقول الحق سبحانه عن فِعْل الخضر مع الجدار الذي قارب أن ينقض } فَأَقَامَهُ.. { [الكهف: 77] أي: أصلحه ورمَّمه } قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً.. { [الكهف: 77]
هذا قول موسى ـ عليه السلام ـ لما رأى لُؤْمَ القوم وخِسّتهم، فقد طلبنا منهم الطعام فلم يُطْعمونا، بل لم يقدموا لنا مجرد المأوى، فكيف نعمل لهم مثل هذا العمل دون أجرة؟
وجاء هذا القول من موسى ـ عليه السلام ـ لأنه لا يعلم الحكمة من وراء هذا العمل.
ثم يقول الحق سبحانه: } قَالَ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ... {.
(/2201)
________________________________________
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)

{ قَالَ } أي: العبد الصالح { هَـاذَا } أي: ما حدث منك من قولك:{ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }[الكهف: 77] وقد سبق أن اشترط موسى ـ عليه السلام ـ على نفسه إن اعترض على معلمه هذه المرة يكون الفِراقُ بينهما، وكأن العبد الصالح لم يَأْتِ بشيء من عنده، لقد قال موسى:{ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي }[الكهف: 76] وها هو يسأله، إذن: فليس إلا الفراق: { قَالَ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ.. } [الكهف: 78]
قوله: { هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ.. } [الكهف: 78] تُعد دُستوراً من الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ودليلاً على أن هذين المذهبين لا يلتقيان، فيظل كل منهما له طريقه: المرتاض له طريقه، وغير المرتاض له طريقه، ولا ينبغي أن يعترض أحدهما على الآخر، بل يلزم أدبه في حدود ما علَّمه الله.
ثم يقول تعالى على لسان الخضر: { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [الكهف: 78] أي: لن أتركك وفي نفسك هذه التساؤلات، حتى لا يكون في نفسك مني شيء، سوف أخبرك بحقيقة هذه الأفعال التي اعترضْتَ عليها لتعلم أن الله لم يخدعْكَ، بل أرسلك إلى مَنْ يُعلّمك شيئاً لم تكُنْ تعلمه.
ثم أخذ العبد الصالح يكشف لموسى الحكمة من هذه الأفعال واحداً تِلْو الآخر، كما لو عتبَ عليك صاحبك في أمر ما، وأنت حريص على مودَّته فتقول له: أمهلني حتى أوضح لك ما حدث، لقد فعلتُ كذا من أجل كذا، لتريح قلبه وتُزيل ما التبس عليه من هذا الأمر.
وقالوا: إن هذا من أدب الصُّحْبة، فلا يجوز بعد المصاحبة أنْ نفترقَ على الخلاف، ينبغي أن نفترق على وِفَاق ورضا؛ لأن الافتراق على الخلاف يُنمِّي الفجوة ويدعو للقطيعة، إذن: فقبل أنْ نفترق: المسألة كيت وكيت، فتتضح الأمور وتصفو النفوس.
ثم يقول الحق سبحانه: { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ... }.
(/2202)
________________________________________
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)

قوله: { لِمَسَاكِينَ } اللام هنا للملكية، يعني مملوكة لهم، وقد حسمتْ هذه الآيةُ الخلافَ بين العلماء حول تعريف الفقير والمسكين، وأيهما أشدّ حاجة من الآخر، وعليها فالمسكين: هو مَنْ يملك شيئا لا يكفيه، كهؤلاء الذين كانوا يملكون سفينة تعمل في البحر، وسماهم القرآن مساكين، أما الفقير: فهو مَنْ لا يملك شيئاً.
ومعنى: { يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ.. } [الكهف: 79] أي: مجال عملهم البحر، يعملون فيه بنقل الركاب أو البضائع، أو الصيد، أو خلافه.
وقوله: { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا.. } [الكهف: 79] المتكلم هنا هو الخِضْر ـ عليه السلام ـ فنسب إرادة عَيْب السفينة إلى نفسه، ولم ينسبها إلى الله تعالى تنزيهاً له تعالى عَمَّا لا يليق، أما في الخير فنسب الأمر إلى الله فقال:{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا.. }[الكهف: 82] لذلك فإنه في نهاية القصة يُرجع كل ما فعله إلى الله فيقول:{ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي.. }[الكهف: 82] ثم يقول تعالى: { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [الكهف: 79] كلمة: كل ترسم سُوراً كُلياً لا يترك شيئاً، فالمراد يأخْذ كل سفينة، سواء أكانت معيبة أم غير معيبة، لكن الحقيقة أنه يأخذ السفينة الصالحة للاستعمال فقط، ولا حاجةَ له في المعيبة الغير صالحة، وكأن في سياق الآية صفة مُقدَّرة: أي يأخذ كل سفينة صالحة غَصْباً من صاحبها.
والغَصْب: ما أُخذ بغير الحق، عُنْوةً وقَهْراً ومُصَادرة، وله صور متعددة منها مثلاً السرقة: وهي أَخْذ المال من حِرْزه خفية ككسر دولاب أو خزينة، ومنها الغَصْب: وهو أخْذ مال الغير بالقوة، وتحت سمعه وبصره، وفي هذه الحالة تحدث مقاومة ومشادة بين الغاصب والمغصوب.
ومنها الخطف: وهو أخْذ مال الغير هكذا علانية، ولكن بحيلةٍ ما، يخطف الشيء ويفرّ به دون أن تتمكّن من اللحاق به، فالخَطْفُ ـ إذن ـ يتم علانية ولكن دون مقاومة. ومنها الاختلاس: وهو أن تأخذ مال الغير وأنت مؤتمن عليه، والاختلاس يحدث خفية، ولا يخلو من حيلة تستره.
وما دام الأمر هنا غَصْباً فلا بُدَّ لمالك الشيء أنْ يقاوم ولو بعض مقاومة يدافع بها عن حَقِّه، وقد يتوسل إليه أنْ يترك له ماله، فالمسألة ـ إذن ـ فيها كلام وأخْذٌ وَرَدٌّ.
إذن: خَرْق السفينة في ظاهره اعتداء على ملك مُقوّم، وهذا منهيّ عنه شرعاً، لكن إذا كان هذا الاعتداء سيكون سبباً في نجاة السفينة كلها من الغاصب فلا بأس إذن، وسفينة معيبة خير من عدمها، ولو عَلِم موسى ـ عليه السلام ـ هذه الحكمة لَبادرَ هو إلى خَرْقها.
وما دام الأمر كذلك، فعلينا أن نُحوِّل السفينة إلى سفينة غير صالحة ونعيبها بخَرْقها، أو بخلْع لَوْح منها لنصرف نظر الملك المغتصب عن أَخْذها.

وكلمة } وَرَآءَهُم { هنا بمعنى أمامهم؛ لأن هذا الظالم كان يترصَّد للسفن التي تمر عليه، فما وجدها صالحة غصبها، فهو في الحقيقة أمامهم، على حَدِّ قوله تعالى:{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىا مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ }[إبراهيم: 16] وهل جهنم وراءه أم أمامه؟
وتستعمل وراء بمعنى: بَعْد، كما في قوله تعالى:{ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }[هود: 71]
وتأتي وراء بمعنى: غير. كما في قوله تعالى في صفات المؤمنين:{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَىا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىا وَرَآءَ ذالِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْعَادُونَ }[المؤمنون: 5-7]
وفي قوله تعالى:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ.. }[النساء: 23] إلى..{ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَالِكُمْ.. }[النساء: 24]
وقد تستعمل وراء بمعنى خلف، كما في قوله تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ.. }[آل عمران: 187]
إذن: كلمة } وَرَاءَ { جاءتْ في القرآن على أربعة معَانٍ: أمام، خلف، بعد، غير. وهذا مما يُميِّز العربية عن غيرها من اللغات، والملَكة العربية قادرة على أن تُميّز المعنى المناسب للسياق، فكلمة العَيْن ـ مثلاً ـ تأتي بمعنى العين الباصرة. أو: عين الماء، أو: بمعنى الذهب والفضة، وبمعنى الجاسوس. والسياق هو الذي يُحدد المعنى المراد.
ثم يقول الحق سبحانه في قرآنه عما أوضحه الخضر لموسى عليه السلام مما خفي عليه: } وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ.. {.
(/2203)
________________________________________
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)

الغلام: الولد الذي لم يبلغ الحُلُم وسِنّ التكليف، وما دام لم يُكلَّف فما يزال في سِنِّ الطهارة والبراءة من المعاصي؛ لذلك لما اعترض موسى على قتله قال:{ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً.. }[الكهف: 74] أي: طاهرة، ولا شكَّ أن أخْذ الغلام في هذه السِّنِّ خَيْر له ومصلحة قبل أنْ تلوّثه المعاصي، ويدخل دائرة الحساب.
إذن: فطهارته هي التي دعتْنَا إلى التعجيل بأخذه. هذا عن الغلام، فماذا عن أبيه وأمه؟
يقول تعالى: { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ.. } [الكهف: 80] وكثيراً ما يكون الأولاد فتنة للآباء، كما قال تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ }[التغابن: 14]
والفتنة بالأولاد تأتي من حِرْص الآباء عليهم، والسعي إلى جعلهم في أحسن حال، وربما كانت الإمكانات غير كافية، فيُضطر الأب إلى الحرام من أجل أولاده. وقد عَلِم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أن هذا الغلام سيكون فتنة لأبويه، وهما مؤمنان ولم يُرِد الله تعالى لهما الفتنة، وقضى أن يقبضهما إليه على حال الإيمان.
وكأن قضاء الله جاء خيراً للغلام وخيراً للوالدين، وجميلاً أُسْدِي إلى كليْهما، وحكمة بالغة تستتر وراء الحدَث الظاهر الذي اعترض عليه موسى عليه السلام.
لذلك يُعَدُّ من الغباء إذا مات لدينا الطفل أو الغلام الصغير أَنْ يشتد الحزن عليه، وننعي طفولته التي ضاعتْ وشبابه الذي لم يتمتع به، ونحن لا ندري ما أُعِدَّ له من النعيم، لا ندري أن مَنْ أُخِذ من أولادنا قبل البلوغ لا يُحدِّد له مسكن في الجنة، لأنها جميعاً له، يجري فيها كما يشاء، ويجلس فيها أين أحب، يجلس عند الأنبياء وعند الصحابة، لا يعترضه أحد، ولذلك يُسمَّوْن " دعاميص الجنة ".
ثم يقول تعالى: { فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } [الكهف: 80]
خشينا: خِفْنا. فالواحد منا يولد له ابن فيكون قرة عَيْن وسنداً، وقد يكون هذا الابن سبباً في فساد دين أبيه، ويحمله على الكذب والرشوة والسرقة، فهذا الابن يقود أباه إلى الجحيم، ومن الخير أن يبعد الله هذا الولد من طريق الوالد فلا يطغى.
(/2204)
________________________________________
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)

ولا يفوت الخضر ـ عليه السلام ـ أن ينسب الخير هنا أيضاً إلى الله، فيقول: أنا أُحب هذا العمل وأريده، إنما الذي يُبدّل في الحقيقة هو الله تعالى: { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً } [الكهف: 81] فهذا الخير من الله، وما أنا إلا وسيلة لتحقيقه.
وقوله: { خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً.. } [الكهف: 81] أي: طُهْراً { وَأَقْرَبَ رُحْماً } [الكهف: 81] لأنهما أرادا الولد لينفعهما في الدنيا، وليكون قُرَّة عَيْن لهما، ولما كانت الدنيا فاتنة لا بقاءَ لها، وقد ثبت في علمه تعالى أن هذا الولد سيكون فتنة لأبويْه، وسيجلب عليهما المعاصي والسيئات، وسيجرّهما إلى العذاب، كانت الرحمة الكاملة في أخذه بدل أنْ يتمتّعا به في الدنيا الفانية، ويشقيَا به في الآخرة الباقية.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ... }.
(/2205)
________________________________________
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

{ لِغُلاَمَيْنِ } أي: لم يبلغا سِنَّ الرشْد، وفوق ذلك هما يتيمان.
وكان تحت هذا الجدار المائل كَنْز لهذين الغلامين الغير قادرين على تدبير شأنهما، ولك أنْ تتصوّر ما يحدث لو تهدَّم الجدار، وانكشف هذا الكنز، ولمع ذهبه أمام عيون هؤلاء القوم الذين عرفت صفاتهم، وقد منعوهما الطعام بل ومجرد المأْوى، إنَّ أقل ما يُوصفون به أنهم لِئَام لا يُؤتمنون على شيء. ولقد تعوَّدنا أن نعبر عن شدة الضياع بقولنا: ضياع الأيتام على موائد اللئام.
إذن: فلا شَكَّ أن ما قام به العبد الصالح من بناء الجدار وإقامته أو ترميمه يُعَدُ بمثابة صَفْعة لهؤلاء اللئام تناسب ما قابلوهم به من تنكُّر وسوء استقبال، وترد لهم الصَّاع صاعين حين حرمهم الخضر من هذا الكنز.
فعلَّة إصلاح الجدار ما كان تحته من مال يجب أنْ يحفظ لحين أنْ يكبُرَ هذان الغلامان ويتمكنا من حفظه وحمايته في قرية من اللئام. وكأن الحق سبحانه وتعالى أرسله لهذين الغلامين في هذا الوقت بالذات، حيث أخذ الجدار في التصدُّع، وظهرت عليه علامات الانهيار ليقوم بإصلاحه قبل أنْ يقع وينكشف أمر الكنز وصاحبيه في حال الضعف وعدم القدرة على حمايته.
ثم إن العبد الصالح أصلح الجدار ورَدَّه إلى ما كان عليه رَدَّ مَنْ علَّمه الله من لَدُنْه، فيقال: إنه بنَاهُ بناءً موقوتاً يتناسب وعُمْرَ الغلامين، وكأنه بناه على عمر افتراضي ينتهي ببلوغ الغلامين سِنَّ الرشْد والقدرة على حماية الكنز فينهار. وهذه في الواقع عملية دقيقة لا يقدر على حسابها إلا مَنْ أُوتِي علماً خاصاً من الله تعالى.
ويبدو من سياق الآية أنهما كانا في سِنٍّ واحدة توأمين لقوله تعالى: { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا.. } [الكهف: 82] أي: سوياً، ومعنى الأشُدّ: أي القوة، حيث تكتمل أجهزة الجسم وتستوي، وأجهزة الجسم تكتمل حينما يصبح المرء قادراً على إنجاب مثله.
وتلاحظ أن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قال هنا: { يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا.. } [الكهف: 82] ولم يقُلْ رُشْدهما، لأنْ هناك فرْقاً بين الرُّشْد والأَشُدّ فالرُّشْد: حُسْن التصرُّف في الأمور، أما الأشُدَّ: فهو القوة، والغلامان هنا في حاجة إلى القوة التي تحمي كَنْزهما من هؤلاء اللئام فناسب هنا { أَشُدَّهُمَا.. } [الكهف: 82]
ثم يقول تعالى: { وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ.. } [الكهف: 82] أي: يستخرجاه بما لديهما من القوة والفُتوَّة. والرحمة: صفة تُعطَى للمرحوم لتمنعه من الداء، كما في قوله تعالى:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ.. }[الإسراء: 82] فقوله: شفاء: أي: يشفي داءً موجوداً ويُبرِئه. ورحمة: أي رحمة تمنع عودة الداء مرة أخرى.
وكذلك ما حدث لهذين الغلامين، كان رحمة من الله لحماية مالهما وحِفْظ حقِّهما، ثم لم يَفُتْ العبد الصالح أنْ يُرجِع الفضل لأهله، وينفي عن نفسه الغرور بالعلم والاستعلاء على صاحبه، فيقول: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي.

. { [الكهف: 82] أي: أن ما حدث كان بأمر الله، وما علَّمتك إياه كان من عند الله، فليس لي مَيْزة عليك، وهذا درس في أَدب التواضع ومعرفة الفضْل لأهله.
ثم يقول: } ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً { [الكهف: 82] تأويل: أي إرجاع الأمر إلى حقيقته، وتفسير ما أشكل منه.
***
بعد ذلك تنتقل الآيات إلى سؤال آخر من الأسئلة الثلاثة التي سألها كفار مكة لرسول الله بإيعاز من اليهود، وهو السؤال عن الرجل الطَّواف الذي طاف البلاد: } وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ.. {.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يونيو 15, 2008 8:59 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)

ذو القرنين: هذا لقبه؛ لأنه ربما كان في تكوينه ذا قرنين، أو يلبس تاجاً له اتجاهان؛ أو لأنه بلغ قرني الشمس في المشرق وفي المغرب.
وقد بحث العلماء في: مَنْ هو ذو القرنين؟ فمنهم مَنْ قال: هو الإسكندر الأكبر المقدوني الطواف في البلاد، لكن الإسكندر الأكبر كان في مقدونيا في الغرب، وذو القرنين جاب المشرق والمغرب مما دعا عالماً محققاً من علماء الهند هو: أبو الكلام آزاد ـ وزير المعارف الهندي ـ إلى القول بأنه ليس هو الإسكندر الأكبر، بل هو قورش الصالح، وهذه رحلته في الشرق والغرب وبين السدين، كما أن الإسكندر كان وثنياً، وكان تلميذاً لأرسطو، وذو القرنين رجل مؤمن كما سنعرف من قصته.
وعلى العموم، ليس من صالح القصة حَصْرها في شخص بعينه؛ لأن تشخيص حادثة القصة يُضعِف من تأثيرها، ويصبغها بِصبْغة شخصية لا تتعدى إلى الغير فنرى مَنْ يقول بأنها مسألة شخصية لا تتكرر.
إذن: لو جاء العلم في ذاته سنقول: هذه الحادثة أو هذا العَمَل خاص بهذا الشخص، والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يريد أن يضرب لنا مثلاً يعُمُّ أي شخص، ماذا سيكون مَسْلكه وتصرّفه إنْ مكَّنَ الله له ومنحه الله قوة وسلطة؟
ولو حددَ القرآن هذه الشخصية في الإسكندر أو قورش أو غيرهما لَقُلْنَا: إنه حَدث فرديّ لا يتعدى هذا الشخص، وتنصرف النفس عن الأُسْوة به، وتفقد القصة مغزاها وتأثيرها. ولو كان في تعيينه فائدة لَعيَّنه الله لَنَا.
وسبق أنْ أوضحنا أن الحق ـ سبحانه ـ عندما ضرب مثلاً للذين كفروا، قال:{ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ.. }[التحريم: 10] ولم يُعيّنهما على التحديد؛ لأن الهدف من ضرب المثل هنا بيان الرسول المرسَل من الله لهداية الناس لم يتمكّن من هداية زوجته وأقرب الناس إليه؛ لأن الإيمان مسألة شخصية، لا سيطرة فيها لأحد على أحد.
وكذلك لما ضرب الله مثلاً للذين آمنوا قال:{ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ.. }[التحريم: 11]
ففرعون الذي أضَلَّ الناس وادَّعى الألوهية زوجته مؤمنة، وكأن الحق سبحانه يُلمِّح للناس جميعاً أن رأيك في الدين وفي العقائد رَأْي ذاتي، لا يتأثر بأحد أيّاً كان، لا في الهداية بنبي، ولا في الغواية بأضلِّ الضالين الذي ادعى الألوهية.
وهكذا يحفظ الإسلام للمرأة دورها وطاقتها ويحترم رأيها.
إذن: الحق سبحانه وتعالى أتى بهذه القصة غير مُشخّصة لتكون نموذجاً وأُسْوة يحتذي بها كل أحد، وإلاَّ لو شخصتْ لارتبطتْ بهذا الشخص دون غيره، أما حينما تكلم الحق سبحانه عن مريم فنراه يحددها باسمها، بل واسم أبيها؛ ذلك لأن ما سيحدث لمريم مسألة خاصة بها، ولن تحدث بعدها أبداً في بنات آدم، لذلك عيَّنها وشخَّصها؛ لأن التشخيص ضروري في مثل هذا الموقف.

أما حين يترك المثل أو القصة دون تشخيص، فهذا يعني أنها صالحة لأنْ تتكرر في أيّ زمان أو في أيّ مكان، كما رأينا في قصة أهل الكهف، وكيف أن الحق سبحانه أبهمهم أسماءً، وأبهمهم مكاناً وأبهمهم زماناً، وأبهمهم عدداً، ليكونوا أُسْوة وقُدْوة للفتيان المؤمنين في أيِّ زمان، وفي أيِّ مكان، وبأيِّ عدد.
وقوله: } وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ.. { [الكهف: 83] نلاحظ أن مادة السؤال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن أخذتْ حيِّزاً كبيراً فيه، فقد ورد السؤال للنبي من القوم ست عشرة مرة، إحداها بصيغة الماضي في قوله تعالى:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.. }[البقرة: 186]
وخمس عشرة مرة بصيغة المضارع، كما في:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ.. }[البقرة: 189]
وقوله:{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ.. }[البقرة: 215]{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ.. }[البقرة: 217]{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ.. }[البقرة: 219]{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ }[البقرة: 219]{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىا قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ.. }[البقرة: 220]{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ.. }[البقرة: 222]{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ.. }[المائدة: 4]{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ }[الأعراف: 187] ثلاث مرات، [النازعات: 42]{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ.. }[الأنفال: 1]{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ.. }[الإسراء: 85]
} وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ.. { [الكهف: 83]{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً.. }[طه: 105]
خمسة عشر سؤالاً بالمضارع، إلا أن الجوابَ عليها مختلف، وكلها صادرة عن الله الحكيم، فلا بُدَّ أنْ يكون اختلاف الجواب في كل سؤال له مَلْحظ، ومن هذه الأسئلة ما جاء من الخصوم، ومنها ما سأله المؤمنون، السؤال من المؤمنين لرسول الله ـ وقد نهاهم أنْ يسألوه حتى يهدأوا ـ إلحاحٌ منهم في معرفة تصرُّفاتهم وإنْ كانت في الجاهلية، إلا أنهم يريدون أنْ يعرفوا رأي الإسلام فيها، فكأنهم نَسُوا عادات الجاهلية ويرغبون في أن تُشرَّع كل أمورهم على وَفْق الإسلام.
وبتأمّل الإجابة على هذه الأسئلة تجد منها واحدةً يأتي الجواب مباشرة دون } قُلْ { وهي في قوله تعالى:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ.. }[البقرة: 186] وواحدة وردتْ مقرونة بالفاء } فَقُلْ { وهي قوله تعالى:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً.. }[طه: 105]
وباقي الأسئلة وردت الإجابة عليها بالفعل } قُلْ { ، فما الحكمة في اقتران الفعل بالفاء في هذه الآية دون غيرها؟
قالوا: حين يقول الحق سبحانه في الجواب } قُلْ { فهذه إجابة على سؤال سُئِلَهُ رسول الله بالفعل، أي: حدث فعلاً منهم، أما الفاء فقد أتتْ في الجواب على سؤال لم يُسأله، ولكنه سيُسأله مستقبلاً.
فقوله تعالى:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ.. }[طه: 105] سؤال لم يحدث بَعْد، فالمعنى: إذا سألوك فَقُلْ، وكأنه احتياط لجواب عن سؤال سيقع.
فإذا قُلْتَ: فما الحكمة في أنْ يأتي الجواب في قوله تعالى:

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.. }[البقرة: 186] خالياً من: قُلْ أو فَقُلْ: مع أن } إِذَا { تقتضي الفاء في جوابها؟
نقول: لأن السؤال هنا عن الله تعالى، ويريد سبحانه وتعالى أنْ يُجيبهم عليه بانتفاء الواسطة من أحد؛ لذلك تأتي الإجابة مباشرة دون واسطة:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.. }[البقرة: 186] قوله تعالى: } وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ.. { [الكهف: 83] أي: عن تاريخه وعن خبره والمهمة التي قام بها: } قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً { [الكهف: 83]
وأيُّ شرف بعد هذا الشرف، إن الحق تبارك وتعالى يتولّى التأريخ لهذا الرجل، ويُؤرّخ له في قرآنه الكريم الذي يُتلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة والذي يُتحدّى به، ليظل ذِكْره باقياً بقاء القرآن، خالداً بخلوده، يظل أثره فيما عمل أُسْوة وقُدْوة لمن يعمل مثله. إنْ دَلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن العمل الصالح مذكور عند الله قبل أنْ يُذكَرَ عند الخلق.
فأيُّ ذكْر أبقى من ذكر الله لخبر ذي القرنين وتاريخه؟
و } مِّنْهُ { أي: بعضاً من ذِكْره وتاريخه، لا تاريخه كله.
وكلمة (ذِكْر) وردت في القرآن الكريم بمعان متعددة، تلتقي جميعها في الشرف والرفعة، وفي التذكُّر والاعتبار. وإنْ كانت إذا أُطلقتْ تنصرف انصرافاً أولياً إلى القرآن، كما في قوله تعالى:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9] وبعد ذلك تُستعمل في أيّ كتاب أنزله الله تعالى من الكتب السابقة، كما جاء في قوله تعالى:{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل: 43]
وقد يُطلَق الذكر على ما يتبع هذا من الصِّيت والشرف والرفعة وتخليد الاسم، كما في قوله تعالى:{ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ.. }[الأنبياء: 10]
وقوله تعالى:{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ.. }[الزخرف: 44]
أي: صيت حَسَن وشرف ورفْعة كون القرآن يذكر هذا الاسم؛ لأن الاسم إذا ذُكِر في القرآن ذاعَ صِيتُه ودَوَّى الآفاق.
وقلنا في قصة زيد بن حارثة أنه كان عبداً بعد أنْ خُطِف من قومه وَبيع في مكة لخديجة رضي الله عنها، ثم وهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك أطلقوا عليه زيد بن محمد، فلما عَلِم أهله بوجوده في مكة أتى أبوه وعمه، وكلّموا رسول الله في شأن زيد فقال: خَيِّروه.
فلما خَيَّروا زيداً قال: ما كنتُ لأختار على رسول الله أحداً، لذلك أكرمه النبي صلى الله عليه وسلم وسمَّاه زيدَ بن محمد، فلما أراد الحق سبحانه أن يبطل التبني، ونزل قوله تعالى:{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ.. }[الأحزاب: 40] وقال:{ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ.. }[الأحزاب: 5]
فلا تقولوا: زيد بن محمد.

وقولوا: زيد بن حارثة، وهنا حَزِنَ زَيْد لهذا التغيير، ورأى أنه خسر به شرفاً عظيماً بانتسابه لمحمد، ولكن الحق سبحانه وتعالى يجبر خاطر زيد، ويجعل اسمه عَلَماً يتردد في قرآن يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة، فكان زيد هو الصحابي الوحيد الذي ورد ذكره باسمه في كتاب الله في قوله تعالى:{ فَلَمَّا قَضَىا زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا.. }[الأحزاب: 37]
فأيُّ شرف أعلى وأعظم من هذا الشرف؟
ونلحظ في هذه الآية:{ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ.. }[الأحزاب: 5] أن الحق سبحانه لم يتهم رسوله صلى الله عليه وسلم بالجور، فقال:{ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ.. }[الأحزاب: 5] فما فعله الرسول كان أيضاً قِسْطاً وعدلاً، وما أمر الله به هو الأقسط والأعدل.
إذن: فذِكْر ذي القرنين في كتاب الله شرف كبير، وفي إشارة إلى أن فاعل الخير له مكانته ومنزلته عند الله، ومُجازىً بأنْ يُخلّد ذكره ويبقى صِيته بين الناس في الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ.. {.
(/2207)
________________________________________
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)

التمكين: أي أننا أعطيناه إمكانات يستطيع بها أن يُصرِّف كل أموره التي يريدها؛ لأنه مأمون على تصريف الأمور على حَسْب منهج الله، كما قال تعالى في آية أخرى عن يوسف عليه السلام:{ وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ.. }[يوسف: 56]
فالتمكين يعني إعطاءه إمكانات لكل غرض يريده فيُصرِّف به الأمور، لكن لماذا مكناه؟ مكنّاه لأنه مأمون على تصريف الأمور وَفْق منهج الله، ومأمون على ما أعطاه الله من إمكانات.
وقوله: { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } [الكهف: 84] أي: أعطيناه أسباباً يصل بها إلى ما يريد، فما من شيء يريده إلا ويجعل الله له وسيلة مُوصِّلة إليه.
فماذا صنع هو؟ { فَأَتْبَعَ سَبَباً }.
(/2208)
________________________________________
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)

أتبع السبب، أي: لا يذهب لغاية إلا بالوسيلة التي جعلها الله له، فلقد مكَّن الحق لذي القرنين في الأرض، وأعطاه من كل شيء سبباً، ومع ذلك لم يركن ذو القرنين إلى ما أُعطى، فلم يتقاعس، ولم يكسل، بل أخذ من عطاء الله له بشيء من كل سبب.
(/2209)
________________________________________
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)

وبلوغه مغرب الشمس دليل على أنه لم يكُنْ بهذا المكان، بل كان قادماً إليه من المشرق. ومعنى { مَغْرِبَ الشَّمْسِ } هل الشمس تغرب؟
هي تغرب في عين الرائي في مكان واحد، فلو لاحظتَ الشمس ساعة الغروب لوجدتها تغربُ مثلاً في الجيزة، فإذا ذهبت إلى الجيزة وجدتها تغرب في مكان آخر وهكذا، إذن: غروبها بمعنى غيابها من مرأىَ عينك أنت؛ لأن الشمس لا تغيب أبداً، فهي دائماً شارقة غاربة، بمعنى أنها حين تغرب على قوم تشرق على آخرين؛ لذلك تتعدد المشارق والمغارب.
وهذه أعطتنا دوام ذكر الله ودورانه على الألسنة في كل الأوقات، فحين نصلي نحن الظهر مثلاً يصلي غيرنا العصر، ويصلي غيرهم المغرب، وهكذا فالحق سبحانه مذكور في كل وقت بكل وقت، فلا ينتهي الظهر لله، ولا ينتهي العصر لله، ولا ينتهي المغرب لله، بل لا ينتهي الإعلام بواحدة منها طوال الوقت، وعلى مَرِّ الزمن؛ لذلك يقول أهل المعرفة: يا زمن وفيك كل الزمن.
ثم يقول تعالى: { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ.. } [الكهف: 86] أي: في عين فيها ماء. وقلنا: إن الحمأ المسنون هو الطين الذي اسودّ لكثرة وجوده في الماء. وفي تحقيق هذه المسألة قال عالم الهند أبو الكلام آزاد، ووافقه فضيلة المرحوم الشيخ عبد الجليل عيسى، قال: عند موضع يسمى (أزمير).
وقوله: { وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً.. } [الكهف: 86] أي: عند هذه العين { قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } [الكهف: 86] إذن: فهذا تفويض له من الله، ولا يُفوَّض إلا المأمون على التصرُّف { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ.. } [الكهف: 86] ولا بُدّ أنهم كانوا كفرة أو وثنيين لا يؤمنون بإله، فإما أنْ تأخذهم بكفرهم، وإما أن تتخذَ فيهم حُسْناً.
لكن ما وجه الحُسْن الذي يريد الله أن يتخذه؟ يعني أنهم قد يكونون من أهل الغفلة الذين لم تصلهم الدعوة، فبيّن لهم وجه الصواب ودلّهم على دين الله، فَمنْ آمن منهم فأحسن إليه، ومَنْ أصرّ على كُفْرِه فعذّبه، إذن: عليك أن تأخذهم أولاً بالعِظَة الحسنة والبيان الواضح، ثم تحكم بعد ذلك على تصرفاتهم.
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىا رَبِّهِ... }.
(/2210)
________________________________________
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)

قوله: { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ.. } [الكهف: 87] يعطينا إشارة إلى المهلة التي سيعطيها لهؤلاء، مهلة تمكّنه أنْ يعِظهم ويُذكِّرهم ويُفهِّمهم مطلوبات دين الله.
وسبق أن قلنا: إن الظلم أنواع، أفظعها وأعلاها الشرك بالله، كما قال تعالى:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13]
ثم يقول تعالى: { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىا رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } [الكهف: 87]
فلن نُعذِّبه على قدْر ما فعل، بل نُعذّبه عقوبة دنيوية فقط؛ لأن العقوبات الدنيوية شُرعَتْ لحفظ توازن المجتمع، ورَدْع مَنْ لا يرتدع بالموعظة، وإلا فما فائدة الموعظة في غير المؤمن؟ لذلك نرى الأمم التي لا تؤمن بإله، ولا بالقيامة والآخرة تُشرِّع هذه العقوبات الدنيوية لتستقيم أوضاعها.
وبعد عذاب الدنيا وعقوبتها هناك عذاب أشدّ في الآخرة { عَذَاباً نُّكْراً } [الكهف: 87] والشيء النكر: هو الذي لا نعرفه، ولا عَهْد لنا به أو أُلْفة؛ لأننا حينما نُعذِّب في الدنيا نُعذِّب بفطرتنا وطاقتنا، أما عذاب الله في الآخرة فهو شيء لا نعرفه، وفوق مداركنا وإمكاناتنا.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىا... }.
(/2211)
________________________________________
وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)

قوله: { فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىا.. } [الكهف: 88] أي: نعطيه الجزاء الحسن { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [الكهف: 88] نقول له الكلام الطيب الذي يُشجِّعه ويحْفزه، وإنْ كلَّفناه كلَّفناه بالأمر اليسير غير الشاق.
وهذه الآية تضع لنا أساس عملية الجزاء التي هي ميزان المجتمع وسبب نهضته، فمجتمعٌ بلا جزاءات تثيب المجدّ وتعاقب المقصِّر مجتمع ينتهي إلى الفوضى والتسيُّب، فإنْ أمِنْ الناسُ العقابَ تكاسلوا، وربما ما تعانيه مصر الآن من سوء الإدارة راجع إلى ما في المجتمع من أشخاص فوق القانون لا نستطيع معاقبتهم فيتسيّب الآخرون.
وكذلك نرى المراتب والجوائز يظفر بها مَنْ لا يعمل، ويظفر بها مَنْ يتقرب ويتودد ويتملّق وينافق، ولهؤلاء أساليبهم الملتوية التي يجيدونها، أما الذي يجدّ ويعمل ويخلص فهو مُنْهك القوى مشغول بإجادة عمله وإتقانه، لا وقْتَ لديه لهذه الأساليب الملتوية، فهو يتقرب بعمله وإتقانه، وهذا الذي يستحق التكريم ويستحق الجائزة. ولك أنْ تتصوَّر مدى الفساد والتسيّب الذي تسببه هذه الصورة المقلوبة المعوجة.
إذن: فميزان المجتمع وأساس نهضته: { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىا رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىا وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [الكهف: 87-88]
فما أجمَل أنْ نرصُدَ المكافآت التشجيعية والجوائز، ونقيم حفلات التكريم للمتميزين والمثاليين، شريطةَ أنْ يقومَ ميزان الاختيار على الحق والعدل.
والحُسْنى: أفعل التفضيل المؤنث لحسن، فإذا أعطيناه الحسنى فالحسن من باب أَوْلَى، ومن هذا قوله تعالى:{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىا وَزِيَادَةٌ.. }
(/2212)
________________________________________
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)

أي: ذهب إلى مكان آخر.
(/2213)
________________________________________
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)

قوله تعالى: { مَطْلِعَ الشَّمْسِ.. } [الكهف: 90] كما قلنا في مغربها، فهي دائماً طالعة؛ لأنها لا تطلع من مكان واحد، بل كل واحد له مطلع، وكل واحد له مغْرب حسب اتساع الأفق.
ثم يقول تعالى: { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىا قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } [الكهف: 90] السِّتْر: هو الحاجز بين شيئين، وهو إما ليقينيَ الحر أو ليقينيَ البرد، فقد ذهب ذو القرنين إلى قوم من المتبدين الذين يعيشون عراة كبعض القبائل في وسط أفريقيا مثلاً، أو ليس عندهم ما يسترهم من الشمس مثل البيوت يسكنونها، أو الأشجار يستظِلّون بها.
وهؤلاء قوم نسميهم " ضاحون " أي: ليس لهم ما يأويهم من حَرِّ الصيف أو بَرد الشتاء، وهم أُنَاسٌ متأخرون بدائيون غير متحضرين. ومثل هؤلاء يعطيهم الله تعالى في جلودهم ما يُعوِّضهم عن هذه الأشياء التي يفتقدونها، فترى في جلودهم ما يمنحهم الدفء في الشتاء والبرودة في الصيف.
وهذا نلاحظه في البيئات العادية، حيث وَجْه الإنسان وهو مكشوف للحر وللبرد، ولتقلبات الجو، لذلك جعله الله على طبيعة معينة تتحمل هذه التقلبات، على خلاف باقي الجسم المستور بالملابس، فإذا انكشف منه جزء كان شديدَ الحساسية للحرِّ أو للبرد، وكذلك من الحيوانات ما منحها الله خاصية في جلودها تستطيع أنْ تعيش في القطب المتجمد دون أن تتأثر ببرودته.
وهؤلاء البدائيون يعيشون هكذا، ويتكيفون مع بيئتهم، وتشغلهم مسألة الملابس هذه، ولا يفكرون فيها، حتى يذهب إليهم المتحضرون ويروْنَ الملابس، وكيف أنها زينة وسَتْر للعورة فيستخدمونها.
ونلاحظ هنا أن القرآن لم يذكر لنا عن هؤلاء القوم شيئاً وماذا فعل ذو القرنين معهم، وإنْ قِسْنا الأمر على القوم السابقين الذين قابلهم عند مغرب الشمس نقول: ربما حضَّرهم ووفَّر لهم أسباب الرُّقي.
وبعض المفسرين يروْنَ أن ذا القرنين ذهب إلى موضعٍ يومُه ثلاثة أشهر، أو نهاره ستة أشهر، فصادف وصوله وجود الشمس فلم يَرَ لها غروباً في هذا المكان طيلة وجوده به، ولم يَرَ لها سِتْراً يسترها عنهم، ويبدو أنه ذهب في أقصى الشمال.
ويقول الحق سبحانه: { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً }.
(/2214)
________________________________________
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)

كذلك: يعني ذهب كذلك، كما ذهب للمغرب ذهب للمشرق.
(/2215)
________________________________________
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)

ذهب إلى مكان آخر.
(/2216)
________________________________________
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)

السد: هو الحاجز بين شيئين، والحاجز قد يكون أمراً معنوياً، وقد يكون طبيعياً محسوساً كالجبال، فالمراد بالسدين هنا جبلان بينهما فجوة، وما دام قد قال: { بَيْنَ السَّدَّيْنِ } فالبَيْن هنا يقتضي وجود فجوة بين السدين يأتي منها العدو.
{ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا.. } [الكهف: 93] أي: تحتهما { قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } [الكهف: 93] أي: لا يعرفون الكلام، ولا يفقهون القول؛ لأن الذي يقدر أن يفهم يقدر أن يتكلم، وهؤلاء لا يقولون كلاماً، ولا يفهمون ما يقال لهم، ومعنى: { لاَّ يَكَادُونَ.. } [الكهف: 93] لا يقربون من أن يفهموا، فلا ينفي عنهم الفَهْم، بل مجرد القُرْب من الفهم، وكأنه لا أملَ في أن يفهمهم.
لكن، يكف نفى عنهم الكلام، ثم قال بعدها مباشرة:{ قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ.. }[الكهف: 94] فأثبت لهم القول؟
يبدو أنه خاطبهم بلغة الإشارة، واحتال على أن يجعلَ من حركاتهم كلاماً يفهمه وينفذ لهم ما يريدون، ولا شكَّ أن هذه العملية احتاجت منه جهداً وصبراً حتى يُفهمهم ويفهم منهم، وإلا فقد كان في وُسْعه أنْ ينصرف عنهم بحجة أنهم لا يتكلمون ولا يتفاهمون.
فهو مثال للرجل المؤمن الحريص على عمل الخير، والذي لا يألو جَهْداً في نَفْع القوم وهدايتهم.
والإشارة أصبحت الآن لغة مشهورة ومعروفة، ولها قواعد ودارسون يتفاهمون بها، كما نتفاهم نحن الآن مع الأخرس.
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ... }.
(/2217)
________________________________________
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)

المراد بالقول هنا: دلالة مُعبِّرة تعبير القول، فلا بُدَّ أنهم تعارفوا على شيء كالإشارة مثلاً يتفاهمون به.
ويأجوج ومأجوج قوم خَلْف السدين أو الجبلين، ينفذون إليهم من هذه الفجوة، فيؤذونهم ويعتدون عليهم؛ لذلك عرضوا عليه أن يجعلوا له { خَرْجاً } أي: أجراً وخراجاً يدفعونه إليه على أنْ يسدَّ لهم هذه الفجوة، فلا ينفذ إليهم أعداؤهم.
ثم يقول الحق - تبارك وتعالى - عن ذي القرنين أنه: { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْر.... }.
(/2218)
________________________________________
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)

والقوْل هنا أيضاً قَوْل دلالة وإشارة تُفهمهم أنه في غِنىً عن الأجر، فعنده الكثير من الخير الذي أعطاه الله، إنما هو في حاجة إلى قوة بشرية عاملة تُعِينه، وتقوم معه بتنفيذ هذا العمل.
ونفهم من الآية أن المعونة من المُمكَّن في الأرض المالك للشيء يجب أن تكون حِسْبة لله، وأنْ تُعين معونة لا تحوج الذي تعينه إلى أن تُعينه كل وقت، بل أعنه إعانة تغنيه أن يحتاج إلى المعونة فيما بعد، كأن تعلّمه أنْ يعمل بنفسه بدل أنْ تعطيه مثلاً مالاً ينفقه في يومه وساعته ثم يعود محتاجاً؛ لذلك يقولون: لا تُعطِني سمكة، ولكن علِّمني كيف أصطاد، وهكذا تكون الإعانة مستمرة دائمة، لها نَفَس، ولها عُمْر.
ولما كان ذو القرنين ممكّناً في الأرض، وفي يده الكثير من الخيرات والأموال، فهو في حاجة لا إلى مال بل إلى الطاقة البشرية العاملة، فقال: { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ.. } [الكهف: 95] أي: قوة وطاقة بشرية قوية مخلصة { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } [الكهف: 95]
ولم يقُلْ: سداً؛ لأن السدّ الأصمَّ يعيبه أنه إذا حصلت رَجَّة مثلاً في ناحية منه ترجّ الناحية الأخرى؛ لذلك أقام لهم ردماً أي: يبني حائطاً من الأمام وآخر من الخلف، ثم يجعل بينهما ردماً من التراب ليكون السد مَرِناً لا يتأثر إذا ما طرأت عليه هزة أرضية مثلاً، فيكون به التراب مثل " السُّوست " التي تمتص الصدمات.
والردم أن تضع طبقات التراب فوق بعضها، حتى تردم حُفْرة مثلاً وتُسوّيها بالأرض، ومن ذلك ما نسمعه عندما يعاتب أحدهم صاحبه، وهو لا يريد أنْ يسمعَ، فيقول له: اردم على هذا الموضوع.
(/2219)
________________________________________
آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)

لم يكن ذو القرنين رجلاً رحالة، يسير هكذا بمفرده، بل مكَّنه الله من أسباب كل شيء، ومعنى ذلك أنه لم يكن وحده، بل معه جيش وقوة وعدد وآلات، معه رجال وعمال، معه القوت ولوازم الرحلة، وكان بمقدوره أنْ يأمرَ رجاله بعمل هذا السدِّ، لكنه أمر القوم وأشركهم معه في العمل لِيُدرِّبهم ويُعلِّمهم ما داموا قادرين، ولديهم الطاقة البشرية اللازمة لهذا العمل.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول:{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا.. }[الطلاق: 7] فما دام ربك قد أعطاك القوة فاعمل، ولا تعتمد على الآخرين؛ لذلك تجد هنا أوامر ثلاثة: أعينوني بقوة، آتوني زبر الحديد، آتوني أفرغ عليه قطراً.
زبر الحديد: أي قطع الحديد الكبيرة ومفردها زُبْرة، والقِطْر: هو النحاس المذاب، لكن، كيف بنى ذو القرنين هذا السد من الحديد والنحاس؟
هذا البناء يشبه ما يفعله الآن المهندسون في المعمار بالحديد والخرسانة؛ لكنه استخدم الحديد، وسَدَّ ما بينه من فجوات بالنحاس المذاب ليكون أكثر صلابة، فلا يتمكن الأعداء من خَرْقه، وليكون أملسَ ناعماً فلا يتسلقونه، ويعلُون عليه.
فقوله: { حَتَّىا إِذَا سَاوَىا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ.. } [الكهف: 96] الصدف: الجانب، ومنه قوله تعالى:{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا.. }[الأنعام: 157] أي: مال عنها جانباً.
فمعنى: ساوى بين الصدفين. أي: ساوى الحائطين الأمامي والخلفي بالجبلين: { قَالَ انفُخُواْ.. } [الكهف: 96] أي: في الحديد الذي أشعل فيه، حتى إذا التهب الحديد نادى بالنحاس المذَاب: { قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [الكهف: 96] وهكذا انسبكَ الحديد الملتهب مع النحاس المذَاب، فأصبح لدينا حائطٌ صَلْبٌ عالٍ أملس.
لذلك قال تعالى بعدها: { فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ... }.
(/2220)
________________________________________
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)

{ أَن يَظْهَرُوهُ } أي: ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن يعلوا السد أو يتسلقوه وينفذوا من أعلاه؛ لأنه ناعم أملس، ليس به ما يمكن الإمساك به: { وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } [الكهف: 97] لأنه صَلْب.
ثم يقول تعالى على لسان ذي القرنين: { قَالَ هَـاذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي... }.
(/2221)
________________________________________
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

لم يَفُتْ ذا القرنين ـ وهو الرجل الصالح ـ أنْ يسند النعمة إلى المنعم الأول، وأنْ يعترف بأنه مجرد واسطة وأداة لتنفيذ أمر الله: { قَالَ هَـاذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } [الكهف: 98] لأنني أخذتُ المقوِّمات التي منحني الله إياها، واستعملتها في خدمة عباده.
الفكر مخلوق لله، والطاقة والقوة مخلوقة لله، المواد والعناصر في الطبيعة مخلوقة لله، إذن: فما لي أن أقول: أنا عملتُ كذا وكذا؟
ثم يقول تعالى: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } [الكهف: 98] أي: الآخرة { جَعَلَهُ دَكَّآءَ } [الكهف: 98] فإياكم أن تظنوا أن صلابة هذا السَّد ومتانته باقية خالدة، إنما هذا عمل للدنيا فحسب، فإذا أتى وَعْد الله بالآخرة والقيامة جعله الله دكاً وسوّاه بالأرض، ذلك لكي لا يغترون به ولا يتمردون على غيرهم بعد أنْ كانوا مُستذلّين مُستضعفين ليأجوج ومأجوج. وكأنه يعطيهم رصيداً ومناعة تقيهم الطغيان بعد الاستغناء.
{ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } [الكهف: 98] واقعاً لاشك فيه.
والتحقيق الأخير في مسألة ذي القرنين وبناء السد أنه واقع بمكان يُسمَّى الآن (بلخ) والجبلان من جبال القوقاز، وهما موجودان فعلاً، وبينهما فَجْوة مبنيُّ فيها، ويقولون: إن صاحب هذا البناء هو قورش، وهذا المكان الآن بين بحر قزوين والبحر الأسود.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ }.
(/2222)
________________________________________
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)

فإذا كانت القيامة تركناهم يموج بعضهم في بعض، كموج الماء لا تستطيع أن تفرق بعضهم من بعض، كما أنك لا تستطيع فصل ذرات الماء في الأمواج، يختلط فيهم الحابل بالنابل، والقويّ بالضعيف، والخائف بالمخيف، فهم الآن في موقف القيامة، وقد انتهت العداوات الدنيوية، وشُغِل كل إنسان بنفسه.
وقوله تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } [الكهف: 99].
وهذه هي النفخة الثانية؛ لأن الأولى نفخة الصَّعْق، كما قال تعالى:{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىا فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }[الزمر: 68].
فالنفخة الأولى نفخة الصَّعْق، والثانية نفخة البَعْث والقيامة، والصَّعْق قد يكون مميتاً، وقد يكون مُغْمِياً لفترة ثم يفيق صاحبه، فالصَّعْق المميت كما في قوله تعالى:
{ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّىا حِينٍ * فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ }[الذاريات: 43ـ44].
أما الصَّعْقة التي تُسبِّب الإغماء فهي مِثْل التي حدثت لموسى ـ عليه السلام ـ حينما قال:{ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىا رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىا صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ }[الأعراف: 143].
فالجبل الأشمّ الراسي الصَّلْب اندكّ لما تجلَّى له الله، وخر موسى مصعوقاً مُغمى عليه، وإذا كان موسى قد صُعِق من رؤية المتجلَّى عليه، فكيف برؤية المتجلِّي سبحانه؟
وكأن الحق سبحانه أعطى مثلاً لموسى ـ عليه السلام ـ فقال له: ليست ضنيناً عليك بالرؤية، ولكن قبل أن تراني انظر إلى الجبل أولاً ليكون لك مثالاً، إذن: لا يمنع القرآن أن يتجلى الله على الخَلْق، لكن هل نتحمل نحن تجلِّي الله؟
فمن رحمة الله بنا ألاَّ يتجلى لنا على الحالة التي نحن عليها في الدنيا. أما في الآخرة، فإن الخالق سبحانه سيُعِدّنا إعداداً آخر، وسيخلقنا خِلْقة تناسب تجلِّيه سبحانه على المؤمنين في الآخرة؛ لأنه سبحانه القائل:{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىا رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }[القيامة: 22ـ23].
وسوف نلحظ هذا الإعداد الجديد في كُلِّ أمور الآخرة، ففيها مثلاً تقتاتون ولا تتغوطون؛ لأن طبيعتكم في الآخرة غير طبيعتكم في الدنيا.
لذلك جاء السؤال من موسى ـ عليه السلام ـ سؤالاً علمياً دقيقاً:{ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ }[الأعراف: 143] أي: أرِني كيفية النظر إليك؛ لأني بطبيعتي وتكويني لا أراك، إنما إنْ أريتني أنت أرى.
وفي ضوء هذه الحادثة لموسى ـ عليه السلام ـ نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تُخيِّروا بين الأنبياء، فإن الناس يُصْعقون يوم القيامة، فأكون أولَ مَنْ تنشقُّ عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صُعِق، أم حُوسِب بصَعْقة الأولى ".
قالوا: لأنه صُعِق مرة في الدنيا، ولا يجمع الله تعالى على عبده صَعقتَيْن.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ }
(/2223)
________________________________________
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)

أي: تُعرَض عليهم ليروها ويشاهدوها، وهذا العَرْض أيضاً للمؤمنين، كما جاء في قوله تعالى:{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }[مريم: 71] والبعض يظن أن (واردها) يعني: داخلها، لا بل واردها بمعنى: يراها ويمرُّ بها، فقد ترِد الماء بمعنى: يراها ويمر بها، فقد ترد الماء بمعنى تصل إليه دون أنْ تشربَ منه؛ ذلك لأن الصراط الذي سيمر على الجميع مضروبٌ على ظهر جهنم ليراها المؤمن والكافر.
أما المؤمن فرؤيته للنار قبل أنْ يدخل الجنة تُرِيه مدى نعمة الله عليه ورحمته به، حيث نجّاه من هذا العذاب، ويعلم فضل الإيمان عليه، وكيف أنه أخذ بيده حتى مَرَّ من هذا المكان سالماً.
لذلك يُذكّرنا الحق سبحانه بهذه المسألة فيقول:{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }[آل عمران: 185].
أما الكافر فسيعرض على النار ويراها أولاً، فتكون رؤيته لها قبل أن يدخلها رؤية الحسرة والندامة والفزع؛ لأنه يعلم أنه داخلها، ولن يُفلِتْ منها.
وقد وردتْ هذه المسألة في سورة التكاثر حيث يقول تعالى:{ أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ * حَتَّىا زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }[التكاثر: 1ـ8].
والمراد: لو أنكم تأخذون عنِّي العلم اليقيني فيما أُخبركم به عن النار وعذابها لكُنْتم كمنْ رآها، لأنني أنقل لكم الصورة العلمية الصادقة لها، وهذا ما نُسمِّيه علم اليقين، أما في الآخرة فسوف ترون النار عينها. وهذا هو عين اليقين أي: الصورة العينية التي ستتحقق يوم القيامة حين تمرُّون على الصراط.
وبرحمة الله بالمؤمنين وبفضله وكرمه تنتهي علاقة المؤمن بالنار عند هذا الحد، وتُكتب له النجاة؛ لذلك قال تعالى بعدها:{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }[التكاثر: 8].
أما الكافر والعياذ بالله فلَهُ مع النار مرحلة ثالثة هي حّقُّ اليقين، يوم يدخلها ويباشر حَرَّها، كما قال تعالى:{ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }[الواقعة: 92ـ96].
إذن: عندنا عِلْم اليقين، وهو الصورة العلمية للنار، والتي أخبرنا بها الحق سبحانه وتعالى، وأن من صفات النار كذا وكذا وحذَّرنا منها، ونحن في بحبوحة الدنيا وسِعَتها. وعَيْن اليقين: في الآخرة عندما نمرُّ على الصراط، ونرى النار رؤيا العين. ثم حَقُّ اليقين: وهذه للكفار حين يُلْقَوْن فيها ويباشرونها فعلاً.
وقد ضربنا لذلك مثلاً: لو قُلْتُ لك: توجد مدينة اسمها نيويورك وبها ناطحات سحاب، وأنها تقع على سبع جزر، ومن صفاتها كذا وكذا فأُعطِيك عنها صورة علمية صادقة، فإنْ صدَّقتني فهذا عِلْم يقين. فإنْ مررنا عليها بالطائرة ورأيتها رَأْيَ العين فهذا عَيْن اليقين، فإنْ نزلت بها وتجولت خلالها فهذا حَقُّ اليقين.
إذن: فقوله تعالى: { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً } [الكهف: 100] ليس كعرضها على المؤمنين، بل هو عَرْض يتحقّق فيه حَقُّ اليقين بدخولها ومباشرتها.
ثم يقول الحق سبحانه: { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ }
(/2224)
________________________________________
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)

أي: على أبصارهم غشاوة تمنعهم إدراك الرؤية، ليس هذا وفقط، بل: { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } [الكهف: 101].
والمراد هنا السمع الذي يستفيد منه السامع، سَمْع العبرة والعِظَة، وإلا فآذانهم موجودة وصالحة للسمع، ويسمعون بها، لكنه سمَاعٌ لا فائدةَ منه؛ لأنهم ينفرون من سماع الحق ومن سماع الموعظة ويسدُّون دونها آذانهم، فهم في الخير أذن من طين، وأذن من عجين كما نقول.
أما المؤمنون فيقول الحق تبارك وتعالى فيهم:{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ }[المائدة: 83].
إذن: فكراهية أولئك للمسموع جعلتهم كأنهم لا سَمْعَ لهم، كما نقول نحن في لغتنا العامية: (أنت مطنش عني)، يعني لا تريد أنْ تسمعَ، ومن أقوال أهل الفكاهة: قال الرجل لصاحبه: فيك مَنْ يكتم السرَّ؟ قال: نعم، قال: أعْطني مائة جنيه، قال: كأنِّي لم أسمع.
ولذلك حكى القرآن عن كفار مكة قولهم:{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }[فصلت: 26].
يعني: شَوِّشُوا عليه، ولا تُعطوا الناس فرصة لسماعه، ولو أنهم علموا أن القرآن لا يؤثر في سامعه ما قالوا هذا، لكنهم بأذنهم العربية وملكتهم الفصيحة يعلمون جيداً أن القرآن له تأثير في سامعه تأثيراً يملك جوانب نفسه، ولابُدَّ لهذا العربي الفصيح أنْ يهتزّ للقرآن، ولابُدَّ أنه سيعرف أنه مُعْجِز، وأنه غير قَوْل البشر، وحتماً سيدعوه هذا إلى الإيمان بأن هذا الكلام كلام الله، وأن محمداً رسول الله؛ لذلك قال بعضهم لبعض محذراً:{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ }[فصلت: 26].
وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى:{ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَىا عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الجاثية: 7ـ8].
وقد يتعدَّى الأمر مجرد السماع إلى منْع الكلام كما جاء في قوله تعالى:{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ }[إبراهيم: 9].
فليس الأمر منْع الاستماع، بل أيضاً منع الكلام، فربما تصل كلمة إلى آذانهم وهم في حالة انتباه فتُؤثّر فيهم، أي منعوهم الكلام كما يُقال: اسكت، أو أغلق فمك.
ثم يقول الحق سبحانه: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ }
(/2225)
________________________________________
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)

قوله تعالى: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ } [الكهف: 102] يعني: أعَمُوا عن الحق فظنُّوا أنْ يتخذوا عبادي من دوني أولياء؟ وسبق أن تحدثنا عن كلمة (عِبَادي) وقلنا: إنهم المؤمنون بي المحبون لي، الذين اختاروا مرادات الله على اختيارات نفوسهم، وفرَّقْنا بين عبيد وعباد.
والكلام هنا عن الذين كفروا الذين اتخذوا عباد الله المقربين إليه المحبين له أولياء من دون الله، كما قال تعالى:{ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ }[النساء: 172].
فكيف تتخذونهم أولياء من دوني وتعاندونني بهم وهم أحبتي؟
يقول تعالى:{ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ }[التوبة: 30] ومنهم مَنْ قال: الملائكة بنات الله، فكيف تتخذونهم أولياء من دون الله وهم لا يستنكفون أن يكونوا عباداً لله، ويروْنَ شرفهم وعِزَّتهم في عبوديتهم له سبحانه، فإذا بكم تتخذونهم أولياء من دوني، ويا ليتكم جعلتُم ذلك في أعدائي، فهذا منهم تغفيل حتى في اتخاذ الشركاء؛ لذلك كان جزاءَهم أنْ نُعِدَّ لهم جهنم:
{ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً } [الكهف: 102] والنُّزُل: ما يُعَدُّ لإكرام الضيف كالفنادق مثلاً، فهذا من التهكّم بهم والسُّخرية منهم. ثم يقول الحق سبحانه: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ }
(/2226)
________________________________________
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)

(قُلْ) أي: يا محمد { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } [الكهف: 103] الأخسر: اسم تفضيل من خاسر، فأخسر يعني أكثر خسارة (أْعْمَالاً) أي: خسارتهم بسبب أعمالهم. وهؤلاء الأخسرين هم: { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ }
(/2227)
________________________________________
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)

وقد ضلَّ سَعْي هؤلاء؛ لأنهم يفعلون الشر، ويظنون أنه خير فهم ضالّون من حيث يظنون الهداية. ومن ذلك ما نراه من أعمال الكفار حيث يبنون المستشفيات والمدارس وجمعيات الخير والبر، ويُنَادون بالمساواة وغيرها من القيم الطيبة، ويحسبون بذلك أنهم أحسنوا صُنْعاً وقدَّموا خَيْراً، لكن هل أعمالهم هذه كانت لله؟
الواقع أنهم يعملونها للناس وللشهرة وللتاريخ، فليأخذوا أجورهم من الناس ومن التاريخ تعظيماً وتكريماً وتخليداً لذكراهم.
ومعنى: { ضَلَّ سَعْيُهُمْ } [الكهف: 104] أي: بطُل وذهب وكأنه لا شيءَ، مثل السراب كما صَوَّرهم الحق سبحانه في قوله:{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً }[النور: 39].
وهؤلاء لا يبخسهم الله حقوقهم، ولا يمنعهم الأَجْر؛ لأنهم أحسنوا الأسباب، لكن هذا الجزاء يكون في الدنيا؛ لأنهم لما عملوا وأحسنوا الأسباب عملوا للدنيا، ولا نصيبَ لهم في جزاء الآخرة.
وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله تعالى:{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى: 20].
ومع ذلك يُبقي للكافر حَقَّه، فلا يجوز لأحد من المؤمنين أنْ يظلمه أو يعتدي عليه، وفي حديث سيدنا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: " سمعت أن مُحدِّثاً حدَّث عن رسول الله بحديث أحببت ألا أموت، أو يموت هو حتى أسمعه منه، فسألت عنه فقيل: إنه ذهب إلى الشام، قال: فاشتريت ناقة ورحَّلتها، وسرْت شهراً إلى أنْ وصلتُ إلى الشام، فسألت عنه فقيل: إنه عبد الله بن أُنَيْس، فلما ذهبت قال له خادمه: إن جابر بن عبد الله بالباب، قال جابر: فخرج ابنُ أُنَيْس وقد وَطِئ ثيابه من سرعته. قال عبد الله: واعتنقا.
قال جابر: حدِّثت أنك حدثتَ حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينادي يوم القيامة: يا ملائكتي، أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أنْ يدخلَ النار وله عند أحد من أهل الجنة حَقٌّ حتى أقصّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أنْ يدخلَ الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصَّه منه، حتى اللطمة ".
فانظر إلى دِقَّة الميزان وعدالة السماء التي تراعي حَقَّ الكافر، فتقتصّ له قبل أنْ يدخل النارَ، حتى ولو كان ظالمه مؤمناً.
وفي قوله تعالى: { ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [الكهف: 104] جاءت كلمة الضلال في القرآن الكريم في عِدّة استعمالات يُحدِّدها السياق الذي وردتْ فيه. فقد يأتي الضلال بمعنى الكفر، وهو قمة الضلال وقمة المعاصي، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى:

{ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىا مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ }[البقرة: 108].
ويُطلق الضلال، ويُراد به المعصية حتى من المؤمن، كما جاء في قوله تعالى:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً }[الأحزاب: 36].
ويُطلق الضلال، ويُراد به أنْ يغيب في الأرض، كما في قوله تعالى:{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }[السجدة: 10].
يعني: غِبْنا فيها واختفينا. ويُطلَق الضلال ويُراد به النسيان، كما في قوله تعالى:{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَىا }[البقرة: 282].
ويأتي الضلال بمعنى الغفلة التي تصيب الإنسان فيقع في الذنب دون قصد. كما جاء في قصة موسى وفرعون حينما وكز موسى الرجل فقضى عليه، فلما كلمه فرعون قال:{ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ }[الشعراء: 20].
أي: قتلتُه حال غفلة ودون قصد، ومَنْ يعرف أن الوكزة تقتل؟ والحقيقة أن أجلَ الرجل جاء مع الوكزة لا بها. ويحدث كثيراً أن واحداً تدهسه سيارة وبتشريح الجثة يتبين أنه مات بالسكتة القلبية التي صادفتْ حادثة السيارة.
ويأتي الضلال بمعنى: أَلاّ تعرف تفصيل الشيء، كما في قوله تعالى:{ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىا }[الضحى: 7] أي: لا يعرف ما هذا الذي يفعله قومه من الكفر.
ثم يقول الحق سبحانه: } أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ {
(/2228)
________________________________________
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)

{ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } [الكهف: 105] والآيات تُطلَق ثلاثة إطلاقات، وقد كفروا بها جميعاً وكذَّبوا، كفروا بآيات الكون الدالة على قدرة الله، فلم ينظروا فيها ولم يعتبروا بها، وكفروا بآيات الأحكام والقرآن والبلاغ من رسول الله، وكذلك كفروا بآيات المعجزات التي أنزلها الله لتأييد الرسل فلم يصدقوها. إذن: كلمة: { بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } [الكهف: 105] هنا عامة في كل هذه الأنواع.
(ولقائه) أي: وكفروا أيضاً بلقاء الله يوم القيامة، وكذَّبوا به، فمنهم مَنْ أنكره كليةً فقال:{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ }[المؤمنون: 82].
ومنهم مَن اعترف ببعْث على هواه، فقال:{ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىا رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }[الكهف: 36].
ومنهم مَنْ قال: إن البعث بالروح دون الجسد وقالوا في ذلك كلاماً طويلاً، إذن: إما ينكرون البعث، وإما يُصوِّرونه بصورة ليست هي الحقيقة.
ثم يقول تعالى: { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } [الكهف: 105] أي: بَطُلت وذهب نفعُها { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } [الكهف: 105].
وقد اعترض المستشرقون على هذه الآية { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } [الكهف: 105] وقالوا: كيف نُوفِّق بينها وبين الآيات التي تثبت الميزان، كما في قوله تعالى:{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىا بِنَا حَاسِبِينَ }[الأنبياء: 47].
وقوله تعالى:{ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ }[القارعة: 7ـ11].
ونقول: إن العلماء في التوفيق بين هذه الآيات قالوا: المراد بقوله تعالى: { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } [الكهف: 105] جاءتْ على سبيل الاحتقار وعدم الاعتبار، فالمراد لا وزنَ لهم عندنا أي: لا اعتبارَ لهم، وهذه نستعملها الآن في نفس هذا المعنى نقول: فلان لا وزنَ له عندي. أي: لا قيمة له.
وبالبحث في هذه الآية وتدبرها تجد أن القرآن الكريم يقول: { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ } [الكهف: 105] ولم يَقُل: عليهم، إذن: الميزان موجود، ولكنه ليس في صالحهم، فالمعنى: لا نقيم لهم ميزاناً لهم، بل نقيم لهم ميزاناً عليهم.
ثم يقول الحق سبحانه: { ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ }
(/2229)
________________________________________
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)

(ذلك) أي: ما كان من إحباط أعمالهم، وعدم إقامتنا لهم وزناً ليس تجنِّياً مِنَّا عليهم أو ظلماً لهم، بل جزاءً لهم على كفرهم فقوله { بِمَا كَفَرُواْ } [الكهف: 106] أي: بسبب كفرهم.
{ وَاتَّخَذُواْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً } [الكهف: 106] فقد استهزأوا بآيات الله، وكلما سمعوا آية قالوا: أساطيرُ الأولين:{ إِذَا تُتْلَىا عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }[القلم: 15].
وكذلك لم يَسْلَم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سخريتهم واستهزائهم، والقرآن يحكي عنهم قولهم لرسول الله:{ ياأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ }[الحجر: 6] فقولهم{ نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ }[الحجر: 6] أي: القرآن وهم لا يؤمنون به سُخرية واستهزاءً.
وفي سورة " المنافقون " يقول القرآن عنهم:{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىا يَنفَضُّواْ }[المنافقون: 7] فقولهم:{ رَسُولِ اللَّهِ }[المنافقون: 7] ليس إيماناً به، ولكن إمّا غفلة منهم عن الكذب الذي يمارسونه، وإما سُخْرية واستهزاءً كما لو كنتَ في مجلس، ورأيتَ أحدهم يدَّعِي العلم ويتظاهر به فتقول: اسألوا هذا العالم.
وفي آية أخرى يقول سبحانه عن استهزائهم برسول الله:{ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ }[القلم: 51].
ثم يتحدث القرآن عن المقابل لهؤلاء، فيقول: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ }
(/2230)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)

قوله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } [الكهف: 107] سبق أن قلنا: إن الإيمان هو تصحيح الينبوع الوجداني العقدي لتصدر الأفعال مناسبة لإيمانك بمَنْ شرّع، ومن هنا كان الإيمان أولاً وشرطاً لقبول العمل، وإلاَّ فهناك مَنْ يعمل الخير لا من منطلق إيماني بل لاعتبارات أخرى، والنية شَرْط لازم في قبول العمل.
لذلك يعاقب الله تعالى مَنْ يعمل لغير الله، يعاقبه بأنْ ينكره صاحبه ويجحده ويكرهه بسببه، بدل أنْ يعترفَ له بالجميل. ومن هنا قالوا: (اتق شّرَّ مَنْ أحسنتَ إليه)؛ وهذا قول صحيح لأنك حين تُحسِن إلى شخص تدكُّ كبرياءه، وتكون يدك العليا عليه، فإذا ما أخذ حظاً من الحياة وأصبح ذا مكانة بين الناس فإن كان غير سَوِيِّ النفس فإنه لا يحب مَنْ تفضل عليه في يوم من الأيام ودَكَّ كبرياءه؛ لذلك تراه يكره وجوده، ولا يحب أنْ يراه وربما دبَّر لك المكائد لتختفي من طريقه، وتُخلي له الساحة؛ لأنك الوحيد الذي يحرجه حضورك.
لذلك، مَنْ عمل عملاً لغير الله أسلمه الله لمن عمل له، فليأخذ منه الجزاء، وإذا بالجزاء يأتي على خلاف ما تنتظر، فقد فعلت له ليُكرمك فإذا به يُهِينك، فعلْتَ له ليحترمك فإذا به يَحْقِرك، فعلتَ له لِيُواليك فإذا به عدو لك؛ لذلك يقولون: العمل لله عاجل الجزاء، أما العمل لغير الله فغير مضمون العواقب، فقد يُوفي لك وقد لا يُوفي.
ثم أردف الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الإيمانَ بالعمل الصالح؛ لأن العمل الصالح لابُدَّ له أن ينطلق من الإيمان ويصدر عنه، فقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [الكهف: 107].
{ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [الكهف: 107] يعني: عمل الشيء الصالح، فإن كان الشيء صالحاً بنفسه فليتركه على صلاحه لا يفسده، أو يزيده صلاحاً، كبئر الماء الذي يشرب منه الناس، فإمّا أن تتركه على حال صلاحه لا تُلقي فيه ما يسدُّه أو يُفسِده فتُخرج الصالح عن صلاحه، وإما أنْ تزيده صلاحاً فتُضيف إليه ما يُحسِّن من أدائه ويُزيد من كفاءته كأنْ تبني حوله سوراً يحميه أو غطاءً يحفظه، أو آلةَ رفع تُيسِّر على الناس استعماله.
والفرد حين يعمل الصالحات تكون حصيلته من صلاح غيره أكثرَ من حصيلته من عمله هو؛ لأنه فَرْد واحد، ويستفيد بصلاح المجتمع كله، ومن هنا لا ينبغي أنْ تستثقلَ أوامر الشارع وتكليفاته؛ لأنه يأخذ منك ليعطيك وَليُؤمِّن حياتك وقت الحاجة والعَوَز، وحينما يتوفّر لك هذا التكافل الاجتماعي تستقبل الحياة بنفس راضية حال اليُسْر مطمئنة حال العُسْر.
وساعةَ أنْ يأمرك الشرع بكافلة اليتيم وإكرامه، فإنه يُطمئِنك على أولادك من بعدك، فلا تحزن إنْ أصابك مكروه؛ لأنك في مجتمع متعاون، سيكفل أولادك، بل قد يكون اليتيم في ظل الإسلام وتعاليمه أسعَد حظاً من حياته في رعاية أبيه؛ لأنه بموت أبيه يجد المؤمنين جميعاً آباءَ له، وربما كان أبوه مشغولاً عنه في حياته لا يُفيده بشيء، بل ويصدُّ عنه الخير حيث يقول الناس: أبوه موجود وهو يتكفّل به.

لذلك يقول أحمد شوقي:لَيْسَ اليَتيمُ مَنِ انتهَى أَبَواهُ مِنْ هَمِّ الحيَاةِ وخَلَّفَاهُ ذَليلاإنَّ اليَتِيمَ هُوَ الذِي تَلْقَى لَهُ أُمَّا تخلَّتْ أَوْ أباً مَشْغُولاوقوله تعالى: } كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً { [الكهف: 107] الفردوس: هو أعلى الجنة، والنُّزُل: ما يُعده الإنسان لإكرام ضيفه من الإقامة ومَقوّمات الحياة وتَرَفها، والإنسان حينما يُعِدُّ النُزْلَ لضيفه يعده على حَسْب قدراته وإمكانياته وعلمه بالأشياء، فما بالك إنْ كان المعِدّ لِلنُّزُل هو الله تبارك وتعالى؟
ثم يقول الحق سبحانه: } خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ {
(/2231)
________________________________________
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)

وخلود النعيم في الآخرة يُميّزه عن نعيم الدنيا مهما سَمَا، كما أن نعيم الدنيا يأتي على قَدْر تصوُّرنا في النعيم وعلى حَسْب قدراتنا، وحتى إنْ بلغنا القمة في التنعُّم في الدنيا فإننا على خَوْف دائم من زواله، فإما أنْ يتركك النعيم، وإما أن تتركه، وأما في الجنة فالنعمة خالدة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وأنت مُخلّد فيها فلن تتركك النعمة ولن تتركها.
لذلك يقول تعالى بعدها: { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [الكهف: 108] أي: لا يطلبون تحوُّلهم عنها إلى غيرها، لأنه لا يُتصوَّر في النعيم أعلى من ذلك.
ومعلوم أن الإنسان لديه طموحات ترفيهية، فكلما نال خيراً تطلع إلى أعلى منه، وكلما حاز متعةً ابتغى أكثر منها، هذا في الدنيا أما في الآخرة فالأمر مختلف، وإلا فكيف يطلب نعيماً أعلى من الجنة الذي قال الله عنه:{ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـاذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً }[البقرة: 25].
أي: كلما رزقهم الله ثمرةً أتتْهم أخرى فقالوا: لقد رُزِقْنا مثلهم من قبل، وظنّوها كسابقتها، لكنها ليست كسابقتها بل بطعم جديد مختلف، وإن كانت نفس الثمرة، ذلك لأن قدرة الأسباب محدودة، أما قدرة المسبِّب فليست محدودة.
والحق سبحانه وتعالى قادر على أن يُخرِج لك الفاكهة الواحدة على ألف لَوْن وألف طَعْم؛ لأن كمالاته تعالى لا تتناهى في قدرتها؛ لذلك يقول تعالى:{ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً }[البقرة: 25] فالثمر واحد متشابه، أمَّا الطعم فمختلف.
والإنسان مِنّا لِيشقَّ طريقه في الحياة يظل يتعلّم، ليأخذ شهادة مثلاً أو يتعلم مهنة، ويظل في تعب ومشقة ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً من عمره أملاً في أن يعيش باقي حياته المظنونة مرتاحاً هانئاً، وَهْب أنك ستعيش باقي حياتك في راحة، فكم سيكون الباقي منها؟
أما الراحة الأبدية في الآخرة فهي زمن لا نهايةَ له، ونعيم خالد لا ينتهي، ففي أيِّ شيء يطمع الإنسان بعد هذا كله؟ وإلى أيِّ شيء يطمح؟
لذلك قال تعالى بعدها: { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ }
(/2232)
________________________________________
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)

لأن قدرته تعالى لا حدود لها، ومادامت قدرته لا حدود لها فالمقدورات أيضاً لا حدود لها؛ لذلك لو كان البحر مداداً أي: حِبْراً يكتب به كلمات الله التي هي (كُنْ) التي تبرز المقدورات ما كان كافياً لكلمات الله { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [الكهف: 109] أي: بمثل البحر.
ونحن نقول مثلاً عن السلعة الجيدة: لا يستطيع المصنع أنْ يُخرِج أحسن من هذه، أما صنعة الله فلا تقف عند حد؛ لأن المصنع يعالج الأشياء، أما الحق ـ تبارك وتعالى ـ فيصنعها بكلمة كُنْ؛ لذلك نجد في أرقى فنادق الدنيا أقصى ما توصَّل إليه العلم في خدمة البشر أنْ تضغط على زِرِّ معين، فيُخرِج لك ما تريد من طعام أو شراب.
وهذه الأشياء بلا شكَّ مُعدَّة ومُجهَّزة مُسْبقاً، فقط يتم استدعاؤها بالضغط على زر خاص بكل نوع، لكن هل يوجد نعيم في الدنيا يحضر لك ما تريد بمجرد أن يخطر على بالك؟ إذن: فنعيم الدنيا له حدود ينتهي عندها.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ حَتَّىا إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[يونس: 24].
وكأن الحق سبحانه يقول لنا: لقد استنفدتم وسائلكم في الدنيا، وبلغتم أقصى ما يمكن من مُتَعِها وزينتها، فتعالوا إلى ما أعددتُه أنا لكم، اتركوا ما كنتم فيه من أسباب الله، وتعالوا عِيشُوا بالله، كنتم في عالم الأسباب فتعالوْا إلى المسبِّب.
وإنْ كان الحق سبحانه قد تكلم في هذه الآية عن المداد الذي تُكتب به كلمات الله، فقد تكلَّم عن الأقلام التي يكتب بها في آية أخرى أكثر تفصيلاً لهذه المسألة، فقال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ }[لقمان: 27].
ونقف هنا عند دِقَّة البيان القرآني، فلو تصوَّرنا ما في الأرض من شجر أقلام، مع ما يتميز به الشجر من تجدُّد مستمر، وتكرُّر دائم يجعل من الأشجار ثروة لا حَصْر لها ولا تنتهي، وتصوَّرنا ماء البحر مداداً يُكتب به إلا أنّ ماء البحر منذ خلقه الله تعالى محدود ثابت لاَ يزيد ولا ينقص.
لذلك لما كان الشجر يتجدَّد ويتكرَّر، والبحر ماؤه ثابت لا يزيد. قال سبحانه:{ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ }[لقمان: 27] ليتناسب تزايد الماء مع تزايد الشجر، والمراد سبعة أمثاله، واختار هذا العدد بالذات؛ لأنه مُنتَهى العدد عند العرب.
وقد أوضح لنا العلم دورة الماء في الطبيعة، ومنها نعلم أن كمية الماء في الأرض ثابتة لا تزيد؛ لأن ما يتم استهلاكه من الماء يتبخّر ويعود من جديد فالإنسان مثلاً لو شَرِب طيلة عمره مائة طن من الماء، فاحسب ما يخرج منه من بول وعرق وفضلات في عملية الإخراج تجدها نفس الكمية التي شربها، وقد تبخرتْ وأخذَتْ دورتها من جديد؛ لذلك يقولون: رُبَّ شربةِ ماء شربها من آدم الملايين.
ثم يقول الحق سبحانه: { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ... }
(/2233)
________________________________________
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

(قُلْ) أي: يا محمد، وهذا كلام جديد { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ... } [الكهف: 110] يعني: خُذُوني أُسْوة، فأنا لست ملَكاً إنما أنا بشر مثلكم، وحملتُ نفسي على المنهج الذي أطالبكم به، فأنا لا آمركم بشيء وأنا عنه بنجْوَى. بل بالعكس كان صلى الله عليه وسلم أقلَّ الناس حَظّاً من مُتَعِ الحياة وزينتها.
فكان في المؤمنين به الأغنياء الذين يتمتعون بأطايب الطعام ويرتدُونَ أغْلى الثياب في حين كان صلى الله عليه وسلم يمر عليه الشهر والشهران دون أنْ يُوقَد في بيته نار لطعام، وكان يرتدي المرقّع من الثياب، كما أن أولاده لا يرثونه، كما يرث باقي الناس، ولا تحل لهم الزكاة كغيرهم، فحُرِموا من حَقٍّ تمتع به الآخرون.
لذلك كان صلى الله عليه وسلم أدنى الأسوات أي: أقل الموجودين في مُتع الحياة وزُخْرفها، وهذا يلفتنا إلى أن الرسالة لم تُجْرِ لمحمد نفعاً دنيوياً، ولم تُميِّزه عن غيره في زَهْرة الدنيا الفانية، إنما مَيَّزتْه في القيم والفضائل.
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقول: " يرد عليَّ ـ يعني من الأعلى ـ فأقول: أنا لست مثلكم، ويؤخذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم ".
والآية هنا لا تميزه صلى الله عليه وسلم عن البشر إلا في أنه: { يُوحَىا إِلَيَّ } [الكهف: 110] فما زاد محمد عن البشر إلا أنه يُوحَى إليه.
ثم يقول تعالى: { أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [الكهف: 110] أنما: أداة قَصْر { إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [الكهف: 110] أي: لا إله غيره، وهذه قِمَّة المسائل، فلا تلتفتوا إلى إله غيره، ومن أعظم نعم الله على الإنسان أنْ يكونَ له إله واحد، وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً ليوضح لنا هذه المسألة فقال تعالى:
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً }[الزمر: 29].
فلا يستوي عبد مملوك لعدة أسياد يتجاذبونه؛ لأنهم متشاكسون مختلفون يَحَارُ فيما بينهم، إنْ أرضي هذا سخط ذاك. هل يستوي وعبد مملوك لسيد واحد؟ إذن: فمما يُحمَد الله عليه أنه إله واحد.
{ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } [الكهف: 110] الناس يعملون الخير لغايات رسمها الله لهم في الجزاء، ومن هذه الغايات الجنة ونعيمها، لكن هذه الآية تُوضّح لنا غاية أَسْمى من الجنة ونعيمها، هي لقاء الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم، فقوله تعالى: { يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهًِ } [الكهف: 110] تصرف النظر عن النعمة إلى المنعم تبارك وتعالى.
فمن أراد لقاء ربه لا مُجرَّد جزائه في الآخرة: { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً } [الكهف: 110] فهذه هي الوسيلة إلى لقاء الله؛ لأن العمل الصالح دليل على أنك احترمتَ أمر الآخر بالعمل، ووثقتَ من حكمته ومن حُبِّه لك فارتاحتْ نفسك في ظلِّ طاعته، فإذا بك إذا أويْتَ إلى فراشك تستعرض شريط أعمالك، فلا تجد إلا خيراً تسعَدُ به نفسك، وينشرح له صدرك، ولا تتوجَّس شراً من أحد، ولا تخاف عاقبة أمر لا تُحمَدُ عقباه، فمَنِ الذي أنعم عليك بكل هذه النعم ووفَّقك لها؟
ثم: { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [الكهف: 110] وسبق أن قُلْنا: إن الجنة أحد، فلا تشرك بعبادة الله شيئاً، ولو كان هذا الشيء هو الجنة، فعليك أنْ تسموَ بغاياتك، لا إلى الجنة بل إلى لقاء ربها وخالقها والمنعِم بها عليك.

وقد ضربنا لذلك مثلاً بالرجل الذي أعدَّ وليمة عظيمة فيها أطايب الطعام والشراب، ودعا إليها أحبابه فلما دخلوا شغلهم الطعام إلا واحداً لم يهتم بالطعام والشراب، وسأل عن صاحب الوليمة ليُسلِّم عليه ويأنس به.
وما أصدق ما قالته رابعة العدوية:كُلُّهم يَعبدُونَ مِنْ خَوْفِ نارٍ ويروْنَ النَّجاةَ حَظَّا جَزِيلاًأَوْ بأنْ يسكنُوا الجِنَان فيحظَوْاَ بقصُورٍ ويشْرَبُوا سَلْسَبِيلاليسَ لِي بالجنَانِ والنَّارِ حظُّ أنَا لا ابتغِي بحُبِّي بَدِيلاوهذا يشرح لنا الحديث القدسي: " لوْ لَم أخلق جنة وناراً، أما كنتُ أَهْلاً لأنْ أُعْبَد؟ ".
فلا ينبغي للعبد أن يكون نفعياً حتى في العبادة، والحق سبحانه وتعالى أهْل بذاته لأن يُعبد، لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، فاللهم ارزقنا هذه المنزلة، واجعلنا برحمتك من أهلها.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت يونيو 21, 2008 10:02 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه

تفسير سيدى محى الدين بن عربى لسورة الكهف


{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } * { قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } * { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً }

{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } أثنى الله تعالى بلسان التفصيل على نفسه باعتبار الجمع من حيث كونه منعوتاً بإنزال الكتاب وهو إدراج معنى الجمع في صورة التفصيل فهو الحامد والمحمود تفصيلاً وجمعاً، فالحمد إظهار الكمالات الإلهية والصفات الجمالية والجلالية على الذات المحمدية باعتبار العروج بعد تخصيصه إياه بنفسه في العناية الأزلية المشار إليه بالإضافة في قوله: عبده، وذلك جعل عينه في الأزل قابلة للكمال المطلق من فيضه وإيداع كتاب الجمع فيه بالقوة التي هي الاستعداد الكامل وإنزال الكتاب عليه إبراز تلك الحقائق عن ممكن الجمع الوحداني على ذلك المظهر الإنساني فهما متعاكسان باعتبار النزول والعروج والإنزال في الحقيقة حمد الله تعالى لنبيه إذ المعاني الكامنة في أغيب الغيب ما لم ينزل على قلبه فلم يمكنه حمد الله حق حمده فما لم يحمده الله لم يحمد الله بل حمده حمده كما قال: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، حمد أولاً في عين الجمع نفسه باعتبار التفصيل ثم عكس فقال: الحمد لله.

{ ولم يجعل له } أي: لعبده { عوجاً } أي: زيغاً وميلاً إلى الغير كما قال:
{ مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ }
[النجم، الآية: 17] أي: لم ير الغير في شهوده.

{ قيماً } أي: جعله قيماً، يعني: مستقيماً كما أمر بقوله:
{ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ }
[هود، الآية: 112]، والمعنى: جعله موحداً فانياً فيه غير محتجب في شهوده بالغير ولا بنفسه لكونها غير أيضاً ممكناً مستقيماً حال البقاء، كما قال:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ }
[فصلت، الآية: 30]، أو جعله قيماً بأمر العباد وهدايتهم إذ التكميل يترتب على الكمال لأنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها أقيمت نفوس أمته مقام نفسه فأمر بتقويمها وتزكيتها ولهذا المعنى سمى إبراهيم صلوات الله عليه أمة، وهذه القيمية أي القيام بهداية الناس داخلة في الاستقامة المأمور هو بها في الحقيقة { لينذر } متعلق بعامل قيماً أي: جعله قيماً بأمر العباد { لينذر بأساً شديداً } وحذف المفعول الأول للتعميم لأن أحداً لا يخلو من بأس مؤمناً كان أو كافراً، كما قال تعالى: " أنذر الصدّيقين بأني غيور، وبشّر المذنبين بأني غفور " إذ البأس عبارة عن قهره ولذلك عظمه بالتنكير، أي: بأساً يليق بعظمته وعزّته ووصفه بالشدّة وخصصه بقوله: { من لدنه } والقهر قسمان: قهر محض ظاهره وباطنه قهر كالمختص بالمحجوبين بالشرك، وقسم ظاهره قهر وباطنه لطف، وكذا اللطف كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: سبحان من اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة نعمته، واتسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته. ومن القسم الثاني القهر المخصوص بالموحدين من أهل الفناء أطلق الإنذار للكل تنبيهاً ثم فصل اللطف والقهر مقيدين بحسب الصفات والاستحقاقات فقال: { ويبشّر المؤمنين } أي: الموحدين لكونهم في مقابلة المشركين الذين قلوا: اتخذ الله ولداً.

{ الذين يعملون الصالحات } أي: الباقيات من الخيرات والفضائل لأن الأجر الحسن هو من جنة الآثار والأفعال التي تستحق بالأعمال.


{ وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } * { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } * { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً }
واعلم أن الإنذار والتبشير اللذين هما من باب التكميل اللازم لكونه قيّماً عليهم كلاهما أثر ونتيجة عن صفتي القهر واللطف الإلهيين اللذين محل استعداد قبولهما من نفس العبد الغضب والشهوة، فإنّ العبد ما استعدّ لقبولهما إلا بصفتي الغضب والشهوة وفنائهما كما لم يستعدّ فلضيلتي الشجاعة والعفة إلا بوجودهما، فلما انتفتا قامتا مقامهما لأن كلاًّ منهما ظل لواحدة من تينك يزول بحصولها فعند ارتواء القلب منهما وكمال التخلق بهما حدث عن القهر الإنذار عند استحقاقية المحل بالكفر والشرك وعن اللطف التبشير باستحقاقية الإيمان والعمل الصالح، إذ الإفاضة لا تكون إلا عند استحقاق المحل.

{ ما لهم به من علم ولا لآبائهم } أي: ما لهم بهذا القول من علم بل إنما يصدر عن جهل مفرط وتقليد للآباء لا عن علم ويقين ويؤيده قوله: { كبرت كلمة } أي: ما أكبرها كلمة { تخرج من أفواههم } ليس في قلوبهم من معناه شيء لأنه مستحيل لا معنى له إذ العلم اليقيني يشهد أن الوجود الواجبي العلي أحديّ الذات لا يماثله الوجود الممكن المعلول. والولد هو المماثل لوالده في النوع المكافئ له في القوة والشهود الذاتي يحكم بفناء الخلق في الحق والمعلول في المشهود، فلم يكن ثم سوّاه شيء غيره فضلاً عن الشبيه والولد كما قال أحدهم:

هذا الوجود وإن تكثّر ظاهراً وحياتكم ما فيه إلا أنتم

{ إن يقولون إلاّ كذباً } لتطابق الدليل العقلي والوجدان الذوقي الشهوديّ على إحالته. { فلعلك باخع } أي: مهلك { نفسك } من شدّة الوجد والأسف على توليهم وإعراضهم، وذلك لأن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله:
{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }
[المائدة، الآية: 54] وكلما كانت محبته للحق أقوى كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر لكون الشفقة عليهم ظلّ محبته لله اشتدّ تعطفه عليهم، فإنهم كأولاده وأقاربه بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي، فلذلك بالغ في التأسف عليهم حتى كاد يهلك نفسه. وأيضاً علم أن المحب إذا تقوّى بالمحبوب في استمرار الوصل ظهر قبوله في القلوب لمحبة الله إياه.


{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } * { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } * { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }
فلما لم يؤمنوا بالقرآن استشعر ببقية من نفسه وتوجس بنقصان حاله فعلاه الوجد وعزم على قهر النفس بالكلية طلباً للغاية وكان ذلك من فرط شفقته عليهم وكمال أدبه مع الله حيث أحال عدم إيمانهم على ضعف حاله لا على عدم استعدادهم ولذلك سلاّه بقوله: { إنّا جعلنا } أي: لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعاً، إنّا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء ثم نفنيها ولا حيف ولا نقص، أو إنّا جعلنا ما على أرض البدن من النفس ولذاتها وشهواتها وقوى صفاتها وإدراكاتها ودواعيها { زينة } لها ليظهر أيهم أقهر لها وأعصى لهواها في رضاي وأقدر على مخالفتها لموافقتي.

{ وإنّا لجاعلون } بتجلينا وتجلي صفاتنا { ما عليها } من صفاتها هامدة كأرض ملساء لا نبات فيها أي: نفنيها وصفاتها بالموت الحقيقي أو بالموت الطبيعي ولا نبالي، بل { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً } أي: إذا شاهدت هذا الإنشاء والإفناء فليس حال أصحاب الكهف آية عجيبة من آياتنا بل هذه أعجب. واعلم أن أصحاب الكهف هم السبعة الكمل القائمون بأمر الحق دائماً الذين يقوم بهم العالم ولا يخلو عنهم الزمان على عدد الكواكب السبعة السيّارة وطبقها فكما سخرها الله تعالى في تدبير نظام عالم الصورة كما أشار إليه بقوله:
{ فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً }
[النازعات، الآيات: 4-5] على بعض التفاسير وكل نظام عالم المعنى وتكميل نظام الصورة إلى سبعة أنفس من السابقين كل ينتسب بحسب الوجود الصوري إلى واحد منهم، والقطب هو المنتسب إلى الشمس والكهف هو باطن البدن والرقيم ظاهره الذي انتقش بصور الحواس والأعضاء إن فسر باللوح الذي رقمت فيه أسماؤهم والعالم الجسماني إن جعل اسم الوادي الذي فيه الجبل والكهف والنفس الحيوانية إن جعل اسم الكلب والعالم العلوي إن جعل اسم قريتهم على اختلاف الأقوال في التفاسير ومنهم الأنبياء السبعة المشهورون المبعوثون بحسب القرون والأدوار، وإن كان كل نبيّ منهم على ذكر وهم: آدم وإدريس ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لأنه السابع المخصوص بمعجزة انشقاق القمر، أي: انفلاقه عنه لظهوره في دورة ختم النبوة وكمل به الدين الإلهي كما أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " إذ المتأخر بالزمان والظهور أي: الوجود الحسيّ هو الحائز لصفات الكلّ وكمالاتهم كالإنسان بالنسبة إلى سائر الحيوانات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " كأنّ بنيان النبوّة قد تمّ وبقي منه موضع لبنة واحدة، فكنت أنا تلك اللبنة " وقد اتفق الحكماء المتألهة من قدماء الفرس أن مراتب العقول والأرواح على مذهبهم في التنازل تتضاعف إشراقاتها، فكل من تأخر في الرتبة كان حظه من إشراقات الحق وأنواره وسبحات أشعة وجهه وإشراقات أنوار الوسائط أوفر وأزيد فكذا في الزمان فهو الجامع الحاصر لصفات الكل وكمالاتهم الحاوي لخواصهم ومعانيهم مع كماله الخاص به اللازم للهيئة الاجتماعية، كما قال صلى الله عليه وسلم:

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } * { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } * { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }
" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ومن هذا ظهر تقدّمه عليهم بالشرف والفضيلة ومن جهة أن إبراهيم عليه السلام كان مظهر التوحيد الأعظمي الذاتي، وكان هو الوسط في الترتيب الزماني بمنزلة الشمس في الرتبة كان قطب النبوة، ولزمهم كلهم اتباعه وإن لم يظهر في المتقدمين عليه بالزمان كارتباط الكواكب الستة في سيرها بها، ولكن كالقمر، فمتبعه بالحقيقة محمد صلى الله عليه وسلم. واعلم أن الأرواح في عالمها مراتب متعينة، وصفوف مترتبة واستعدادات متفاوتة متهيئة في الأزل بمحض العناية الأولى والفيض الأقدس فأهل الصف الأول هم السابقون المفردون المقرّبون المحبوبون المخصوصون بفضل عنايته وسابقة كرامته المتعارفون بنوره المتحابون فيه، والباقون يتباينون في الدرجات وبحسب تقاربها وتباعدها، يتعارفون ويتناكرون، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف إلى آخر الصفوف، فلها مراكز ثابتة، وأصول راسخة في العالم العلوي وعند التعلق بالأبدان يتفاوت درجات كمالاتها وغاية سعاداتها بحسب ما لها من الاستعداد الأول المخصوص بكل منها من مباديها في الأزل كما قال عليه الصلاة والسلام: " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " ، حتى انتهت الدرجات في العلوّ إلى الفناء في التوحيد الذاتي، فبهذا الاعتبار يكون محمد عليه السلام عين آدم بل عين السبعة وكذا باعتبار كونه جامعاً لصفاتهم كما قيل إنه سأله أبو يزيد رحمة الله عليه: أنت من السبعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " أنا السبعة " وباعتبار علوّ مرتبته ومكانته، وسبقه في القدم وارتفاع درجة كماله وفضيلته، كان أقدمهم وأولهم وأفضلهم كما قال: " أول ما خلق الله نوري وكنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين " فهو متقدم عليهم بالرتبة والعلية والشرف والفضيلة، متأخر عنهم بالزمان وهو عينهم باعتبار السر والوحدة الذاتية، فالحاصل أن اختلافهم وتباينهم روحاً وقلباً ونفساً لا ينافي اتحادهم في الحقيقة وكذا افتراقهم بالأزمنة لا ينافي معيتهم في الأزل والأبد وعين الجمع كما قال:
{ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ }
[البقرة: 253] مع قوله:
{ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ }
[البقرة، الآية: 136]. ويجوز أن يكون المراد بأصحاب الكهف روحانيات الإنسان التي تبقى بعد خراب البدن. وقول من قال: ثَلاَثَة، إشارة إلى الروح والعقل والقلب. والكلب هي النفس الملازمة لباب الكهف. ومن قال: خَمْسَة إشارة إلى الروح والقلب والعقل النظري والعقل العمليّ والقوة القدسية للأنبياء التي هي الفكر لغيرهم. ومن قال: سَبْعَة فتلك الخمسة مع السرّ والخفاء والله أعلم.
{ إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } * { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } * { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً }
{ إذ أوى الفتْيَة إلى الكهف } أي: كهف البدن بالتعلق به { فقالوا } بلسان الحال { ربنا آتنا من لدُنك } أي: من خزائن رحمتك التي هي أسماؤك الحسنى { رحمة } كما لا يناسب استعدادنا ويقتضيه { وهيئ لنا من أمرنا } الذي نحن فيه من مفارقة العالم العلوي والهبوط إلى العالم السفلي للاستكمال { رشداً } استقامة إليك في سلوك طريقك والتوجه إلى جنابك، أي: طلبوا بالاتصاف البدني والتعلق بآلات الكمال وأسبابه الكمال العلمي والعملي.

{ فضربنا على آذانهم } أي: أنمناهم نومة الغفلة عن عالمهم وكمالهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخفير ولا دعوة الداعي الخبير. في كهف البدن { سنين } ذوات عدد، أي: كثيرة أو معدودة أي: قليلة هي مدة انغماسهم في تدبير البدن وانغمارهم في بحر الطبيعة مشتغلين بها، غافلين عما وراءها من عالمهم إلى أوان بلوغ الأشد الحقيقي، والموت الإرادي أوالطبيعي، كما قال: " الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا ".

{ ثم بعثناهم } أي: نبهناهم عن نوم الغفلة بقيامهم عن مرقد البدن ومعرفتهم بالله وبنفوسهم المجرّدة { لنعلم } أي: ليظهر علمنا في مظاهرهم أو مظاهر غيرهم من سائر الناس { أيّ الحزبين } المختلفين في مدة لبثهم وضبط غايته الذين يعينون المدة أم يكلون علمه إلى الله، فإن الناس مختلفون في زمان الغيبة. يقول بعضهم: يخرج أحدهم على رأس كل ألف سنة وهو يوم عند الله، لقوله:
{ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }
[الحج، الآية: 47]. ويقول بعضهم: على رأس كل سبعمائة عام أو على رأس كل مائة، وهو بعض يوم، كما قالوا:
{ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }
[الكهف، الآية: 19]. والمحققون المصيبون هم الذين يكلون علمه إلى الله كالذين قالوا:
{ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ }
[الكهف، الآية: 19] ولهذا لم يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت ظهور المهديّ عليه السلام، وقال: " كذب الوقّاتون ".


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يونيو 25, 2008 10:58 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
تفسير سيدى محى الدين بن عربى لسورة الكهف


نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } * { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } * { هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }
{ إنهم فتية آمنوا بربّهم } إيماناً يقيناً علمياً على طريق الاستدلال أو المكاشفة { وزدناهم هدى } أي: هداية موصلة إلى عين اليقين ومقام المشاهدة بالتوفيق. { وربطنا على قلوبهم } قويناها بالصبر على المجاهدة، وشجعناهم على محاربة الشيطان ومخالفة النفس، وهجر المألوفات الجسمانية، واللذات الحسيّة، والقيام بكلمة التوحيد، ونفي إلهية الهوى، وترك عبادة صنم الجسم بين يدي جبّار النفس الأمّارة من غير مبالاة بها حين عاتبتهم على ترك عبادة إله الهوى وصنم البدن، وأوعدتهم بالفقر والهلاك، إذ النفس داعية إلى عبادته وموافقته، وتهيئة أسباب حظوظه مخيفة للقلب من الخوف والموت، أو جسرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار الدين القويم والدعوة إلى الحق عند كل جبّار هو دقيانوس وقته كنمروذ وفرعون وأبي جهل وأضرابهم ممن دان بدينهم واستولى عليه النفس الأمّارة فعبد الهوى، أو ادّعى لطغيانه، وتمرد أنائيته وعدوانه الربوبية من غير مبالاة عند معاتبته إياهم على ترك عبادة الصنم المجعول كما هو عادة بعضهم أو صنم نفسه، كما قال فرعون اللعين:
{ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي }
[القصص، الآية: 38] و
{ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ }
[النازعات، الآية: 24]. { هؤلاء قومنا } إشارة إلى النفس الأمارة وقواها، لأن لكل قوم إلهاً تعبده وهو مطلوبها ومرادها، والنفس تعبد الهوى كقوله:
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }
[الجاثية، الآية: 23]، أو إلى أهل زمان كل من خرج منهم داعياً إلى الله، إذ كل من عكف على شيء يهواه فقد عبده. { لولا يأتون عليهم } أي: على عبادتهم وإلهيتهم وتأثيرهم ووجودهم { بسلطان بيّن } أي: حجة بيّنة دليل على فساد التقليد وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله وتأثيره ووجوده محال، كما قال:
{ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ }
[النجم، الآية: 23] أي: اسماء بلا مسميات لكونها ليست بشيء.

{ وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }
{ وإذ اعْتَزلتموهم } أي: فارقتم نفوسكم وقواها بالتجرّد { وما يعبدون إلاَّ الله } من مراداتها وأهوائها { فأووا إلى الكهف } إلى البدن لاستعمال الآلات البدنية في الاستكمال بالعلوم والأعمال، وانخزلوا فيه منكسرين، مرتاضين، كأنهم ميتون بترك الحركات النفسانية والنزوات البهيمية والسطوات السبعية، أي: موتوا إرادياً { ينشر لكم ربكم من رحمته } حياة حقيقية بالعلم والمعرفة { ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً } كما لا ينتفع به بظهور الفضائل وطلوع أنوار التجليات، فتلتذون بالمشاهدات وتتمتعون بالكمالات كما قال تعالى:
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ }
[الأنعام، الآية: 122]، وقال عليه السلام في أبي بكر رضي الله عنه: " من أراد أن ينظر ميتاً يمشي على وجه الأرض فلينظر أبا بكر " ، أي: ميتاً عن نفسه يمشي بالله. أو وإذ اعتزلتم قومكم ومعبوداتهم غيّر الله من مطالبهم المختلفة، ومقاصدهم المتشتتة، وأهوائهم المتفننة، وأصنامهم المتخذة، فأووا إلى كهوف أبدانكم وامتنعوا عن فضول الحركات والخروج في أثر الشهوات، واعكفوا على الرياضات،
{ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ }
[الكهف، الآية: 16] زيادة كمال وتقوية ونصرة بالأمداد الملكوتية، والتأييدات القدسية، فيغلبكم عليهم ويهيئ لكم ديناً وطريقاً ينتفع به، وقبولاً يهتدي بكم الخلائق ناجين. وفي المأوى إلى الكهف عند مفارقتهم سر آخر يفهم من دخول المهدي في الغار إذ أُخرج ونزل عيسى والله أعلم. وفي نشر الرحمة وتهيئة المرفق من أمرهم عند الأوي إلى الكهف إشارة إلى أنّ الرحمة الكامنة في استعدادهم إنما تنتشر بالتعلق البدني والكمال بتهيئاته.
{ وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً }
{ وترى الشمس } أي: شمس الروح { إذا طلعت } أي: ترقت بالتجرّد عن غواشي الجسم وظهرت من أفقه تميل بهم من جهة البدن وميله ومحبته إلى جهة اليمين أي: جانب عالم القدس وطريق أعمال البرّ من الخيرات والفضائل والحسنات والطاعات. وسيرة الأبرار، فإن الأبرار هم أصحاب اليمين. { وإذا غربت } أي: هوت في الجسم واحتجبت به، واختفت في ظلماته وغواشيه، وخمد نورها، تقطعهم وتفارقهم كائنين في جهة الشمال، أي: جانب النفس وطريق أعمال السوء فينهمكون في المعاصي والسيئات والشرور والرذائل. وسيرة الفجار الذين هم أصحاب الشمال { وهم في فجوة منه } أي: في مجال متسع من بدنهم هو مقام النفس والطبيعة، فإن فيه متفسحاً لا يصيبهم فيه نور الروح. واعلم أن الوجه الذي يلي الروح من القلب موضع منور بنور الروح يسمى العقل وهو الباعث على الخير والمطرق لإلهام الملك والوجه الذي يلي النفس منه مظلم بظلمة صفاتها يسمى الصدر وهو محل وسوسة الشيطان كما قال:
{ ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ }
[الناس، الآية: 5]، فإذا تحرك الروح وأقبل القلب بوجهه إليه تنور وتقوى بالقوة العقلية الباعثة المشوقة إلى الكمال ومال إلى الخير والطاعة، وإذا تحركت النفس وأقبل القلب بوجهه إليها تكدر واحتجب عن نور الروح وأظلم العقل ومال إلى الشر والمعصية. وفي هاتين الحالتين تطرق الملك للإلهام والشيطان للوسواس وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وفي الآية لطيفة هي: أنه استعمل في الميل إلى الخير الازورار عن الكهف، وفي الميل إلى الشر قرضهم اي: قطعهم، وذلك أن الروح يوافق القلب في طريق الخبر ويأمره به ويوافقه معرضاً عن جانب البدن وموافقاته ولا يوافقه في طريق الشر بل يقطعه ويفارقه وهو منغمس في ظلمات النفس وصفاتها الحاجبة إياه عن النور وهو إشارة إلى تلوينهم في السلوك، فإن السالك ما لم يصل إلى مقام التمكين وبقي في التلوين قد تظهر عليه النفس وصفاته فيحتجب عن نور الروح ثم يرجع ذلك أي: طلوع نور الروح واختفاؤه من آيات الله التي يستدل بها ويتوصل منها إليه وإلى هدايته. { من يهد الله } بإيصاله إلى مقام المشاهدة والتمكين فيها { فهو المهتد } بالحقيقة لا غير { ومن يضلل } بحجبه عن نور وجهه فلا هادي له ولا مرشد, أو من يهد الله إليهم وإلى حالهم بالحقيقة ومن يضلله يحجبه عن حالهم.

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } * { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } * { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً }
{ وتحسبهم أيقاظاً } يا مخاطب لانفتاح أعينهم وإحساساتهم وحركاتهم الإرادية الحيوانية { وهم رقود } بالحقيقة في سنة الغفلة تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون { ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال } أي: نصرفهم إلى جهة الخير وطلب الفضيلة تارة، وإلى جهة الشر ومقتضى الطبيعة أخرى { وكلبهم } أي: نفسهم { باسطٌ ذراعيه } أي: ناشرة قوتيها الغضبية والشهوانية { بالوصيد } أي: بفناء البدن، ولم يقل: وكلبهم هاجع لأنها لم ترقد بل بسطت القوتين في فناء البدن ملازمة له لا تبرح عنه، والذراع الأيمن هو الغضب لأنه أقوى وأشرف وأقبل لدواعي القلب في تأديبه، والأيسر هو الشهوة لضعفها وخستها { لو اطّلعت عليهم } أي: على حقائقهم المجردة وأحوالهم السنية وما أودع الله فيهم من النورية والسنا، وما ألبسهم من العز و البهاء { لوليت منهم } فارّاً لعدم اعتقادك بالنفوس المجردة وأحوالها وعدم استعدادك لقبول كمالهم، أو لوليت منهم للفرار عنهم وعن معاملاتهم لميلك إلى اللذات الحسيّة والأور الطبيعية { ولملئت منهم رعباً } من أحوالهم ورياضاتهم، أو لو اطلعت عليهم بعد الوصول إلى الكمال وعلى أسرارهم ومقاماتهم في الوحدة لأعرضت عنهم وفررت من أحوالهم وملئت منهم رعباً لما ألبسهم الله من عظمته وكبريائه. وأين الحدث من القدم، وأنى يسع الوجود العدم.

{ وكذلك بعثناهم } أي: مثل ذلك البعث الحقيقي والإحياء المعنوي بعثناهم { ليتساءلوا بينهم } أي: ليتباحثوا بينهم عن المعاني المودعة في استعدادهم الحقائق المكنونة في ذواتهم فيكملوا بإبرازها وإخراجها إلى الفعل، وهو أول الانتباه الذي تسميه المتصوفة اليقظة { قال قائل منهم كم لبثتم } مرّ تأويله، والمحققون منهم هم الذين { قالوا ربّكم أعلم بما لبثتم فابْعَثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } هذا هو زمان استبصارهم واستفادتهم واستكمالهم. والورق هو ما معهم من العلوم الأولية التي لا تحتاج إلى كسب، إذ بها تستفاد الحقائق الذهنية من العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية. والمدينة محل الاجتماع، إذ لا بد من الصحبة والتربية أو مدينة العلم من قوله عليه السلام: " أنا مدينة العلم وعليّ بابها " وإنما بعثوا أحدهم لأن كمال الكل غير موقوف على التعليم والتعلم بل الكمال الأشرف هو العلمي فيكفي تعلم البعض عن كل فرقة وتنبيه الباقين كما قال تعالى:
{ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ }
[التوبة، الآية: 122].

{ فلينظر أيها أزكى طعاماً } أي: أهلها أطيب وأفضل علماً وأنقى من الفضول واللغو والظواهر كعلم الخلاف والجدل والنحو وأمثالها التي لا تتقوى ولا تكمل بها النفس كقوله:
{ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ }
[الغاشية، الآية: 7]، إذ العلم غذاء القلب كالطعام للبدن وهو الرزق الحقيقي الإلهي { وليتلطف } في اختيار الطعام ومن يشتري منه أي: ليختر المحقق الزكي النفس، الرشيد السمت، الفاضل السيرة، النقي السريرة، الكامل المكمل دون الفضولي الظاهري الخبيث النفس، المتعالم، المتصدّر، لإفادة ما ليس عنده ليستفيد بصحبته ويظهر كماله بمجالسته ويستبصر بعلمه فيفيدنا أو ليتلطف في أمره حتى لا يشعر بحالكم ودينكم، جاهل من غير قصد له { ولا يشعرنّ بكم أحداً } من أهل الظاهر المحجوبين وسكان عالم الطبيعة المنكرين، وإن أولنا أصحاب الكهف بالقوى الروحانية فالمبعوث هو الفكر، والمدينة محل اجتماع القوى الروحانية والنفسانية والطبيعية والذي هو أزكى طعاماً العقل دون الوهم والخيال والحواس، لأن كل مدرك له طعام والرزق هو العلم النظري على كلا التقديرين، ولا يشعرنّ بكم أحداً من القوى النفسانية.
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } * { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } * { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً }
{ إنهم إن يظهروا } أي: يغلبوا { عليكم يرجموكم } بحجارة الأهواء والدواعي من الغضب والشهوة وطلب اللذة فيقتلوكم بمنعكم عن كمالكم { أو يعيدوكم في ملّتهم } باستيلاء الوهم وغلبة الشيطان والإمالة إلى الهوى وعبادة الأوثان وعلى التأويل الأول ظهور العوام، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم إياهم إلى ملّتهم ظاهر كما كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } * { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً }
{ وكذلك أعثرنا عليهم } أي: مثل ذلك البعث والإنامة أطلعنا على حالهم المستعدّين القابلين لهديهم ومعرفة حقائقهم { ليعلموا } بصحبتهم وهدايتهم { أنّ وعد الله } بالبعث والجزاء { حق وأنّ الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم } أي: حين يتنازع المستعدون الطالبون بينهم أمرهم في المعاد، فمنهم من يقول: إن البعث مخصوص بالأرواح المجردة دون الأجساد، ومنهم من يقول: إنه بالأرواح والأجساد معاً، فعلموا بالاطلاع عليهم ومعرفتهم أنه بالأرواح والأجساد وأن المعاد الجسماني حق، { فقالوا ابنوا عليهم بنياناً } أي: فلما توفوا قالوا ذلك كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنية على الكمل، المقربين من الأنبياء والأولياء كإبراهيم ومحمد وعلى سائر الأنبياء والأولياء عليهم الصلاة والسلام. { ربّهم أعلم بهم } من كلام أتباعهم من أممهم والمقتدين بهم، أي: هم أجلّ وأعظم شأناً من أن يعرفهم غيرهم، الموحدون الهالكون في الله، المتحققون به، فهو أعلم بهم كما قال تعالى: " أوليائي تحت قبائي، لا يعرفهم غيري " { قال الذين غلبوا على أمرهم } من أصحابهم والذين يلون أمرهم تبركاً بهم وبمكانهم { لنتخذنّ عليهم مسجداً } يصلى فيه. { سيقولون } أي: الظاهريون من أهل الكتاب والمسلمين الذين لا علم لهم بالحقائق. وقوله: { رجماً بالغيب } أي: رمياً بالذي غاب عنهم، يعني: ظنّاً خالياً عن اليقين بعد قولهم: { ثلاثة رابعهم كلبهم } و { خمسة سادسهم كلبهم } وتوسيط الواو الدالة على أن الصفة مجامعة للموصوف ولا تفارقه، وأنه لا عدد وراءه بين قوله: { ويقولون سبعة } وبين { وثامنهم كلبهم }. وقوله: { ما يعلمهم إلا قليل } بعده، يدل على أنّ العدد هو سبعة لا غير، فالقليل هم المحققون القائلون به وإن أوّلناهم بالقوى الروحانية فهم العاقلتان: النظرية والعملية، والفكر والوهم، والتخيل والذكر، والحسّ المشترك المسمى بنطاسيا، والكلب النفس والشمس والروح على كلا التأويلين. ولهذا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: " إنهم كانوا سبعة، ثلاثة عن يمين الملك وثلاثة عن يساره، والسابع هو الراعي صاحب الكلب " ، فإن صحت الرواية فالملك هو دقيانوس النفس الأمّارة، والثلاثة الذين كانوا عن يمينه يستشيرهم هم العاقلتان والفكر، والثلاثة الذين كانوا عن يساره يستوزرهم هم التخيل والوهم والذكر، والراعي هو بنطاسيا صاحب أغنام الحواس، والذين قالوا هم ثلاثة ارادوا القلب والعاقلتين، والذين قالوا خمسة زادوا عليهم الفكر والوهم وتركوا المدرك للصور والذكر لعدم تصرفهما وكون كل منهما كالخزانة. وعلى هذا التأويل فالاطلاع للفئة المحققين من الحضرة الإلهية على بقاء النفس بعد خراب البدن، والتنازع، هو التجاذب والتغالب الواقع بين القوى في الاستيلاء على البدن الذي يبعثون فيه وهو البنيان المأمور ببنائه والآمرون هم الغالبون الذين قالوا: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } [الكهف، الآية: 21] يسجد، أي: ينقاد فيه جميع القوى الحيوانية و الطبيعية والنفسانية والمأمورون هم المغلوبون الفاعلون في البدن المبعوث فيه والله أعلم.


{ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً } * { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً }
{ ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك } أدّبه بالتأديب الإلهي بعدما نهاه عن المماراة والسؤال، فقال: " لا تقولنّ إلا وقت أن يشاء الله " بأن يأذن لك في القول فتكون قائلاً به وبمشيئته أو إلا بمشيئته على أنه حال، أي: ملتبساً بمشيئته، يعني: لا تقولنّ لما عزمت عليه من فعل إني فاعل ذلك في الزمان المستقبل إلا ملتبساً بمشيئة الله، قائلاً: إن شاء الله، أي: لا تسند الفعل إلى إرادتك بل إلى إرادة الله، فتكون فاعلاً به وبمشيئته { واذْكر ربّك } بالرجوع إليه والحضور { إذا نسيت } بالغفلة عند ظهور النفس والتلوين بظهور صفاتها { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا } أي: من الذكر عند التلوين وإسناد الفعل إلى صفاته بالتمكين والشهود الذاتي المخلص عن حجب الصفات { رشداً } استقامة، وهو التمكين في الشهود الذاتي.


{ وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } * { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } * { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } * { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } * { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً }
{ ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين } من التي تبتنى على دور القمر فتكون كل سنة شهراً ومجموعها خمسة وعشرون سنة، وذلك وقت انتباههم وتيقظهم { وازْدَادُوا تِسْعاً } هي مدة الحمل. وروعيت في الآية نكتة، هي أنه: لم يقل ثلثمائة سنة وتسعاً، أو ثلثمائة وتسع سنين، لاستعمال السنة في العرف وقت نزول الوحي في دورة شمسية لا قمرية، فأجمل العدد ثم بيّنه بقوله: سنين، فاحتمل أن يكون المميز غيرها كالشهر مثلاً، ثم بين أنّ المدة سنين مبهمة غير معينة، إذ لو قيل: ثلثمائة شهر سنين، فأبدل سنين من مجموع العدد، كانت العبارة صحيحة والمراد سنين كذا عدداً، أي: خمسة وعشرين. ويؤيده قوله بعده: { قل الله أعلم بما لبثوا } وقال قتادة: هو حكاية كلام أهل الكتاب من تتمة سيقولون: وقوله: { قل الله أعلم } ردّ عليهم. وفي مصحف عبد الله: وقالوا: { لبثوا } ، وذلك أن اليقين غير محقق ولا مطرد.

{ واتْل ما أوحي إليك من كتاب ربّك } يجوز أن تكون من لابتداء الغاية، والكتاب هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحى إلى من أوحى إليه، وأن تكون بياناً لما أوحى. والكتاب هو العقل الفرقاني وعلى التقديرين { لا مبدّل لكلماته } التي هي أصول الدين من التوحيد والعدل وأنواعهما { ولن تجد من دونه ملتحداً } تميل إليه لامتناع وجود ذلك.

{ واصبر نفسك } أمر بالصبر مع الله وأهله وعدم الالتفات إلى غيره وهذا الصبر هو من باب الاستقامة والتمكين لا يكون إلا بالله { مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ } أي: دائماً هم الموحدون من الفقراء المجرّدين الذين لا يطلبون غير الله ولا حاجة لهم في الدنيا والآخرة، ولا وقوف مع الأفعال والصفات { يريدون وجهه } أي: ذاته فحسب، يدعونه ولا يحتجبون عنه بغيره وقت ظهورها غداة الفناء ووقت احتجابها بهم عند البقاء، فالصبر معهم هو الصبر مع الله، ومجاوزة العين عنهم المنهي عنها هو الالتفات إلى الغير. { إنّا أعتدنا للظالمين } أي: المشركين المحجوبين عن الحق لقوله:
{ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
[لقمان، الآية: 13] { ناراً } عظيمة { أحاط بهم سرادقها } من مراتب الأكوان كالطباع العنصرية والصور النوعية المادية المحيطة بالأشخاص الهيولانية { بماء كالمهل } من جنس الغساق والغسلين، أي: المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار مسودة فيها دسومات يغاثون بها أو غسالاتهم القذرة أو من جنس الغصص والهموم المحرقة.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يونيو 25, 2008 11:22 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
تفسير سيدى محى الدين بن عربى لسورة الكهف


نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } * { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } * { هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }
{ إنهم فتية آمنوا بربّهم } إيماناً يقيناً علمياً على طريق الاستدلال أو المكاشفة { وزدناهم هدى } أي: هداية موصلة إلى عين اليقين ومقام المشاهدة بالتوفيق. { وربطنا على قلوبهم } قويناها بالصبر على المجاهدة، وشجعناهم على محاربة الشيطان ومخالفة النفس، وهجر المألوفات الجسمانية، واللذات الحسيّة، والقيام بكلمة التوحيد، ونفي إلهية الهوى، وترك عبادة صنم الجسم بين يدي جبّار النفس الأمّارة من غير مبالاة بها حين عاتبتهم على ترك عبادة إله الهوى وصنم البدن، وأوعدتهم بالفقر والهلاك، إذ النفس داعية إلى عبادته وموافقته، وتهيئة أسباب حظوظه مخيفة للقلب من الخوف والموت، أو جسرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار الدين القويم والدعوة إلى الحق عند كل جبّار هو دقيانوس وقته كنمروذ وفرعون وأبي جهل وأضرابهم ممن دان بدينهم واستولى عليه النفس الأمّارة فعبد الهوى، أو ادّعى لطغيانه، وتمرد أنائيته وعدوانه الربوبية من غير مبالاة عند معاتبته إياهم على ترك عبادة الصنم المجعول كما هو عادة بعضهم أو صنم نفسه، كما قال فرعون اللعين:
{ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي }
[القصص، الآية: 38] و
{ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ }
[النازعات، الآية: 24]. { هؤلاء قومنا } إشارة إلى النفس الأمارة وقواها، لأن لكل قوم إلهاً تعبده وهو مطلوبها ومرادها، والنفس تعبد الهوى كقوله:
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }
[الجاثية، الآية: 23]، أو إلى أهل زمان كل من خرج منهم داعياً إلى الله، إذ كل من عكف على شيء يهواه فقد عبده. { لولا يأتون عليهم } أي: على عبادتهم وإلهيتهم وتأثيرهم ووجودهم { بسلطان بيّن } أي: حجة بيّنة دليل على فساد التقليد وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله وتأثيره ووجوده محال، كما قال:
{ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ }
[النجم، الآية: 23] أي: اسماء بلا مسميات لكونها ليست بشيء.

{ وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }
{ وإذ اعْتَزلتموهم } أي: فارقتم نفوسكم وقواها بالتجرّد { وما يعبدون إلاَّ الله } من مراداتها وأهوائها { فأووا إلى الكهف } إلى البدن لاستعمال الآلات البدنية في الاستكمال بالعلوم والأعمال، وانخزلوا فيه منكسرين، مرتاضين، كأنهم ميتون بترك الحركات النفسانية والنزوات البهيمية والسطوات السبعية، أي: موتوا إرادياً { ينشر لكم ربكم من رحمته } حياة حقيقية بالعلم والمعرفة { ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً } كما لا ينتفع به بظهور الفضائل وطلوع أنوار التجليات، فتلتذون بالمشاهدات وتتمتعون بالكمالات كما قال تعالى:
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ }
[الأنعام، الآية: 122]، وقال عليه السلام في أبي بكر رضي الله عنه: " من أراد أن ينظر ميتاً يمشي على وجه الأرض فلينظر أبا بكر " ، أي: ميتاً عن نفسه يمشي بالله. أو وإذ اعتزلتم قومكم ومعبوداتهم غيّر الله من مطالبهم المختلفة، ومقاصدهم المتشتتة، وأهوائهم المتفننة، وأصنامهم المتخذة، فأووا إلى كهوف أبدانكم وامتنعوا عن فضول الحركات والخروج في أثر الشهوات، واعكفوا على الرياضات،
{ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ }
[الكهف، الآية: 16] زيادة كمال وتقوية ونصرة بالأمداد الملكوتية، والتأييدات القدسية، فيغلبكم عليهم ويهيئ لكم ديناً وطريقاً ينتفع به، وقبولاً يهتدي بكم الخلائق ناجين. وفي المأوى إلى الكهف عند مفارقتهم سر آخر يفهم من دخول المهدي في الغار إذ أُخرج ونزل عيسى والله أعلم. وفي نشر الرحمة وتهيئة المرفق من أمرهم عند الأوي إلى الكهف إشارة إلى أنّ الرحمة الكامنة في استعدادهم إنما تنتشر بالتعلق البدني والكمال بتهيئاته.
{ وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً }
{ وترى الشمس } أي: شمس الروح { إذا طلعت } أي: ترقت بالتجرّد عن غواشي الجسم وظهرت من أفقه تميل بهم من جهة البدن وميله ومحبته إلى جهة اليمين أي: جانب عالم القدس وطريق أعمال البرّ من الخيرات والفضائل والحسنات والطاعات. وسيرة الأبرار، فإن الأبرار هم أصحاب اليمين. { وإذا غربت } أي: هوت في الجسم واحتجبت به، واختفت في ظلماته وغواشيه، وخمد نورها، تقطعهم وتفارقهم كائنين في جهة الشمال، أي: جانب النفس وطريق أعمال السوء فينهمكون في المعاصي والسيئات والشرور والرذائل. وسيرة الفجار الذين هم أصحاب الشمال { وهم في فجوة منه } أي: في مجال متسع من بدنهم هو مقام النفس والطبيعة، فإن فيه متفسحاً لا يصيبهم فيه نور الروح. واعلم أن الوجه الذي يلي الروح من القلب موضع منور بنور الروح يسمى العقل وهو الباعث على الخير والمطرق لإلهام الملك والوجه الذي يلي النفس منه مظلم بظلمة صفاتها يسمى الصدر وهو محل وسوسة الشيطان كما قال:
{ ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ }
[الناس، الآية: 5]، فإذا تحرك الروح وأقبل القلب بوجهه إليه تنور وتقوى بالقوة العقلية الباعثة المشوقة إلى الكمال ومال إلى الخير والطاعة، وإذا تحركت النفس وأقبل القلب بوجهه إليها تكدر واحتجب عن نور الروح وأظلم العقل ومال إلى الشر والمعصية. وفي هاتين الحالتين تطرق الملك للإلهام والشيطان للوسواس وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وفي الآية لطيفة هي: أنه استعمل في الميل إلى الخير الازورار عن الكهف، وفي الميل إلى الشر قرضهم اي: قطعهم، وذلك أن الروح يوافق القلب في طريق الخبر ويأمره به ويوافقه معرضاً عن جانب البدن وموافقاته ولا يوافقه في طريق الشر بل يقطعه ويفارقه وهو منغمس في ظلمات النفس وصفاتها الحاجبة إياه عن النور وهو إشارة إلى تلوينهم في السلوك، فإن السالك ما لم يصل إلى مقام التمكين وبقي في التلوين قد تظهر عليه النفس وصفاته فيحتجب عن نور الروح ثم يرجع ذلك أي: طلوع نور الروح واختفاؤه من آيات الله التي يستدل بها ويتوصل منها إليه وإلى هدايته. { من يهد الله } بإيصاله إلى مقام المشاهدة والتمكين فيها { فهو المهتد } بالحقيقة لا غير { ومن يضلل } بحجبه عن نور وجهه فلا هادي له ولا مرشد, أو من يهد الله إليهم وإلى حالهم بالحقيقة ومن يضلله يحجبه عن حالهم.

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } * { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } * { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً }
{ وتحسبهم أيقاظاً } يا مخاطب لانفتاح أعينهم وإحساساتهم وحركاتهم الإرادية الحيوانية { وهم رقود } بالحقيقة في سنة الغفلة تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون { ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال } أي: نصرفهم إلى جهة الخير وطلب الفضيلة تارة، وإلى جهة الشر ومقتضى الطبيعة أخرى { وكلبهم } أي: نفسهم { باسطٌ ذراعيه } أي: ناشرة قوتيها الغضبية والشهوانية { بالوصيد } أي: بفناء البدن، ولم يقل: وكلبهم هاجع لأنها لم ترقد بل بسطت القوتين في فناء البدن ملازمة له لا تبرح عنه، والذراع الأيمن هو الغضب لأنه أقوى وأشرف وأقبل لدواعي القلب في تأديبه، والأيسر هو الشهوة لضعفها وخستها { لو اطّلعت عليهم } أي: على حقائقهم المجردة وأحوالهم السنية وما أودع الله فيهم من النورية والسنا، وما ألبسهم من العز و البهاء { لوليت منهم } فارّاً لعدم اعتقادك بالنفوس المجردة وأحوالها وعدم استعدادك لقبول كمالهم، أو لوليت منهم للفرار عنهم وعن معاملاتهم لميلك إلى اللذات الحسيّة والأور الطبيعية { ولملئت منهم رعباً } من أحوالهم ورياضاتهم، أو لو اطلعت عليهم بعد الوصول إلى الكمال وعلى أسرارهم ومقاماتهم في الوحدة لأعرضت عنهم وفررت من أحوالهم وملئت منهم رعباً لما ألبسهم الله من عظمته وكبريائه. وأين الحدث من القدم، وأنى يسع الوجود العدم.

{ وكذلك بعثناهم } أي: مثل ذلك البعث الحقيقي والإحياء المعنوي بعثناهم { ليتساءلوا بينهم } أي: ليتباحثوا بينهم عن المعاني المودعة في استعدادهم الحقائق المكنونة في ذواتهم فيكملوا بإبرازها وإخراجها إلى الفعل، وهو أول الانتباه الذي تسميه المتصوفة اليقظة { قال قائل منهم كم لبثتم } مرّ تأويله، والمحققون منهم هم الذين { قالوا ربّكم أعلم بما لبثتم فابْعَثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } هذا هو زمان استبصارهم واستفادتهم واستكمالهم. والورق هو ما معهم من العلوم الأولية التي لا تحتاج إلى كسب، إذ بها تستفاد الحقائق الذهنية من العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية. والمدينة محل الاجتماع، إذ لا بد من الصحبة والتربية أو مدينة العلم من قوله عليه السلام: " أنا مدينة العلم وعليّ بابها " وإنما بعثوا أحدهم لأن كمال الكل غير موقوف على التعليم والتعلم بل الكمال الأشرف هو العلمي فيكفي تعلم البعض عن كل فرقة وتنبيه الباقين كما قال تعالى:
{ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ }
[التوبة، الآية: 122].

{ فلينظر أيها أزكى طعاماً } أي: أهلها أطيب وأفضل علماً وأنقى من الفضول واللغو والظواهر كعلم الخلاف والجدل والنحو وأمثالها التي لا تتقوى ولا تكمل بها النفس كقوله:
{ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ }
[الغاشية، الآية: 7]، إذ العلم غذاء القلب كالطعام للبدن وهو الرزق الحقيقي الإلهي { وليتلطف } في اختيار الطعام ومن يشتري منه أي: ليختر المحقق الزكي النفس، الرشيد السمت، الفاضل السيرة، النقي السريرة، الكامل المكمل دون الفضولي الظاهري الخبيث النفس، المتعالم، المتصدّر، لإفادة ما ليس عنده ليستفيد بصحبته ويظهر كماله بمجالسته ويستبصر بعلمه فيفيدنا أو ليتلطف في أمره حتى لا يشعر بحالكم ودينكم، جاهل من غير قصد له { ولا يشعرنّ بكم أحداً } من أهل الظاهر المحجوبين وسكان عالم الطبيعة المنكرين، وإن أولنا أصحاب الكهف بالقوى الروحانية فالمبعوث هو الفكر، والمدينة محل اجتماع القوى الروحانية والنفسانية والطبيعية والذي هو أزكى طعاماً العقل دون الوهم والخيال والحواس، لأن كل مدرك له طعام والرزق هو العلم النظري على كلا التقديرين، ولا يشعرنّ بكم أحداً من القوى النفسانية.
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } * { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } * { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً }
{ إنهم إن يظهروا } أي: يغلبوا { عليكم يرجموكم } بحجارة الأهواء والدواعي من الغضب والشهوة وطلب اللذة فيقتلوكم بمنعكم عن كمالكم { أو يعيدوكم في ملّتهم } باستيلاء الوهم وغلبة الشيطان والإمالة إلى الهوى وعبادة الأوثان وعلى التأويل الأول ظهور العوام، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم إياهم إلى ملّتهم ظاهر كما كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } * { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً }
{ وكذلك أعثرنا عليهم } أي: مثل ذلك البعث والإنامة أطلعنا على حالهم المستعدّين القابلين لهديهم ومعرفة حقائقهم { ليعلموا } بصحبتهم وهدايتهم { أنّ وعد الله } بالبعث والجزاء { حق وأنّ الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم } أي: حين يتنازع المستعدون الطالبون بينهم أمرهم في المعاد، فمنهم من يقول: إن البعث مخصوص بالأرواح المجردة دون الأجساد، ومنهم من يقول: إنه بالأرواح والأجساد معاً، فعلموا بالاطلاع عليهم ومعرفتهم أنه بالأرواح والأجساد وأن المعاد الجسماني حق، { فقالوا ابنوا عليهم بنياناً } أي: فلما توفوا قالوا ذلك كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنية على الكمل، المقربين من الأنبياء والأولياء كإبراهيم ومحمد وعلى سائر الأنبياء والأولياء عليهم الصلاة والسلام. { ربّهم أعلم بهم } من كلام أتباعهم من أممهم والمقتدين بهم، أي: هم أجلّ وأعظم شأناً من أن يعرفهم غيرهم، الموحدون الهالكون في الله، المتحققون به، فهو أعلم بهم كما قال تعالى: " أوليائي تحت قبائي، لا يعرفهم غيري " { قال الذين غلبوا على أمرهم } من أصحابهم والذين يلون أمرهم تبركاً بهم وبمكانهم { لنتخذنّ عليهم مسجداً } يصلى فيه. { سيقولون } أي: الظاهريون من أهل الكتاب والمسلمين الذين لا علم لهم بالحقائق. وقوله: { رجماً بالغيب } أي: رمياً بالذي غاب عنهم، يعني: ظنّاً خالياً عن اليقين بعد قولهم: { ثلاثة رابعهم كلبهم } و { خمسة سادسهم كلبهم } وتوسيط الواو الدالة على أن الصفة مجامعة للموصوف ولا تفارقه، وأنه لا عدد وراءه بين قوله: { ويقولون سبعة } وبين { وثامنهم كلبهم }. وقوله: { ما يعلمهم إلا قليل } بعده، يدل على أنّ العدد هو سبعة لا غير، فالقليل هم المحققون القائلون به وإن أوّلناهم بالقوى الروحانية فهم العاقلتان: النظرية والعملية، والفكر والوهم، والتخيل والذكر، والحسّ المشترك المسمى بنطاسيا، والكلب النفس والشمس والروح على كلا التأويلين. ولهذا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: " إنهم كانوا سبعة، ثلاثة عن يمين الملك وثلاثة عن يساره، والسابع هو الراعي صاحب الكلب " ، فإن صحت الرواية فالملك هو دقيانوس النفس الأمّارة، والثلاثة الذين كانوا عن يمينه يستشيرهم هم العاقلتان والفكر، والثلاثة الذين كانوا عن يساره يستوزرهم هم التخيل والوهم والذكر، والراعي هو بنطاسيا صاحب أغنام الحواس، والذين قالوا هم ثلاثة ارادوا القلب والعاقلتين، والذين قالوا خمسة زادوا عليهم الفكر والوهم وتركوا المدرك للصور والذكر لعدم تصرفهما وكون كل منهما كالخزانة. وعلى هذا التأويل فالاطلاع للفئة المحققين من الحضرة الإلهية على بقاء النفس بعد خراب البدن، والتنازع، هو التجاذب والتغالب الواقع بين القوى في الاستيلاء على البدن الذي يبعثون فيه وهو البنيان المأمور ببنائه والآمرون هم الغالبون الذين قالوا: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } [الكهف، الآية: 21] يسجد، أي: ينقاد فيه جميع القوى الحيوانية و الطبيعية والنفسانية والمأمورون هم المغلوبون الفاعلون في البدن المبعوث فيه والله أعلم.


{ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً } * { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً }
{ ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك } أدّبه بالتأديب الإلهي بعدما نهاه عن المماراة والسؤال، فقال: " لا تقولنّ إلا وقت أن يشاء الله " بأن يأذن لك في القول فتكون قائلاً به وبمشيئته أو إلا بمشيئته على أنه حال، أي: ملتبساً بمشيئته، يعني: لا تقولنّ لما عزمت عليه من فعل إني فاعل ذلك في الزمان المستقبل إلا ملتبساً بمشيئة الله، قائلاً: إن شاء الله، أي: لا تسند الفعل إلى إرادتك بل إلى إرادة الله، فتكون فاعلاً به وبمشيئته { واذْكر ربّك } بالرجوع إليه والحضور { إذا نسيت } بالغفلة عند ظهور النفس والتلوين بظهور صفاتها { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا } أي: من الذكر عند التلوين وإسناد الفعل إلى صفاته بالتمكين والشهود الذاتي المخلص عن حجب الصفات { رشداً } استقامة، وهو التمكين في الشهود الذاتي.


{ وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } * { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } * { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } * { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } * { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً }
{ ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين } من التي تبتنى على دور القمر فتكون كل سنة شهراً ومجموعها خمسة وعشرون سنة، وذلك وقت انتباههم وتيقظهم { وازْدَادُوا تِسْعاً } هي مدة الحمل. وروعيت في الآية نكتة، هي أنه: لم يقل ثلثمائة سنة وتسعاً، أو ثلثمائة وتسع سنين، لاستعمال السنة في العرف وقت نزول الوحي في دورة شمسية لا قمرية، فأجمل العدد ثم بيّنه بقوله: سنين، فاحتمل أن يكون المميز غيرها كالشهر مثلاً، ثم بين أنّ المدة سنين مبهمة غير معينة، إذ لو قيل: ثلثمائة شهر سنين، فأبدل سنين من مجموع العدد، كانت العبارة صحيحة والمراد سنين كذا عدداً، أي: خمسة وعشرين. ويؤيده قوله بعده: { قل الله أعلم بما لبثوا } وقال قتادة: هو حكاية كلام أهل الكتاب من تتمة سيقولون: وقوله: { قل الله أعلم } ردّ عليهم. وفي مصحف عبد الله: وقالوا: { لبثوا } ، وذلك أن اليقين غير محقق ولا مطرد.

{ واتْل ما أوحي إليك من كتاب ربّك } يجوز أن تكون من لابتداء الغاية، والكتاب هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحى إلى من أوحى إليه، وأن تكون بياناً لما أوحى. والكتاب هو العقل الفرقاني وعلى التقديرين { لا مبدّل لكلماته } التي هي أصول الدين من التوحيد والعدل وأنواعهما { ولن تجد من دونه ملتحداً } تميل إليه لامتناع وجود ذلك.

{ واصبر نفسك } أمر بالصبر مع الله وأهله وعدم الالتفات إلى غيره وهذا الصبر هو من باب الاستقامة والتمكين لا يكون إلا بالله { مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ } أي: دائماً هم الموحدون من الفقراء المجرّدين الذين لا يطلبون غير الله ولا حاجة لهم في الدنيا والآخرة، ولا وقوف مع الأفعال والصفات { يريدون وجهه } أي: ذاته فحسب، يدعونه ولا يحتجبون عنه بغيره وقت ظهورها غداة الفناء ووقت احتجابها بهم عند البقاء، فالصبر معهم هو الصبر مع الله، ومجاوزة العين عنهم المنهي عنها هو الالتفات إلى الغير. { إنّا أعتدنا للظالمين } أي: المشركين المحجوبين عن الحق لقوله:
{ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
[لقمان، الآية: 13] { ناراً } عظيمة { أحاط بهم سرادقها } من مراتب الأكوان كالطباع العنصرية والصور النوعية المادية المحيطة بالأشخاص الهيولانية { بماء كالمهل } من جنس الغساق والغسلين، أي: المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار مسودة فيها دسومات يغاثون بها أو غسالاتهم القذرة أو من جنس الغصص والهموم المحرقة.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يونيو 25, 2008 11:23 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
تفسير سيدى محى الدين بن عربى لسورة الكهف


نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } * { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } * { هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }
{ إنهم فتية آمنوا بربّهم } إيماناً يقيناً علمياً على طريق الاستدلال أو المكاشفة { وزدناهم هدى } أي: هداية موصلة إلى عين اليقين ومقام المشاهدة بالتوفيق. { وربطنا على قلوبهم } قويناها بالصبر على المجاهدة، وشجعناهم على محاربة الشيطان ومخالفة النفس، وهجر المألوفات الجسمانية، واللذات الحسيّة، والقيام بكلمة التوحيد، ونفي إلهية الهوى، وترك عبادة صنم الجسم بين يدي جبّار النفس الأمّارة من غير مبالاة بها حين عاتبتهم على ترك عبادة إله الهوى وصنم البدن، وأوعدتهم بالفقر والهلاك، إذ النفس داعية إلى عبادته وموافقته، وتهيئة أسباب حظوظه مخيفة للقلب من الخوف والموت، أو جسرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار الدين القويم والدعوة إلى الحق عند كل جبّار هو دقيانوس وقته كنمروذ وفرعون وأبي جهل وأضرابهم ممن دان بدينهم واستولى عليه النفس الأمّارة فعبد الهوى، أو ادّعى لطغيانه، وتمرد أنائيته وعدوانه الربوبية من غير مبالاة عند معاتبته إياهم على ترك عبادة الصنم المجعول كما هو عادة بعضهم أو صنم نفسه، كما قال فرعون اللعين:
{ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي }
[القصص، الآية: 38] و
{ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ }
[النازعات، الآية: 24]. { هؤلاء قومنا } إشارة إلى النفس الأمارة وقواها، لأن لكل قوم إلهاً تعبده وهو مطلوبها ومرادها، والنفس تعبد الهوى كقوله:
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }
[الجاثية، الآية: 23]، أو إلى أهل زمان كل من خرج منهم داعياً إلى الله، إذ كل من عكف على شيء يهواه فقد عبده. { لولا يأتون عليهم } أي: على عبادتهم وإلهيتهم وتأثيرهم ووجودهم { بسلطان بيّن } أي: حجة بيّنة دليل على فساد التقليد وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله وتأثيره ووجوده محال، كما قال:
{ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ }
[النجم، الآية: 23] أي: اسماء بلا مسميات لكونها ليست بشيء.

{ وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }
{ وإذ اعْتَزلتموهم } أي: فارقتم نفوسكم وقواها بالتجرّد { وما يعبدون إلاَّ الله } من مراداتها وأهوائها { فأووا إلى الكهف } إلى البدن لاستعمال الآلات البدنية في الاستكمال بالعلوم والأعمال، وانخزلوا فيه منكسرين، مرتاضين، كأنهم ميتون بترك الحركات النفسانية والنزوات البهيمية والسطوات السبعية، أي: موتوا إرادياً { ينشر لكم ربكم من رحمته } حياة حقيقية بالعلم والمعرفة { ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً } كما لا ينتفع به بظهور الفضائل وطلوع أنوار التجليات، فتلتذون بالمشاهدات وتتمتعون بالكمالات كما قال تعالى:
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ }
[الأنعام، الآية: 122]، وقال عليه السلام في أبي بكر رضي الله عنه: " من أراد أن ينظر ميتاً يمشي على وجه الأرض فلينظر أبا بكر " ، أي: ميتاً عن نفسه يمشي بالله. أو وإذ اعتزلتم قومكم ومعبوداتهم غيّر الله من مطالبهم المختلفة، ومقاصدهم المتشتتة، وأهوائهم المتفننة، وأصنامهم المتخذة، فأووا إلى كهوف أبدانكم وامتنعوا عن فضول الحركات والخروج في أثر الشهوات، واعكفوا على الرياضات،
{ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ }
[الكهف، الآية: 16] زيادة كمال وتقوية ونصرة بالأمداد الملكوتية، والتأييدات القدسية، فيغلبكم عليهم ويهيئ لكم ديناً وطريقاً ينتفع به، وقبولاً يهتدي بكم الخلائق ناجين. وفي المأوى إلى الكهف عند مفارقتهم سر آخر يفهم من دخول المهدي في الغار إذ أُخرج ونزل عيسى والله أعلم. وفي نشر الرحمة وتهيئة المرفق من أمرهم عند الأوي إلى الكهف إشارة إلى أنّ الرحمة الكامنة في استعدادهم إنما تنتشر بالتعلق البدني والكمال بتهيئاته.
{ وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً }
{ وترى الشمس } أي: شمس الروح { إذا طلعت } أي: ترقت بالتجرّد عن غواشي الجسم وظهرت من أفقه تميل بهم من جهة البدن وميله ومحبته إلى جهة اليمين أي: جانب عالم القدس وطريق أعمال البرّ من الخيرات والفضائل والحسنات والطاعات. وسيرة الأبرار، فإن الأبرار هم أصحاب اليمين. { وإذا غربت } أي: هوت في الجسم واحتجبت به، واختفت في ظلماته وغواشيه، وخمد نورها، تقطعهم وتفارقهم كائنين في جهة الشمال، أي: جانب النفس وطريق أعمال السوء فينهمكون في المعاصي والسيئات والشرور والرذائل. وسيرة الفجار الذين هم أصحاب الشمال { وهم في فجوة منه } أي: في مجال متسع من بدنهم هو مقام النفس والطبيعة، فإن فيه متفسحاً لا يصيبهم فيه نور الروح. واعلم أن الوجه الذي يلي الروح من القلب موضع منور بنور الروح يسمى العقل وهو الباعث على الخير والمطرق لإلهام الملك والوجه الذي يلي النفس منه مظلم بظلمة صفاتها يسمى الصدر وهو محل وسوسة الشيطان كما قال:
{ ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ }
[الناس، الآية: 5]، فإذا تحرك الروح وأقبل القلب بوجهه إليه تنور وتقوى بالقوة العقلية الباعثة المشوقة إلى الكمال ومال إلى الخير والطاعة، وإذا تحركت النفس وأقبل القلب بوجهه إليها تكدر واحتجب عن نور الروح وأظلم العقل ومال إلى الشر والمعصية. وفي هاتين الحالتين تطرق الملك للإلهام والشيطان للوسواس وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وفي الآية لطيفة هي: أنه استعمل في الميل إلى الخير الازورار عن الكهف، وفي الميل إلى الشر قرضهم اي: قطعهم، وذلك أن الروح يوافق القلب في طريق الخبر ويأمره به ويوافقه معرضاً عن جانب البدن وموافقاته ولا يوافقه في طريق الشر بل يقطعه ويفارقه وهو منغمس في ظلمات النفس وصفاتها الحاجبة إياه عن النور وهو إشارة إلى تلوينهم في السلوك، فإن السالك ما لم يصل إلى مقام التمكين وبقي في التلوين قد تظهر عليه النفس وصفاته فيحتجب عن نور الروح ثم يرجع ذلك أي: طلوع نور الروح واختفاؤه من آيات الله التي يستدل بها ويتوصل منها إليه وإلى هدايته. { من يهد الله } بإيصاله إلى مقام المشاهدة والتمكين فيها { فهو المهتد } بالحقيقة لا غير { ومن يضلل } بحجبه عن نور وجهه فلا هادي له ولا مرشد, أو من يهد الله إليهم وإلى حالهم بالحقيقة ومن يضلله يحجبه عن حالهم.

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } * { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } * { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً }
{ وتحسبهم أيقاظاً } يا مخاطب لانفتاح أعينهم وإحساساتهم وحركاتهم الإرادية الحيوانية { وهم رقود } بالحقيقة في سنة الغفلة تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون { ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال } أي: نصرفهم إلى جهة الخير وطلب الفضيلة تارة، وإلى جهة الشر ومقتضى الطبيعة أخرى { وكلبهم } أي: نفسهم { باسطٌ ذراعيه } أي: ناشرة قوتيها الغضبية والشهوانية { بالوصيد } أي: بفناء البدن، ولم يقل: وكلبهم هاجع لأنها لم ترقد بل بسطت القوتين في فناء البدن ملازمة له لا تبرح عنه، والذراع الأيمن هو الغضب لأنه أقوى وأشرف وأقبل لدواعي القلب في تأديبه، والأيسر هو الشهوة لضعفها وخستها { لو اطّلعت عليهم } أي: على حقائقهم المجردة وأحوالهم السنية وما أودع الله فيهم من النورية والسنا، وما ألبسهم من العز و البهاء { لوليت منهم } فارّاً لعدم اعتقادك بالنفوس المجردة وأحوالها وعدم استعدادك لقبول كمالهم، أو لوليت منهم للفرار عنهم وعن معاملاتهم لميلك إلى اللذات الحسيّة والأور الطبيعية { ولملئت منهم رعباً } من أحوالهم ورياضاتهم، أو لو اطلعت عليهم بعد الوصول إلى الكمال وعلى أسرارهم ومقاماتهم في الوحدة لأعرضت عنهم وفررت من أحوالهم وملئت منهم رعباً لما ألبسهم الله من عظمته وكبريائه. وأين الحدث من القدم، وأنى يسع الوجود العدم.

{ وكذلك بعثناهم } أي: مثل ذلك البعث الحقيقي والإحياء المعنوي بعثناهم { ليتساءلوا بينهم } أي: ليتباحثوا بينهم عن المعاني المودعة في استعدادهم الحقائق المكنونة في ذواتهم فيكملوا بإبرازها وإخراجها إلى الفعل، وهو أول الانتباه الذي تسميه المتصوفة اليقظة { قال قائل منهم كم لبثتم } مرّ تأويله، والمحققون منهم هم الذين { قالوا ربّكم أعلم بما لبثتم فابْعَثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } هذا هو زمان استبصارهم واستفادتهم واستكمالهم. والورق هو ما معهم من العلوم الأولية التي لا تحتاج إلى كسب، إذ بها تستفاد الحقائق الذهنية من العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية. والمدينة محل الاجتماع، إذ لا بد من الصحبة والتربية أو مدينة العلم من قوله عليه السلام: " أنا مدينة العلم وعليّ بابها " وإنما بعثوا أحدهم لأن كمال الكل غير موقوف على التعليم والتعلم بل الكمال الأشرف هو العلمي فيكفي تعلم البعض عن كل فرقة وتنبيه الباقين كما قال تعالى:
{ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ }
[التوبة، الآية: 122].

{ فلينظر أيها أزكى طعاماً } أي: أهلها أطيب وأفضل علماً وأنقى من الفضول واللغو والظواهر كعلم الخلاف والجدل والنحو وأمثالها التي لا تتقوى ولا تكمل بها النفس كقوله:
{ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ }
[الغاشية، الآية: 7]، إذ العلم غذاء القلب كالطعام للبدن وهو الرزق الحقيقي الإلهي { وليتلطف } في اختيار الطعام ومن يشتري منه أي: ليختر المحقق الزكي النفس، الرشيد السمت، الفاضل السيرة، النقي السريرة، الكامل المكمل دون الفضولي الظاهري الخبيث النفس، المتعالم، المتصدّر، لإفادة ما ليس عنده ليستفيد بصحبته ويظهر كماله بمجالسته ويستبصر بعلمه فيفيدنا أو ليتلطف في أمره حتى لا يشعر بحالكم ودينكم، جاهل من غير قصد له { ولا يشعرنّ بكم أحداً } من أهل الظاهر المحجوبين وسكان عالم الطبيعة المنكرين، وإن أولنا أصحاب الكهف بالقوى الروحانية فالمبعوث هو الفكر، والمدينة محل اجتماع القوى الروحانية والنفسانية والطبيعية والذي هو أزكى طعاماً العقل دون الوهم والخيال والحواس، لأن كل مدرك له طعام والرزق هو العلم النظري على كلا التقديرين، ولا يشعرنّ بكم أحداً من القوى النفسانية.
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } * { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } * { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً }
{ إنهم إن يظهروا } أي: يغلبوا { عليكم يرجموكم } بحجارة الأهواء والدواعي من الغضب والشهوة وطلب اللذة فيقتلوكم بمنعكم عن كمالكم { أو يعيدوكم في ملّتهم } باستيلاء الوهم وغلبة الشيطان والإمالة إلى الهوى وعبادة الأوثان وعلى التأويل الأول ظهور العوام، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم إياهم إلى ملّتهم ظاهر كما كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } * { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً }
{ وكذلك أعثرنا عليهم } أي: مثل ذلك البعث والإنامة أطلعنا على حالهم المستعدّين القابلين لهديهم ومعرفة حقائقهم { ليعلموا } بصحبتهم وهدايتهم { أنّ وعد الله } بالبعث والجزاء { حق وأنّ الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم } أي: حين يتنازع المستعدون الطالبون بينهم أمرهم في المعاد، فمنهم من يقول: إن البعث مخصوص بالأرواح المجردة دون الأجساد، ومنهم من يقول: إنه بالأرواح والأجساد معاً، فعلموا بالاطلاع عليهم ومعرفتهم أنه بالأرواح والأجساد وأن المعاد الجسماني حق، { فقالوا ابنوا عليهم بنياناً } أي: فلما توفوا قالوا ذلك كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنية على الكمل، المقربين من الأنبياء والأولياء كإبراهيم ومحمد وعلى سائر الأنبياء والأولياء عليهم الصلاة والسلام. { ربّهم أعلم بهم } من كلام أتباعهم من أممهم والمقتدين بهم، أي: هم أجلّ وأعظم شأناً من أن يعرفهم غيرهم، الموحدون الهالكون في الله، المتحققون به، فهو أعلم بهم كما قال تعالى: " أوليائي تحت قبائي، لا يعرفهم غيري " { قال الذين غلبوا على أمرهم } من أصحابهم والذين يلون أمرهم تبركاً بهم وبمكانهم { لنتخذنّ عليهم مسجداً } يصلى فيه. { سيقولون } أي: الظاهريون من أهل الكتاب والمسلمين الذين لا علم لهم بالحقائق. وقوله: { رجماً بالغيب } أي: رمياً بالذي غاب عنهم، يعني: ظنّاً خالياً عن اليقين بعد قولهم: { ثلاثة رابعهم كلبهم } و { خمسة سادسهم كلبهم } وتوسيط الواو الدالة على أن الصفة مجامعة للموصوف ولا تفارقه، وأنه لا عدد وراءه بين قوله: { ويقولون سبعة } وبين { وثامنهم كلبهم }. وقوله: { ما يعلمهم إلا قليل } بعده، يدل على أنّ العدد هو سبعة لا غير، فالقليل هم المحققون القائلون به وإن أوّلناهم بالقوى الروحانية فهم العاقلتان: النظرية والعملية، والفكر والوهم، والتخيل والذكر، والحسّ المشترك المسمى بنطاسيا، والكلب النفس والشمس والروح على كلا التأويلين. ولهذا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: " إنهم كانوا سبعة، ثلاثة عن يمين الملك وثلاثة عن يساره، والسابع هو الراعي صاحب الكلب " ، فإن صحت الرواية فالملك هو دقيانوس النفس الأمّارة، والثلاثة الذين كانوا عن يمينه يستشيرهم هم العاقلتان والفكر، والثلاثة الذين كانوا عن يساره يستوزرهم هم التخيل والوهم والذكر، والراعي هو بنطاسيا صاحب أغنام الحواس، والذين قالوا هم ثلاثة ارادوا القلب والعاقلتين، والذين قالوا خمسة زادوا عليهم الفكر والوهم وتركوا المدرك للصور والذكر لعدم تصرفهما وكون كل منهما كالخزانة. وعلى هذا التأويل فالاطلاع للفئة المحققين من الحضرة الإلهية على بقاء النفس بعد خراب البدن، والتنازع، هو التجاذب والتغالب الواقع بين القوى في الاستيلاء على البدن الذي يبعثون فيه وهو البنيان المأمور ببنائه والآمرون هم الغالبون الذين قالوا: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } [الكهف، الآية: 21] يسجد، أي: ينقاد فيه جميع القوى الحيوانية و الطبيعية والنفسانية والمأمورون هم المغلوبون الفاعلون في البدن المبعوث فيه والله أعلم.


{ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً } * { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً }
{ ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك } أدّبه بالتأديب الإلهي بعدما نهاه عن المماراة والسؤال، فقال: " لا تقولنّ إلا وقت أن يشاء الله " بأن يأذن لك في القول فتكون قائلاً به وبمشيئته أو إلا بمشيئته على أنه حال، أي: ملتبساً بمشيئته، يعني: لا تقولنّ لما عزمت عليه من فعل إني فاعل ذلك في الزمان المستقبل إلا ملتبساً بمشيئة الله، قائلاً: إن شاء الله، أي: لا تسند الفعل إلى إرادتك بل إلى إرادة الله، فتكون فاعلاً به وبمشيئته { واذْكر ربّك } بالرجوع إليه والحضور { إذا نسيت } بالغفلة عند ظهور النفس والتلوين بظهور صفاتها { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا } أي: من الذكر عند التلوين وإسناد الفعل إلى صفاته بالتمكين والشهود الذاتي المخلص عن حجب الصفات { رشداً } استقامة، وهو التمكين في الشهود الذاتي.


{ وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } * { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } * { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } * { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } * { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً }
{ ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين } من التي تبتنى على دور القمر فتكون كل سنة شهراً ومجموعها خمسة وعشرون سنة، وذلك وقت انتباههم وتيقظهم { وازْدَادُوا تِسْعاً } هي مدة الحمل. وروعيت في الآية نكتة، هي أنه: لم يقل ثلثمائة سنة وتسعاً، أو ثلثمائة وتسع سنين، لاستعمال السنة في العرف وقت نزول الوحي في دورة شمسية لا قمرية، فأجمل العدد ثم بيّنه بقوله: سنين، فاحتمل أن يكون المميز غيرها كالشهر مثلاً، ثم بين أنّ المدة سنين مبهمة غير معينة، إذ لو قيل: ثلثمائة شهر سنين، فأبدل سنين من مجموع العدد، كانت العبارة صحيحة والمراد سنين كذا عدداً، أي: خمسة وعشرين. ويؤيده قوله بعده: { قل الله أعلم بما لبثوا } وقال قتادة: هو حكاية كلام أهل الكتاب من تتمة سيقولون: وقوله: { قل الله أعلم } ردّ عليهم. وفي مصحف عبد الله: وقالوا: { لبثوا } ، وذلك أن اليقين غير محقق ولا مطرد.

{ واتْل ما أوحي إليك من كتاب ربّك } يجوز أن تكون من لابتداء الغاية، والكتاب هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحى إلى من أوحى إليه، وأن تكون بياناً لما أوحى. والكتاب هو العقل الفرقاني وعلى التقديرين { لا مبدّل لكلماته } التي هي أصول الدين من التوحيد والعدل وأنواعهما { ولن تجد من دونه ملتحداً } تميل إليه لامتناع وجود ذلك.

{ واصبر نفسك } أمر بالصبر مع الله وأهله وعدم الالتفات إلى غيره وهذا الصبر هو من باب الاستقامة والتمكين لا يكون إلا بالله { مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ } أي: دائماً هم الموحدون من الفقراء المجرّدين الذين لا يطلبون غير الله ولا حاجة لهم في الدنيا والآخرة، ولا وقوف مع الأفعال والصفات { يريدون وجهه } أي: ذاته فحسب، يدعونه ولا يحتجبون عنه بغيره وقت ظهورها غداة الفناء ووقت احتجابها بهم عند البقاء، فالصبر معهم هو الصبر مع الله، ومجاوزة العين عنهم المنهي عنها هو الالتفات إلى الغير. { إنّا أعتدنا للظالمين } أي: المشركين المحجوبين عن الحق لقوله:
{ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
[لقمان، الآية: 13] { ناراً } عظيمة { أحاط بهم سرادقها } من مراتب الأكوان كالطباع العنصرية والصور النوعية المادية المحيطة بالأشخاص الهيولانية { بماء كالمهل } من جنس الغساق والغسلين، أي: المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار مسودة فيها دسومات يغاثون بها أو غسالاتهم القذرة أو من جنس الغصص والهموم المحرقة.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يونيو 26, 2008 7:58 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
تفسير سيدى محى الدين بن عربى لسورة الكهف

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } * { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } * { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } * { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } * { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } * { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً } * { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } * { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } * { لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } * { وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } * { فعسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } * { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } * { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } * { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } * { هُنَالِكَ ٱلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً } * { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } * { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }

{ إنّ الذين آمنوا } بالتوحيد الذاتي لكونهم في مقابلة المشركين { وعملوا الصالحات } من الأعمال المقصودة لذاتها في مقام الاستقامة { إنّا لا نضيّع } أجرهم، وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن الأجر إنما يستحق بالعمل دون العلم، إذ به يستحق ارتفاع الدرجة والرتبة { جنات عدن } من الجنان الثلاث { يحلون فيها من أساور من ذهب } أي: يزينون فيها بأنواع الحليّ هي من حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية، إذ الذهبيات من الحليّ هي العينيات والفضيات هي الصفاتيات النورانيات كقوله:
{ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ }
[الإنسان، الآية: 21]. { ويلبسون ثياباً خضراً } يتّصفون بصفات بهيجة، حسنة، نضرة، موجبة للسرور { من سندس } الأحوال والمواهب لكونها ألطف { وإسْتَبْرق } الأخلاق والمكاسب لكونها أكثف { متكئين فيها على } أرائك الأسماء الإلهية التي هي مبادئ أفعاله لاتصافهم بأوصافه وكون الصفة مع الذات هي الاسم المستند هو عليه في جنة الصفات والأفعال { نِعم الثواب وحسنت مرتفقاً } في مقابلة:
{ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً }

{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } * { وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } * { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } * { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } * { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } * { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } * { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } * { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } * { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } * { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً } * { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } * { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } * { وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً }

{ ويوم نسيّر الجبال } أي: نُذْهب جبال الأعضاء بالتفتيت فنجعلها هباءً منثوراً { وترى } أرض البدن { بارزة } ظاهرة مستوية، مسطحة بسيطة، كما كانت، لا صورة عليها ولا تركيب، فيها تراباً خالصاً { وحشرناهم } الضمير إما للقوى المذكورة وإما لأفراد الناس { فلم نغادر منهم أحداً } غير محشور. { وعرضوا على ربّك } عند البعث { صفّاً } أي: مصطفين مترتبين في المواقف لا يحجب بعضهم بعضاً، كل في رتبته { لقد جئتمونا } أي: قلنا لهم ذلك اليوم: لقد جئتمونا حفاة عراة، غرلاً فرادى، أي: { كما خلقناكم أول مرّة بل زعمتم } بإنكاركم البعث { ألّن نجعل لكم موعداً } وقتاً لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور. { ووضع الكتاب } أي: كتاب القالب المطابق لما في نفوسهم من هيئات الأعمال الراسخة فيهم { فترى المجرمين مشفقين مما فيه } لعثورهم به على ما نسوا { ويقولون يا ويلتنا } يدعون الهلكة التي هلكوا بها من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } لكون آثار حركاتهم وأعمالهم كلها باقية في نفوسهم صغيرة كانت أو كبيرة، ثابتة في ألواح النفوس الفلكية أيضاً، مضبوطة فيها، تظهر عليهم على التفصيل في نشأتهم الثانية لا محيص لهم عنها، وهذا معنى قوله: { ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربّك أحدً } مرّ معنى سجود الملائكة وإباء إبليس. وقوله: { وكان من الجنّ } كلام مستأنف، كأن قائلاً قال: ما بال إبليس لم يسجد؟ قال: كان من الجنّ، أي: من القوى البدنية المختفية بالمواد، فلذلك { فسق عن أمر ربّه } أي: لاحتجابه بالمادة ولواحقها.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت يونيو 28, 2008 6:04 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } * { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ سَرَباً } * { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا نَصَباً } * { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي ٱلْبَحْرِ عَجَباً }
{ وإذ قال موسى لفتاه } ظاهره على ما ذكر في القصص ولا سبيل إلى إنكار المعجزات. وأما باطنه فأن يقال: وإذ قال موسى القلب لفتى النفس وقت التعلق بالبدن: { لا أبرح } أي: لا أنفك عن السير والمسافرة، أو لا أزال أسير { حتى أبلغ مجمع البحرين } أي: ملتقى العالمين: عالم الروح وعالم الجسم، وهما العذب والأجاج في صورة الإنسانية ومقام القلب { أو أمضي حقباً } أي: أسير مدة طويلة.

{ فلما بلغا مجمع بينهما } في الصورة الحاضرة الجامعة { نسيا حوتهما } وهو الحوت الذي ابتلع ذا النون عليه السلام بالنوع لا بالشخص، لأن غداءهما كان قبل الوصول إلى هذه الصورة في الخارج من ذلك الحوت الذي أمر بتزوده في السفر وقت العزيمة { فاتّخذ سبيله } في بحر الجسد حيّاً كما كان أولاً { سرباً } نقباً واسعاً كما قيل: بقي طريقه في البحر منفرجاً، لم ينضم عليه البحر.

{ فلما جاوزا } مكان مفارقة الحوت وألقي على موسى النصب والجوع، ولم ينصب في السفر ولا جاع قبل ذلك على ما حكي، تذكر الحوت والاغتذاء منه وطلب الغداء من فتاه وإنما قال: { آتنا غداءنا } لأن حاله ذلك نهاراً بالنسبة إلى ما قبله في الرحم { لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً } هو نصب الولادة ومشقتها.

{ قال أرأيت } ما عراني { إذ أوينا إلى الصخرة } أي: النحر للارتضاع { فإني نسيت الحوت } لاستغنائنا عنه { وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن أذكره } أي: وما أنساني أن أذكره إلا الشيطان على إبدال أن أذكره من الضمير، وذلك لأن موسى كان راقداً حين اتخذ الحوت سبيله في البحر على ما قيل. وفتى النفس يقظان، فأنسى شيطان الوهم الذي زيّن الشجرة لآدم ذكر النفس الحوت لموسى لكون الحال حال ذهول والسبيل المتعجب منه هو السرب المذكور.

{ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } * { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } * { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } * { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } * { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } * { قَالَ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } * { قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } * { فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } * { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } * { قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً }
{ قال ذلك } أي: تملص الحوت واتخاذه سبيله الذي كان عليه في جبلته { ما كنا } نطلبه، لأن هناك مجمع البحرين الذي وعد موسى عنده بوجود من هو أعلم منه، إذ الترقي إلى الكمال بمتابعة العقل القدسي لا يكون إلا في هذا المقام { فارتدّا على آثارهما } في الترقي إلى مقام الفطرة الأولى كما كانا أولاً يقصّان { قصصاً } أي: يتبعان آثارهما عند الهبوط في الترقي إلى الكمال حتى وجد العقل القدسي، وهو عبد من عباد الله مخصوص بمزية عناية ورحمة { آتيناه رحمة من عندنا } أي: كمالاً معنوياً بالتجرّد عن المواد والتقدّس عن الجهات. والنورية المحضة التي هي آثار القرب والعندية { وعلمناه من لدنا علماً } من المعارف القدسية والحقائق الكلية اللدنية بلا واسطة تعليم بشريّ. وقوله: { هل أتبعك } هو ظهور إرادة السلوك والترقي إلى الكمال { إنك لن تستطيع معي صبراً } لكونك غير مطلع على الأمور الغيبية والحقائق المعنوية لعدم تجرّدك واحتجابك بالبدن وغواشيه، فلا تطيق مرافقتي، وهذا معنى قوله: { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً قال ستجدني إن شاء الله صابراً } لقوّة استعدادي وثباتي على الطلب { ولا أعصي لك أمراً } لتوجهي نحوك وقبولي أمرك، لصفائي وصدق إرادتي. والمقاولات كلها بلسان الحال.

{ فإن اتّبعتني } في سلوك طريق الكمال { فلا تسألني عن شيء } أي: عليك بالاقتداء والمتابعة في السير بالأعمال والرياضات والأخلاق والمجاهدات، ولا تطلب الحقائق والمعاني { حتى } يأتي وقته، فـ { أحدث لك منه } أي: من ذلك العلم { ذكراً } وأخبرك بالحقائق الغيبية عند تجرّدك بالمعاملات القالبية والقلبية { فانطلقا حتى إذا ركبا } في سفينة البدن البالغ إلى حدّ الرياضة الصالح للعبودية إلى العالم القدسي في بحر الهيولى للسير إلى الله { خرقها } أي: نقصها بالرياضة وتقليل الطعام وأضعف احكامها وأوقع الخلل في نظامها وأوهنها { قال أخرقتها لتغرق أهلها } أي: أكسرتها لتغرق القوى الحيوانية والنباتية التي فيها في بحر الهيولى فتهلك { لقد جئت شيئاً إمراً } وهذا الإنكار عبارة عن ظهور النفس بصفاتها وميل القلب إليها، والتضجر عن حرمان الحظوظ في الرياضة، وعدم القناعة بالحقوق. { قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً } تنبيه روحي وتحريض قدسي على أن العزيمة في السلوك يجب أن تكون أقوى من ذلك { قال لا تؤاخذني بما نسيت } إلى آخره، اعتذاره في مقام النفس اللوّامة
{ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً } * { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } * { قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } * { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } * { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } * { قَالَ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } * { قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } * { فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } * { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } * { قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً }
{ قال ذلك } أي: تملص الحوت واتخاذه سبيله الذي كان عليه في جبلته { ما كنا } نطلبه، لأن هناك مجمع البحرين الذي وعد موسى عنده بوجود من هو أعلم منه، إذ الترقي إلى الكمال بمتابعة العقل القدسي لا يكون إلا في هذا المقام { فارتدّا على آثارهما } في الترقي إلى مقام الفطرة الأولى كما كانا أولاً يقصّان { قصصاً } أي: يتبعان آثارهما عند الهبوط في الترقي إلى الكمال حتى وجد العقل القدسي، وهو عبد من عباد الله مخصوص بمزية عناية ورحمة { آتيناه رحمة من عندنا } أي: كمالاً معنوياً بالتجرّد عن المواد والتقدّس عن الجهات. والنورية المحضة التي هي آثار القرب والعندية { وعلمناه من لدنا علماً } من المعارف القدسية والحقائق الكلية اللدنية بلا واسطة تعليم بشريّ. وقوله: { هل أتبعك } هو ظهور إرادة السلوك والترقي إلى الكمال { إنك لن تستطيع معي صبراً } لكونك غير مطلع على الأمور الغيبية والحقائق المعنوية لعدم تجرّدك واحتجابك بالبدن وغواشيه، فلا تطيق مرافقتي، وهذا معنى قوله: { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً قال ستجدني إن شاء الله صابراً } لقوّة استعدادي وثباتي على الطلب { ولا أعصي لك أمراً } لتوجهي نحوك وقبولي أمرك، لصفائي وصدق إرادتي. والمقاولات كلها بلسان الحال.

{ فإن اتّبعتني } في سلوك طريق الكمال { فلا تسألني عن شيء } أي: عليك بالاقتداء والمتابعة في السير بالأعمال والرياضات والأخلاق والمجاهدات، ولا تطلب الحقائق والمعاني { حتى } يأتي وقته، فـ { أحدث لك منه } أي: من ذلك العلم { ذكراً } وأخبرك بالحقائق الغيبية عند تجرّدك بالمعاملات القالبية والقلبية { فانطلقا حتى إذا ركبا } في سفينة البدن البالغ إلى حدّ الرياضة الصالح للعبودية إلى العالم القدسي في بحر الهيولى للسير إلى الله { خرقها } أي: نقصها بالرياضة وتقليل الطعام وأضعف احكامها وأوقع الخلل في نظامها وأوهنها { قال أخرقتها لتغرق أهلها } أي: أكسرتها لتغرق القوى الحيوانية والنباتية التي فيها في بحر الهيولى فتهلك { لقد جئت شيئاً إمراً } وهذا الإنكار عبارة عن ظهور النفس بصفاتها وميل القلب إليها، والتضجر عن حرمان الحظوظ في الرياضة، وعدم القناعة بالحقوق. { قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً } تنبيه روحي وتحريض قدسي على أن العزيمة في السلوك يجب أن تكون أقوى من ذلك { قال لا تؤاخذني بما نسيت } إلى آخره، اعتذاره في مقام النفس اللوّامة
أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } * { وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } * { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً }
{ أما السفينة فكانت لمساكين } في بحر الهيولى، أي: القوى البدنية من الحواس الظاهرة والقوى الطبيعية النباتية، وإنما سماها مساكين لدوام سكونها وملازمتها لتراب البدن وضعفها عن ممانعة القلب في السلوك والاستيلاء عليه كسائر القوى الحيوانية. وحكي أنهم كانوا عشرة إخوة خمسة منهم زمنى وخمسة يعملون في البحر، وذلك إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة { فأردت أن أعيبها } بالرياضة لئلا يأخذها ملك النفس الأمّارة غصباً وهو الملك الذي كان وراءهم أي: قدّامهم { يأخذ كل سفينة غصباً } بالاستيلاء عليها واستعمالها في أهوائه ومطالبه { وأما الغلام فكان أبواه } اللذان هما الروح والطبيعة الجسمانية { مؤمنين } مقرين بالتوحيد لانقيادهما في سلك طاعة الله وامتثالهما لأمر الله وإذعانهما لما أراد الله منهما { فخشينا أن يرهقهما } أي: يغشيهما { طغياناً } عليهما بظهوره بالأنائية عند شهود الروح { وكفراً } لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه أو كفراً بالحجاب فيفسد عليهما أمرهما ودينهما ويبطل عبوديتهما لله { فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة } كما بدّلهما بالنفس المطمئنة التي هي خير منه زكاة، أي: طهارة ونقاء { وأقرب رحماً } تعطفاً ورحمة لكونها أعطف على الروح والبدن وأنفع لهما، وأكثر شفقة. ويجوز أن يكون المراد بالأبوين الجدّ والأب، فكان كناية عن الروح والقلب. وكونه أقرب رحماً أنسب لهما وأشدّ تعطفاً.

{ وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً } * { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } * { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } * { فَأَتْبَعَ سَبَباً } * { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } * { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً }
{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } أي: العاقلتين النظرية والعملية المنقطعتين عن أبيهما الذي هو روح القدس لاحتجابهما عنه بالغواشي البدنية أو القلب الذي مات أو قتل قبل الكمال باستيلاء النفس في مدينة البدن { وكان تحته كنز لهما } أي: كنز المعرفة التي لا تحصل إلا بهما في مقام القلب لإمكان اجتماع جميع الكليات والجزئيات فيه بالفعل وقت الكمال وهو حال بلوغ الأشد واستخراج ذلك الكنز. وقال بعض أهل الظاهر من المفسرين: كان الكنز صحفاً فيها علم { وكان أبوهما } على كلا التأويلين { صالحاً } وقيل: كان أباً أعلى لهما حفظهما الله له، فعلى هذا لا يكون إلا روح القدس.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء يوليو 01, 2008 5:53 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه

تفسير سيدى محى الدين بن عربى لسورة الكهف

قصة ذي القرنين مشهورة وكان رومياً قريب العهد والتطبيق، إن ذا القرنين في هذا الوجود هو القلب الذي ملك قرنيه، أي: خافقيه شرقها وغربها { إنّا مكنّا له } في أرض البدن بالإقدار والتمكين على جمع الأموال من المعاني الكلية والجزئية والسير إلى أيّ قطر شاء من المشرق والمغرب. { وآتيناه من كل شيء } أراده من الكمالات { سبباً } أي: طريقاً يتوصل به إليه { فأتبع } طريقاً بالتعلق البدني والتوجه إلى العالم السفلي. { حتى إذا بلغ مغرب الشمس } أي: مكان غروب شمس الروح { وجدها تغرب في عين حمئة } أي: مختلطة بالحمأة، وهي المادة البدنية الممتزجة من الأجسام الغاسقة كقوله:
{ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ }
[الإنسان، الآية: 2]. { ووجد عندها قوماً } هم القوى النفسانية البدنية والروحانية { قلنا يا ذا القرنين إمّا أن تُعذب } بالرياضة والقهر والإماتة { وإما أن تتخذ فيهم حسناً } بالتعديل وإيفاء الحظ.

{ قال أمّا من ظلم } بالإفراط وعدم الاستسلام والانقياد كالشهوة والغضب والوهم والتخيل { فسوف نعذّبه } بالرياضة { ثم يردّ إلى ربّه } في القيامة الصغرى { فيعذّبه } بالإلقاء في نار الطبيعة { عذاباً نكراً } أي: منكراً أشدّ من عذابي، أو في القيامة الكبرى فيعذبه عذاب القهر والإفناء.

{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } * { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } * { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } * { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } * { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } * { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } * { قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً }
{ وأما من آمن } بالعلم والمعرفة كالعاقلتين و الفكر والحواس الظاهرة { وعَمِل صالحاً } بالسعي في اكتساب الفضائل والانقياد والطاعة { فله جزاء } المثوبة { الحسنى } من جنة الصفات وتجليات أنوارها وأنهار علومها { وسنقول له من أمرنا يسراً } أي: قولاً ذا يسر بحصول الملكات الفاضلة.

{ ثم أتبع } طريقاً هي طريق الترقي والسلوك إلى الله بالتجرّد والتزكي { حتى إذا بلغ مطلع الشمس } أي: مطلع شمس الروح { وجدها تطلع على قوم } هم العاقلتان والفكر والحدس و القوة القدسية { لم نجعل لهم من دونها ستراً } أي: حجاباً لتنوّرهم بنورها وإدراكهم المعاني الكلية { كذلك } أي: أمره كما وصفنا { وقد أحطنا بما لديه } من العلوم والمعارف والكمالات والفضائل { خبراً } أي: علماً، ومعناه: لم يحط به غيرنا لكونه الحضرة الجامعة للعالمين فليس في الوجود { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } * { آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } * { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } * { قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } * { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً }
{ قال ما مكنّي فيه ربي } من المعاني الكلية والجزئية الحاصلة بالتجربة والسير في المشرق والمغرب { خير فأعينوني بقوة } أي: عمل وطاعة { أجعل بينكم وبينهم ردماً } هو الحكمة العملية والقانون الشرعي. { آتوني زُبُرَ الحديد } من الصور العملية وأوضاع الأعمال { حتى إذا ساوى بين الصدفين } بالتعديل والتقدير { قال } للقوى الحيوانية { انْفخوا } في هذه الصور نفخ المعاني الجزئية والهيئات النفسانية من فضائل الأخلاق { حتى إذا جعله ناراً } أي: علماً برأسه من جملة العلوم يحتوي على بيان كيفية الأعمال { قال آتوني أفرغ عليه قطراً } النية والقصد الذي يتوسط بين العلم والعمل، فيتحد به روح العلم وجسد العمل كالروح الحيواني المتوسط بين الروح الإنساني والبدن، فحصل سدّ، أي: قاعدة وبنيان من زبر الأعمال ونفخ العلوم والأخلاق وقطر العزائم والنيات، واطمأنت به النفس وتدبرت فآمنت. { فما اسْطَاعوا أن يظهروه } ويعلوه لارتفاع شأنه وكونه مشتملاً على علوم وحجج لم يمكنهم دفعها والاستيلاء عليها { وما اسْتَطاعوا له نقباً } لاستحكامه بالملكات والأعمال والأذكار.

{ قال هذا } السدّ، أي: القانون { رحمة من ربّي } على عباده، يوجب أمنهم وبقاءهم { فإذا جاء وعد ربّي } بالقيامة الصغرى { جعله دكّاً } باطلاً، منهدماً، لامتناع العمل به عند الموت وخراب الآلات البدنية.

{ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } بالاضطراب والاختلاط، أي: تركناهم يختلطون لاجتماعهم في الروح مع عدم الحيلولة { ونفخ في الصور } للبعث في النشأة الثانية { فجمعناهم جمعاً } أو بالقيامة الكبرى حال الفناء وظهور الحق. جعله دكّاً لارتفاع العلم والحكمة هناك، وظهور معنى الحل والإباحة بتجلي الأفعال الإلهية وانتفاء الغير وفعله، { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } ، حيارى، مختلطين شيئاً واحداً لا حراك بهم. { ونفخ في الصور } بالإيجاد بالوجود الحقاّني حال البقاء { فجمعناهم جمعاً } في التوحيد والاستقامة والتمكين وكونهم بالله لا بأنفسهم.


من يقف على معلوماته إلا الله ولأمر ما سمي عرش الله.

{ ثم أتبع } طريقاً بالسير في الله { حتى إذا بلغ بين السدّين } أي: الكونين، وذلك مرتبته ومقامه الأصلي بين صدفي جبلي الإله والسير في المشرق والمغرب سفرة تنزلاً وترقياً { وجد من دونهما قوماً } هم القوى الطبيعية البدنية والحواس الظاهرة { لا يكادون يفقهوه قولاً } لكونها غير مدركة للمعاني ولا ناطقة بها.

{ قالوا } بلسان الحال { إنّ يأجوج } الدواعي والهواجس الوهمية { ومأجوج } الوساوس والنوازع الخيالية { مُفْسدون } في أرض البدن بالتحريض على الرذائل والشهوات المنافية للنظام والحث على الأعمال الموجبة للخلل فيه وخراب القوانين الخيرية والقواعد الحكمية وإحداث النوائب والفتن والأهواء والبدع المنافية للعدالة المقتضية لفساد الزرع والنسل { فهل نجعل لك خرجاً } بإمدادك بكمالاتنا وصور مدركاتنا { على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً } لا يتجاوزونه وحاجزاً لا يعلونه، وذلك هو الحد الشرعي والحجاب القلبي من الحكمة العملية.


{ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً } * { ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } * { أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيۤ أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً } * { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } * { ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً } * { ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوۤاْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } * { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } * { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } * { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً }
{ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين } أي: يوم القيامة الصغرى يتعذب المحجوبون عن الحق بأنواع العذاب والنيران كما ذكر في سورة (الأنعام) أو في ذلك الشهود، أي: ظهر لصاحب القيامة الكبرى تعذبهم في نار جهنم { كانت أعينهم في غطاء عن ذكري } أي: محجوبة عن آياتي وتجليّات صفاتي الموجبة لذكري { لا يبغون عنها حولاً } أي: تحولاً لبلوغهم الكمال الذي يقتضيه استعدادهم، فلا شوق لهم إلى ما وراءه وإن وجد كمال وراء ذلك لعدم إدراكهم له فلا ذوق ولا شوق، وكونهم في مقابلة المشركين المحجوبين عن الحق بالغير. وكون جنّاتهم جنّات الفردوس يدلان على أن المراد بهم هم الموحدون الكاملون الاستعداد الذين لا كمال فوق كمالهم، فلا يبقى شيء وراء مرتبتهم، يريدون التحوّل إليه.

{ قل لو كان البحر } أي: بحر الهيولى القابلة للصور الممدّة لها في الظهور { مداداً لكلمات ربّي } من المعاني والحقائق والأعيان والأرواح { لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي } لكونها غير متناهية وامتناع وفاء المتناهي بغير المتناهي، والله أعلم.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد أغسطس 24, 2008 12:21 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
أحاديث فى فضل سورة الكهف

ألا أخبركم بسورة ملأت عظمتها بين السماء الأرض ولكاتبها من الأجر مثل ذلك ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن قرأ الخمس الأواخر عند نومه بعثه الله أي الليل شاء؛ سورة أصحاب الكهف‏.‏
‏(‏ابن مردويه عن عائشة‏)‏‏.‏
2596 - سورة الكهف تدعى في التوراة الحائلة تحول بين قارئها وبين النار‏.‏
‏(‏هب عن ابن عباس‏)‏‏.‏
2597 - قارئ سورة الكهف التي تدعى في التوراة الحائلة تحول بين قارئها وبين النار‏.‏
‏(‏هب فر‏)‏ عن ابن عباس‏.‏
2598 - من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له النور ما بينه وبين البيت‏.‏
‏(‏هب‏)‏ عن أبي سعيد‏.‏
2599 - من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال‏.‏
‏(‏ت عن أبي الدرداء - ‏(‏الحديث رواه النسائي‏.‏ لا الترمذي كما تجده هنا راجع الترغيب والترهيب 2/376‏.‏ وتلاحظ ذلك عزو المصنف للحديث الآتي رقم 2607‏)‏‏.‏
2600 - من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف حفظ من فتنة الدجال‏.‏
‏(‏ت عن أبي الدرداء‏)‏‏.‏
2601 - من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال‏.‏
‏(‏حم م د ن عن أبي الدرداء‏)‏‏.‏
الإكمال
2602 - ألا أخبركم بسورة ملأت عظمتها ما بين السماء والأرض ولكاتبها من الأجر مثل ذلك ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله أي الليل شاء‏؟‏ سورة الكهف‏.‏
‏(‏ابن مردويه‏)‏، الديلمي عن عائشة‏.‏
2603 - من قرأ عشر آيات من سورة الكهف ملئ من قرنه إلى قدمه إيمانا ومن قرأها في ليلة الجمعة كان له نور كما بين صنعاء وبصرى ومن قرأها في يوم الجمعة قدم أو أخر حفظ إلى الجمعة الأخرى فإن خرج الدجال بينهما لم يتبعه‏.‏
‏(‏أبو الشيخ‏)‏ عن ابن عباس وفيه سوار‏.‏
2604 - من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية من كل فتنة تكون فإن خرج الدجال عصم منه‏.‏
‏(‏ابن مردويه ص‏)‏ عن علي‏.‏
2605 - من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين‏.‏
‏(‏ابن مردويه‏)‏ عن ابن عمر‏.‏
2606 - من قرأ سورة الكهف فهو معصوم إلى ثلاثة أيام‏.‏
‏(‏ابن النجار‏)‏ عن أبي‏.‏
2607 - من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال‏.‏
‏(‏أبو عبيدة في فضائله حم م ن ه حب‏)‏ عن أبي الدرداء ‏(‏ابن الضريس ن ع والروياني ص‏)‏ عن ثوبان‏.‏
2608 - من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال‏.‏
‏(‏ت‏)‏ حسن صحيح عن أبي الدرداء‏.‏
2609 - من قرأ سورة الكهف عشر آيات عند منامه عصم من فتنة الدجال ومن قرأ خاتمتها عند رقاده كان له نورا من لدن قرنه إلى قدمه يوم القيامة‏.‏
‏(‏ابن مردويه عن عائشة‏)‏‏.‏
2610 - من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نورا يوم القيامة من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يسلط عليه‏.‏
‏(‏طس ك وابن مردويه ق ص‏)‏ عن أبي سعيد‏.‏
2611 - من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قدمه إلى رأسه ومن قرأها كلها كانت له نورا ما بين السماء والأرض‏.‏
‏(‏حم طب وابن السني وابن مردويه‏)‏ عن معاذ بن أنس‏.‏
2612 - من قرأ سورة الكهف كما أنزلت رفع الله له نورا من حيث قرأها إلى مكة ومن قال‏:‏ إذا توضأ سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك طبع بطابع ثم جعل تحت العرش حتى يؤتي صاحبها يوم القيامة‏.‏
‏(‏ت ‏(‏لدى مراجعتي لسنن الترمذي كما عزاه المصنف لم أره‏.‏ ولكن الحديث رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وذكر أن ابن مهدي وقفه على الثوري عن يحيى بن دينار أبي هاشم الرماني توفي سنة 122 ه وهو ثقة راجع تهذيب التهذيب لابن حجر/12/261‏)‏ وباب الترغيب في قراءة سورة الكهف‏.‏ الترغيب والترهيب 2/376‏)‏ أ ه/ ص/‏.‏‏)‏ عن أبي سعيد‏)‏‏.‏
2613 - البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة‏.‏
‏(‏طب وابن مردويه وأبو الشيخ في الثواب‏)‏ عن عبد الله ابن مغفل‏.‏
2614 - قارئ الكهف تدعى في التوراة الحائلة تحول بين قارئها وبين النار‏.‏
‏(‏الديلمي عن ابن عمرو‏)‏ وفيه سليمان بن قارع ‏(‏ن - ‏(‏مرقع‏)‏ وفي لسان الميزان ‏(‏سليمان بن مرفاع‏)‏‏)‏ منكر الحديث‏.‏
2615 - نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون ألفا من الملائكة‏.‏
‏(‏الديلمي‏)‏ عن أنس‏.‏
2616 - لو لم تنزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم‏.‏
‏(‏أبو نعيم‏)‏ عن أبي حكيم‏.‏


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: تفسير القرطبى سورة الكهف
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت سبتمبر 20, 2008 5:03 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
تفسير القرطبى سورة الكهف 1


{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } * { قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } * { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً }
قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً } ذكر ابن إسحاق: " أن قريشاً بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما: سَلاهم عن محمد وصِفَا لهم صفته وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علمٌ ليس عندنا من علم الأنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سَلُوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل، فروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديثٌ عَجَب. وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هي؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبيّ، وإن لم يفعل فهو رجل متقوِّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبيّ، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل، فروا فيه رأيكم. فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبركم بما سألتم عنه غداً» ولم يستثن. فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وَحْياً ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وَعَدَنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه؛ وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق: فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «لقد احتبست عني يا جبريل حتى سُؤت ظنًّا» فقال له جبريل: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [مريم: 64] "
فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده، وذكر نبوّة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ } يعني محمداً، إنك رسول منّي، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوّتك. { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَاقَيِّماً } أي معتدلاً لا اختلاف فيه. { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذاباً أليماً في الآخرة، أي من عند ربك الذي بعثك رسولاً. { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدّقوك بما جئت به مما كذّبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } يعني قريشاً في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله. { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ } الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي لقولهم إن الملائكة بنات الله. { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل. قال ابن هشام: «باخع نفسك» مُهْلك نفسك؛ فيما حدّثني أبو عبيدة. قال ذو الرُّمّة:
ألا أيّهذا الباخِعُ الوَجْدُ نفسَه بشيء نَحَتْه عن يَدَيْه المَقادِرُ
وجمعها باخعون وبخعة. وهذا البيت في قصيدة له. وتقول العرب: قد بخعت له نُصْحي ونَفْسي، أي جَهَدت له. { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } قال ابن إسحاق: أي أيّهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي. { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } أي الأرض، وإن ما عليها لفانٍ وزائل،وإن المرجع إليّ فأجزي كلاًّ بعمله؛ فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام: الصّعيد وجه الأرض، وجمعه صُعُد. قال ذو الرُّمّة يصف ظبياً صغيراً.
كأنه بالضُّحَا تَرمي الصعيدَ به دبّابةٌ في عِظام الرأس خُرطوم
وهذا البيت في قصيدة له. والصعيد أيضاً: الطريق، وقد جاء في الحديث: " إياكم والقعود على الصُّعدات " يريد الطرق. والجُرُز: الأرض التي لا تنبت شيئاً، وجمعها أجراز. ويقال: سَنَةٌ جُرُز وسنون أجراز؛ وهي التي لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبة ويبس وشدّة. قال ذو الرمّة يصف إبلاً:
طَوَى النَّحْزُ والأجراز ما في بطونها فما بقِيتْ إلا الضّلوع الجراشِعُ
قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذي رُقِم بخبرهم، وجمعه رُقُم.

قال العَجّاج:
ومُسْتَقَـرِّ المصحـف المُرَقَّـمِ
وهذا البيت في أُرْجوزة له. قال ابن إسحاق: ثم قال: { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً }. ثم قال: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ } أي بصدق الخبر { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام: والشَّطَطُ الغُلُوّ ومجاوزة الحق. قال أعشى بني قيس بن ثَعْلبة:
أتنتهون ولا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ كالطعن يذهب فيه الزَّيْت والفُتُلُ
وهذا البيت في قصيدة له. قال ابن إسحاق: { هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ }. قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة. { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } قال ابن هشام: تزاور تميل؛ وهو من الزَّور. وقال أبو الزحف الكُلَيْبيّ يصف بلداً:
جَدْب المُنَدَّى عن هَوانَا أزْوَرُ يُنْضِي المطايا خِمْسُه العَشَنْزَرُ
وهذان البيتان في أرجوزة له. و«تقرضهم ذات الشمال» تجاوزهم وتتركهم عن شمالها.

قال ذو الرُّمّة:
إلى ظُعُن يَقْرِضن أقواز مُشْرِفٍ شِمالاً وعن أيْمانِهن الفوارِسُ
وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة: السّعة، وجمعها الفجاء. قال الشاعر:
ألبسْتَ قومَك مَخْزاة ومنقصةً حتى أبِيحُوا وحَلُّوا فَجْوة الدار
{ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوّتك بتحقيق الخبر عنهم. { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ } قال ابن هشام: الوصيد الباب. قال العبسي واسمه عبد بن وهب:
بأرضِ فَلاةٍ لا يُسَدُّ وَصيدُها عليّ ومعروفي بها غير مُنْكَرِ
وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضاً الفناء، وجمعه وصائد ووُصُد ووصدان. { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً } إلى قوله: { ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ } أهل السلطان والملك منهم. { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً سَيَقُولُونَ } يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم. { ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ } أي لا تكابرهم { إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } فإنهم لا علم لهم بهم. { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً } أي لا تقولنّ لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إني مخبركم غدا، واستثن مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربّي لخبر ما سألتموني عنه رَشَدا، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك. { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } أي سيقولون ذلك. { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } أي لم يخف عليه شيء مما سألوك عنه.

قلت: هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نَسَقه. ويأتي خبر ذي القرنين، ثم نعود إلى أوّل السورة فنقول:

قد تقدّم معنى الحمد لله. وزعم الأخفش والكسائيّ والفرّاء وأبو عبيد وجمهور المتأوّلين أن في أوّل هذه السورة تقديماً وتأخيراً، وأن المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيّماً ولم يجعل له عوجاً. و«قَيِّماً» نصب على الحال. وقال قتادة: الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير، ومعناه: ولم يجعل له عوجاً ولكن جعلناه قيّماً. وقول الضحاك فيه حُسْن، وأن المعنى: مستقيم، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض. وقيل: «قيماً» على الكتب السابقة يصدّقها. وقيل: «قيّماً» بالحجج أبداً. «عوجاً» مفعول به؛ والعوج (بكسر العين) في الدين والرأي والأمر والطريق. وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار؛ وقد تقدّم. وليس في القرآن عوج، أي عيب، أي ليس متناقضاً مختلفاً، كما قال تعالى:
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً }
[النساء: 82] وقيل: أي لم يجعله مخلوقاً؛ كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى:
{ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ }
[الزمر: 28] قال: غير مخلوق. وقال مقاتل: «عِوَجاً» اختلافاً. قال الشاعر:
أدوم بودّي للصديق تكرُّماً ولا خير فيمن كان في الودّ أعْوَجَا
{ لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } أي لينذر محمد أو القرآن. وفيه إضمار، أي لينذر الكافرين عقاب الله. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة. { مِّن لَّدُنْهُ } أي من عنده. وقرأ أبو بكر عن عاصم «من لدنه» بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولة بياء. الباقون «لدُنْهُ» بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء. قال الجوهري: وفي «لدن» ثلاث لغات: لَدُن، ولَدَى، ولَدُ. وقال:
مِـن لَـدُ لِحْيَيْـه إلى مُنْحُـوره
المنحور لغة في المَنْحَر.

قوله تعالى: { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ } أي بأن لهم. { أَجْراً حَسَناً } وهي الجنة: { مَّاكِثِينَ } دائمين. { فِيهِ أَبَداً } لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في «بأن». والأجر الحسن: الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: تفسير القرطبى سورة الكهف
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت سبتمبر 20, 2008 5:05 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
تفسير القرطبى سورة الكهف 1


{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } * { قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } * { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً }
قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً } ذكر ابن إسحاق: " أن قريشاً بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما: سَلاهم عن محمد وصِفَا لهم صفته وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علمٌ ليس عندنا من علم الأنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سَلُوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل، فروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديثٌ عَجَب. وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هي؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبيّ، وإن لم يفعل فهو رجل متقوِّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبيّ، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل، فروا فيه رأيكم. فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخبركم بما سألتم عنه غداً» ولم يستثن. فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وَحْياً ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وَعَدَنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه؛ وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف والروح. قال ابن إسحاق: فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «لقد احتبست عني يا جبريل حتى سُؤت ظنًّا» فقال له جبريل: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [مريم: 64] "
فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده، وذكر نبوّة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ } يعني محمداً، إنك رسول منّي، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوّتك. { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَاقَيِّماً } أي معتدلاً لا اختلاف فيه. { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذاباً أليماً في الآخرة، أي من عند ربك الذي بعثك رسولاً. { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدّقوك بما جئت به مما كذّبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } يعني قريشاً في قولهم: إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله. { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ } الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي لقولهم إن الملائكة بنات الله. { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل. قال ابن هشام: «باخع نفسك» مُهْلك نفسك؛ فيما حدّثني أبو عبيدة. قال ذو الرُّمّة:
ألا أيّهذا الباخِعُ الوَجْدُ نفسَه بشيء نَحَتْه عن يَدَيْه المَقادِرُ
وجمعها باخعون وبخعة. وهذا البيت في قصيدة له. وتقول العرب: قد بخعت له نُصْحي ونَفْسي، أي جَهَدت له. { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } قال ابن إسحاق: أي أيّهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي. { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } أي الأرض، وإن ما عليها لفانٍ وزائل،وإن المرجع إليّ فأجزي كلاًّ بعمله؛ فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها. قال ابن هشام: الصّعيد وجه الأرض، وجمعه صُعُد. قال ذو الرُّمّة يصف ظبياً صغيراً.
كأنه بالضُّحَا تَرمي الصعيدَ به دبّابةٌ في عِظام الرأس خُرطوم
وهذا البيت في قصيدة له. والصعيد أيضاً: الطريق، وقد جاء في الحديث: " إياكم والقعود على الصُّعدات " يريد الطرق. والجُرُز: الأرض التي لا تنبت شيئاً، وجمعها أجراز. ويقال: سَنَةٌ جُرُز وسنون أجراز؛ وهي التي لا يكون فيها مطر. وتكون فيها جدوبة ويبس وشدّة. قال ذو الرمّة يصف إبلاً:
طَوَى النَّحْزُ والأجراز ما في بطونها فما بقِيتْ إلا الضّلوع الجراشِعُ
قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك. قال ابن هشام: والرقيم الكتاب الذي رُقِم بخبرهم، وجمعه رُقُم.

قال العَجّاج:
ومُسْتَقَـرِّ المصحـف المُرَقَّـمِ
وهذا البيت في أُرْجوزة له. قال ابن إسحاق: ثم قال: { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً }. ثم قال: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ } أي بصدق الخبر { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم. قال ابن هشام: والشَّطَطُ الغُلُوّ ومجاوزة الحق. قال أعشى بني قيس بن ثَعْلبة:
أتنتهون ولا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ كالطعن يذهب فيه الزَّيْت والفُتُلُ
وهذا البيت في قصيدة له. قال ابن إسحاق: { هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ }. قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة. { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } قال ابن هشام: تزاور تميل؛ وهو من الزَّور. وقال أبو الزحف الكُلَيْبيّ يصف بلداً:
جَدْب المُنَدَّى عن هَوانَا أزْوَرُ يُنْضِي المطايا خِمْسُه العَشَنْزَرُ
وهذان البيتان في أرجوزة له. و«تقرضهم ذات الشمال» تجاوزهم وتتركهم عن شمالها.

قال ذو الرُّمّة:
إلى ظُعُن يَقْرِضن أقواز مُشْرِفٍ شِمالاً وعن أيْمانِهن الفوارِسُ
وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة: السّعة، وجمعها الفجاء. قال الشاعر:
ألبسْتَ قومَك مَخْزاة ومنقصةً حتى أبِيحُوا وحَلُّوا فَجْوة الدار
{ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوّتك بتحقيق الخبر عنهم. { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ } قال ابن هشام: الوصيد الباب. قال العبسي واسمه عبد بن وهب:
بأرضِ فَلاةٍ لا يُسَدُّ وَصيدُها عليّ ومعروفي بها غير مُنْكَرِ
وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضاً الفناء، وجمعه وصائد ووُصُد ووصدان. { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً } إلى قوله: { ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ } أهل السلطان والملك منهم. { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً سَيَقُولُونَ } يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم. { ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ } أي لا تكابرهم { إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } فإنهم لا علم لهم بهم. { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً } أي لا تقولنّ لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إني مخبركم غدا، واستثن مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربّي لخبر ما سألتموني عنه رَشَدا، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك. { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } أي سيقولون ذلك. { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } أي لم يخف عليه شيء مما سألوك عنه.

قلت: هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نَسَقه. ويأتي خبر ذي القرنين، ثم نعود إلى أوّل السورة فنقول:

قد تقدّم معنى الحمد لله. وزعم الأخفش والكسائيّ والفرّاء وأبو عبيد وجمهور المتأوّلين أن في أوّل هذه السورة تقديماً وتأخيراً، وأن المعنى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيّماً ولم يجعل له عوجاً. و«قَيِّماً» نصب على الحال. وقال قتادة: الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير، ومعناه: ولم يجعل له عوجاً ولكن جعلناه قيّماً. وقول الضحاك فيه حُسْن، وأن المعنى: مستقيم، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض. وقيل: «قيماً» على الكتب السابقة يصدّقها. وقيل: «قيّماً» بالحجج أبداً. «عوجاً» مفعول به؛ والعوج (بكسر العين) في الدين والرأي والأمر والطريق. وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار؛ وقد تقدّم. وليس في القرآن عوج، أي عيب، أي ليس متناقضاً مختلفاً، كما قال تعالى:
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً }
[النساء: 82] وقيل: أي لم يجعله مخلوقاً؛ كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى:
{ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ }
[الزمر: 28] قال: غير مخلوق. وقال مقاتل: «عِوَجاً» اختلافاً. قال الشاعر:
أدوم بودّي للصديق تكرُّماً ولا خير فيمن كان في الودّ أعْوَجَا
{ لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } أي لينذر محمد أو القرآن. وفيه إضمار، أي لينذر الكافرين عقاب الله. وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة. { مِّن لَّدُنْهُ } أي من عنده. وقرأ أبو بكر عن عاصم «من لدنه» بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولة بياء. الباقون «لدُنْهُ» بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء. قال الجوهري: وفي «لدن» ثلاث لغات: لَدُن، ولَدَى، ولَدُ. وقال:
مِـن لَـدُ لِحْيَيْـه إلى مُنْحُـوره
المنحور لغة في المَنْحَر.

قوله تعالى: { وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ } أي بأن لهم. { أَجْراً حَسَناً } وهي الجنة: { مَّاكِثِينَ } دائمين. { فِيهِ أَبَداً } لا إلى غاية. وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في «بأن». والأجر الحسن: الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين سبتمبر 29, 2008 12:01 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
الكهف القرطبى 2

{ وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } * { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }
قوله تعالى: { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله. فالإنذار في أوّل السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد. { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } «من» صلة، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل. { وَلاَ لآبَائِهِمْ } أي أسلافهم. { كَبُرَتْ كَلِمَةً } «كلمة» نصب على البيان؛ أي كبرت تلك الكلمة كلمةً. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «كلمةٌ» بالرفع؛ أي عظمت كلمة؛ يعني قولهم اتخذ الله ولداً. وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار. يقال: كبر الشيء إذا عظم، وكبر الرجل إذا أسنّ. { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } في موضع الصفة. { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } أي ما يقولون إلا كذباً.


{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً }
قوله تعالى: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ } «باخع» أي مُهلك وقاتل؛ وقد تقدّم. «آثارهم» جمع أثر، ويقال إثر. والمعنى: على أثر تولّيهم وإعراضهم عنك. { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } أي القرآن. { أَسَفاً } أي حزناً وغضباً على كفرهم؛ وانتصب على التفسير.


{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً }
قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } «ما» و «زينةً» مفعولان. والزينة كل ما على وجه الأرض؛ فهو عموم لأنه دال على بارئه. وقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد بالزينة الرجال؛ قال مجاهد. وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها» قال: العلماء زينة الأرض. وقالت فرقة: أراد النّعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة؛ ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب. والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه. والآية بسط في التسلية؛ أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها؛ فمنهم من يتدبّر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم؛ فلا يعظُمنّ عليك كفرهم فإنا نجازيهم.

الثانية: معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون " وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا قال: وما زهرة الدنيا؟ قال: «بركات الأرض» " خرجهما مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدريّ. والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى؛ فابتلى الله بها عباده لينظر أيّهم أحسن عملاً. أي من أزهد فيها وأترك لها؛ ولا سبيل للعباد إلى بغضة ما زيّنه الله إلا (أن) يعينه على ذلك. ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري: اللهمّ إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زيّنته لنا، اللّهمَّ إني أسألك أن أنفقه في حقه. فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه. وهذا معنى قوله عليه السلام: " فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع " وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همّته جمعها؛ وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله؛ فإن الفتنة معها حاصلةٌ وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه. وقال ابن عطية: كان أبي رضي الله عنه يقول في قوله: «أحسن عملاً» أحسن العمل أخذٌ بحقّ وإنفاقٌ في حق مع الإيمان، وأداء الفرائض واجتنابُ المحارم والإكثارُ من المندوب إليه.

قلت: هذا قول حسن، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه، وقد جمعه النبيّ صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد وهو
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً }
" قوله لسفيان بن عبد الله الثَّقَفيّ لما قال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك ـ في رواية: غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم " خرّجه مسلم. وقال سفيان الثّوريّ: «أحسن عملاً» أزهدهم فيها. وكذلك قال أبو عصام العسقلاني: «أحسن عملاً» أترك لها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد؛ فقال قوم: قصرُ الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء؛ قاله سفيان الثّوريّ. قال علماؤنا: وصدق رضي الله عنهٰ فإن من قَصُر أملهُ لم يتأنّق في المطعومات ولا يتفنّن في الملبوسات، وأخذ من الدنيا ما تيسّر، واجتزأ منها بما يبلِّغ. وقال قوم: بغضُ المحمدة وحبِّ الثناء. وهو قول الأوزاعيّ ومن ذهب إليه. وقال قوم: ترك الدنيا كلها هو الزهد؛ أحَبَّ تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال: حبُّ الدنيا حبُّ لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضاً: علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس. وقال قوم: لا يكون الزاهد زاهداً حتى يكون ترك الدنيا أحبَّ إليه من أخذها؛ قاله إبراهيم بن أدهم. وقال قوم: الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك؛ قاله ابن المبارك. وقالت فرقة: الزهد حبّ الموت. والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى

{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً }
تقدّم بيانه. وقال أبو سهل: تراباً لا نبات به؛ كأنه قُطع نباته. والجَرْز: القطع؛ ومنه سنة جُرُز. قال الراجز:
قـد جَرَفْتهـنّ السِّنـون الأجْـرَاز
والأرض الجرز التي لا نبات فيها ولا شيء من عمارة وغيرها؛ كأنه قطع وأزيل. يعني يوم القيامة، فإن الأرض تكون مستوية لا مستتر فيها. النحاس: والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها. قال الكسائي: يقال جرزت الأرض تجرز، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيها من النبات والزرع فهي مجروزة وجرز.


{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }
مذهب سيبويه أن «أم» إذا جاءت دون أن يتقدّمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام، وهي المنقطعة. وقيل: «أم» عطف على معنى الاستفهام في لعلك، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار. قال الطبري: وهو تقرير للنبيّ صلى الله عليه وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجباً، بمعنى إنكار ذلك عليه؛ أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع؛ هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا، وعن ذي القرنين وعن الروح، وأبطأ الوحي على ما تقدّم. فلما نزل قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرّقيم كانوا من آياتنا عجباً؛ أي ليسوا بعجب من آياتنا، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم. الكلبي: خَلْقُ السموات والأرض أعجبُ من خبرهم. الضحاك: ما أطلعتك عليه من الغيب أعجب. الجنيد: شأنك في الإسراء أعجب. الماورديّ: معنى الكلام النفي؛ أي ما حسبت لولا إخبارنا. أبو سهل: استفهام تقرير؛ أي أحسبت ذلك فإنهم عجب. والكهف: النَّقْب المتّسع في الجبل؛ وما لم يتّسع فهو غار. وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال: الكهف الجبل؛ وهذا غير شهير في اللغة.

واختلف الناس في الرقيم؛ فقال ابن عباس: كل شيء في القرآن أعلمه إلا أربعة: غِسْلين وحَنَان والأوّاه والرقيم. وسئل مرة عن الرقيم فقال: زعم كعب أنها قرية خرجوا منها. وقال مجاهد: الرقيم وادٍ. وقال السّدي: الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف. وقال ابن زيد: الرقيم كتاب غمّ الله علينا أمره، ولم يشرح لنا قصته. وقالت فرقة: الرقيم كتاب في لوح من نحاس. وقال ابن عباس: في لوح من رصاص كَتب فيه القوم الكفارُ الذين فرّ الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخاً لهم، ذكروا وقت فقدهم، وكم كانوا، وبين من كانوا. وكذا قال الفراء، قال: الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا. قال ابن عطية: ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوماً مؤرّخين للحوادث، وذلك من نبل المملكة؛ وهو أمر مفيد. وهذه الأقوال مأخوذة من الرَّقْم؛ ومنه كتاب مرقوم. ومنه الأرقم لتخطيطه. ومنه رَقْمة الوادي؛ أي مكان جَرْي الماء وانعطافه. وما روي عن ابن عباس ليس بمتناقض؛ لأن القول الأوّل إنما سمعه من كَعْب. والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده، وروى عنه سعيد بن جُبير قال: ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال: إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال: ليكونن لهم نبأ، وأحضر لوحاً من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في خزانته؛ فذلك اللوح هو الرقيم.

وقيل: إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان؛ فالله أعلم. وعن ابن عباس أيضاً: الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام. وقال النقاش عن قتادة: الرقيم دراهمهم. وقال أنس بن مالك والشعبيّ: الرقيم كلبهم. وقال عكرمة: الرقيم الدواة. وقيل: الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر. وقيل: الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم؛ فذكر كلُّ واحد منهم أصلح عمله.

قلت: وفي هذا خبر معروف أخرجه الصحيحان، وإليه نحا البخاري. وقال قوم: أخبر الله عن أصحاب الكهف، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء. وقال الضحاك: الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفساً كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف، فعلى هذا هم فتية آخرون جرى لهم ما جرى لأصحاب الكهف. والله أعلم. وقيل: الرقيم وادٍ دون فلسطين فيه الكهف؛ مأخوذ من رقمة الوادي وهي موضع الماء؛ يقال: عليك بالرقمة ودع الصِّفّة؛ ذكره الغزنوي. قال ابن عطية: وبالشام على ما سمعت به من ناس كثير (كهف) فيه موتى، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلبٌ رمّة. وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلبٌ رمّة، وأكثرهم قد تجرّد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة. ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاة من الأرض خربة، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها.

قلت: ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم؛ لأن الله تعالى يقول في حق أصحاب الكهف: { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } وقد قال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم: قد منع الله من هو خير منك عن ذلك؛ وسيأتي في آخر القصة. وقال مجاهد في قوله: «كانوا من آياتنا عجباً» قال: هم عجب. كذا روى ابن جريج عنه؛ يذهب إلى أنه ليس بإنكار على النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده أنهم عَجَب. وروى ابن نجيح عنه قال: يقول ليس بأعجب آياتنا.

{ إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }
فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ } رُوي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، [يقال فيه: دقليوس] ويقال فيه دقينوس. وروي أنهم كانوا مطوّقين مسوّرين بالذهب ذوي ذوائب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى. وقيل: كانوا قبل عيسى، والله أعلم. وقال ابن عباس: إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفْسُوس. وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام، وكان بها سبعة أحداث يعبدون الله سرًّا، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلاً، ومرُّوا براع معه كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئاً؛ فقال الملك: سُدُّوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً. وروى مجاهد عن ابن عباس أيضاً أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين ـ حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم ـ فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله؛ فرفع أمرهم إلى الملك وقيل له: إنهم قد فارقوا دينك واستخفّوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته، وتوعّدهم على فراق ذلك بالقتل؛ فقالوا له فيما روي: { رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } إلى قوله: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ }. وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك: إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم بل أستأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبّروا رأيكم وارجعوا إلى أمري، وضرب لهم في ذلك أجلاً، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إني أعرف كهفاً في جبل كذا، كان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا؛ فخرجوا فيما روي يلعبون بالصَّولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم. وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا باللّعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك. وروى وهب بن منبّه أن أول أمرهم إنما كان حواريّ لعيسى بن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فأجّر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة، فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من أهل المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه، واشتهرت خلطتهم به؛ فأتى يوماً إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها، فنهاه ذلك الحواري فانتهى، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغيّ، فدخل فماتا فيه جميعاً، فاتهم ذلك الحواريّ وأصحابه بقتلهما، ففروا جميعاً حتى دخلوا الكهف.

وقيل في خروجهم غير هذا.

وأما الكلب فروي أنه كان كلبَ صيد لهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعياً له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم؛ قاله ابن عباس. واسم الكلب حمران وقيل قطمير.

وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية، والسند في معرفتها واه. والذي ذكره الطبري هي هذه: مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومحسيميلنينا ويمليخا، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس. قال مقاتل: وكان الكلب لمكسلمينا، وكان أسنّهم وصاحب غنم.

الثانية: هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فاراً بدينه، وكذلك أصحابه، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة «النحل». وقد نص الله تعالى على ذلك في «براءة» وقد تقدم. وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين. فسكنَى الجبال ودخول الغيران، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء. وقد فضّل رسول الله صلى الله عليه وسلم العزلة، وفضّلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال: { فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ }.

قال العلماء: الاعتزال عن الناس يكون مرّة في الجبال والشّعاب، ومرة في السواحل والرِّباط، ومرة في البيوت؛ وقد جاء في الخبر: «إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكفّ لسانك». ولم يخصّ موضعاً من موضع. وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك، إن كنت بين أظهرهم. وقال ابن المبارك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت. وروى البغويّ عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نعم صوامع المؤمنين بيوتهم " من مراسيل الحسن وغيره. وقال عقبة بن عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما النجاة يا رسول الله؟ فقال: " يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك " وقال صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنمُ يتبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر يَفِرّ بدينه من الفتن "

خرّجه البخاري. وذكر عليّ بن سعد عن الحسن بن واقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلّت لأمتي العزبة والعزلة والترهّب في رؤوس الجبال " وذكر أيضاً علي بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فرّ بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلّت العُزْبة. قالوا: يا رسول الله، كيف تحلّ العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج؟ قال: إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يعيِّرونه بضيق المعيشة ويكلّفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها ".

قلت: أحوال الناس في هذا الباب تختلف، فربّ رجلٍ تكون له قوّة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم في بداية أمره، ونص عليها في كتابه مخبراً عن الفتية، فقال: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ }. وربّ رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل؛ وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم. وربَّ رجلٍ متوسّط بينهما فيكون له من القوّة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن. وذكر ابن المبارك حدّثنا وهيب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبِّه فقال: إن الناس وقعوا فيما فيه وقعواٰ وقد حدّثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل! إنه لا بدّ لك من الناس، ولا بدّ لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصمَّ سميعاً، أعمى بصيراً، سَكوتاً نَطُوقاً. وقد قيل: إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشِّعاب؛ مثل الاعتكاف في المساجد، ولزوم السواحل للرّباط والذكر، ولزوم البيوت فراراً عن شرور الناس. وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم ـ والله أعلم ـ لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها؛ فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه؛ كما ذكرنا، والله الموفق وبه العصمة.

وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يعجب ربُّك من راعي غنم في رأس شظيّة الجبل يؤذِّن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة " خرجه النسائيّ.

الثالثة: قوله تعالى: { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } لما فرُّوا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجأوا إلى الله تعالى فقالوا: { رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي مغفرة ورزقاً. { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } توفيقاً للرشاد. وقال ابن عباس: مخرجاً من الغار في سلامة. وقيل صواباً. ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حَزَبَه أمر فَزع إلى الصلاة.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين سبتمبر 29, 2008 12:03 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm
مشاركات: 335
مكان: مصر المحروسه
الكهف القرطبى 2

{ وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } * { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }
قوله تعالى: { وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله. فالإنذار في أوّل السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد. { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } «من» صلة، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل. { وَلاَ لآبَائِهِمْ } أي أسلافهم. { كَبُرَتْ كَلِمَةً } «كلمة» نصب على البيان؛ أي كبرت تلك الكلمة كلمةً. وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «كلمةٌ» بالرفع؛ أي عظمت كلمة؛ يعني قولهم اتخذ الله ولداً. وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار. يقال: كبر الشيء إذا عظم، وكبر الرجل إذا أسنّ. { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } في موضع الصفة. { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } أي ما يقولون إلا كذباً.


{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً }
قوله تعالى: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ } «باخع» أي مُهلك وقاتل؛ وقد تقدّم. «آثارهم» جمع أثر، ويقال إثر. والمعنى: على أثر تولّيهم وإعراضهم عنك. { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } أي القرآن. { أَسَفاً } أي حزناً وغضباً على كفرهم؛ وانتصب على التفسير.


{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً }
قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } «ما» و «زينةً» مفعولان. والزينة كل ما على وجه الأرض؛ فهو عموم لأنه دال على بارئه. وقال ابن جبير عن ابن عباس: أراد بالزينة الرجال؛ قال مجاهد. وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها» قال: العلماء زينة الأرض. وقالت فرقة: أراد النّعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة؛ ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب. والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه. والآية بسط في التسلية؛ أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها؛ فمنهم من يتدبّر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم؛ فلا يعظُمنّ عليك كفرهم فإنا نجازيهم.

الثانية: معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون " وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا قال: وما زهرة الدنيا؟ قال: «بركات الأرض» " خرجهما مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدريّ. والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى؛ فابتلى الله بها عباده لينظر أيّهم أحسن عملاً. أي من أزهد فيها وأترك لها؛ ولا سبيل للعباد إلى بغضة ما زيّنه الله إلا (أن) يعينه على ذلك. ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري: اللهمّ إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زيّنته لنا، اللّهمَّ إني أسألك أن أنفقه في حقه. فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه. وهذا معنى قوله عليه السلام: " فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع " وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همّته جمعها؛ وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله؛ فإن الفتنة معها حاصلةٌ وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه. وقال ابن عطية: كان أبي رضي الله عنه يقول في قوله: «أحسن عملاً» أحسن العمل أخذٌ بحقّ وإنفاقٌ في حق مع الإيمان، وأداء الفرائض واجتنابُ المحارم والإكثارُ من المندوب إليه.

قلت: هذا قول حسن، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه، وقد جمعه النبيّ صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد وهو
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً }
" قوله لسفيان بن عبد الله الثَّقَفيّ لما قال: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك ـ في رواية: غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم " خرّجه مسلم. وقال سفيان الثّوريّ: «أحسن عملاً» أزهدهم فيها. وكذلك قال أبو عصام العسقلاني: «أحسن عملاً» أترك لها. وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد؛ فقال قوم: قصرُ الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء؛ قاله سفيان الثّوريّ. قال علماؤنا: وصدق رضي الله عنهٰ فإن من قَصُر أملهُ لم يتأنّق في المطعومات ولا يتفنّن في الملبوسات، وأخذ من الدنيا ما تيسّر، واجتزأ منها بما يبلِّغ. وقال قوم: بغضُ المحمدة وحبِّ الثناء. وهو قول الأوزاعيّ ومن ذهب إليه. وقال قوم: ترك الدنيا كلها هو الزهد؛ أحَبَّ تركها أم كره. وهو قول فضيل. وعن بشر بن الحارث قال: حبُّ الدنيا حبُّ لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس. وعن الفضيل أيضاً: علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس. وقال قوم: لا يكون الزاهد زاهداً حتى يكون ترك الدنيا أحبَّ إليه من أخذها؛ قاله إبراهيم بن أدهم. وقال قوم: الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك؛ قاله ابن المبارك. وقالت فرقة: الزهد حبّ الموت. والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى

{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً }
تقدّم بيانه. وقال أبو سهل: تراباً لا نبات به؛ كأنه قُطع نباته. والجَرْز: القطع؛ ومنه سنة جُرُز. قال الراجز:
قـد جَرَفْتهـنّ السِّنـون الأجْـرَاز
والأرض الجرز التي لا نبات فيها ولا شيء من عمارة وغيرها؛ كأنه قطع وأزيل. يعني يوم القيامة، فإن الأرض تكون مستوية لا مستتر فيها. النحاس: والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها. قال الكسائي: يقال جرزت الأرض تجرز، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيها من النبات والزرع فهي مجروزة وجرز.


{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }
مذهب سيبويه أن «أم» إذا جاءت دون أن يتقدّمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام، وهي المنقطعة. وقيل: «أم» عطف على معنى الاستفهام في لعلك، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار. قال الطبري: وهو تقرير للنبيّ صلى الله عليه وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجباً، بمعنى إنكار ذلك عليه؛ أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع؛ هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق. والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا، وعن ذي القرنين وعن الروح، وأبطأ الوحي على ما تقدّم. فلما نزل قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرّقيم كانوا من آياتنا عجباً؛ أي ليسوا بعجب من آياتنا، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم. الكلبي: خَلْقُ السموات والأرض أعجبُ من خبرهم. الضحاك: ما أطلعتك عليه من الغيب أعجب. الجنيد: شأنك في الإسراء أعجب. الماورديّ: معنى الكلام النفي؛ أي ما حسبت لولا إخبارنا. أبو سهل: استفهام تقرير؛ أي أحسبت ذلك فإنهم عجب. والكهف: النَّقْب المتّسع في الجبل؛ وما لم يتّسع فهو غار. وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال: الكهف الجبل؛ وهذا غير شهير في اللغة.

واختلف الناس في الرقيم؛ فقال ابن عباس: كل شيء في القرآن أعلمه إلا أربعة: غِسْلين وحَنَان والأوّاه والرقيم. وسئل مرة عن الرقيم فقال: زعم كعب أنها قرية خرجوا منها. وقال مجاهد: الرقيم وادٍ. وقال السّدي: الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف. وقال ابن زيد: الرقيم كتاب غمّ الله علينا أمره، ولم يشرح لنا قصته. وقالت فرقة: الرقيم كتاب في لوح من نحاس. وقال ابن عباس: في لوح من رصاص كَتب فيه القوم الكفارُ الذين فرّ الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخاً لهم، ذكروا وقت فقدهم، وكم كانوا، وبين من كانوا. وكذا قال الفراء، قال: الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا. قال ابن عطية: ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوماً مؤرّخين للحوادث، وذلك من نبل المملكة؛ وهو أمر مفيد. وهذه الأقوال مأخوذة من الرَّقْم؛ ومنه كتاب مرقوم. ومنه الأرقم لتخطيطه. ومنه رَقْمة الوادي؛ أي مكان جَرْي الماء وانعطافه. وما روي عن ابن عباس ليس بمتناقض؛ لأن القول الأوّل إنما سمعه من كَعْب. والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده، وروى عنه سعيد بن جُبير قال: ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال: إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال: ليكونن لهم نبأ، وأحضر لوحاً من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في خزانته؛ فذلك اللوح هو الرقيم.

وقيل: إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان؛ فالله أعلم. وعن ابن عباس أيضاً: الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام. وقال النقاش عن قتادة: الرقيم دراهمهم. وقال أنس بن مالك والشعبيّ: الرقيم كلبهم. وقال عكرمة: الرقيم الدواة. وقيل: الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر. وقيل: الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم؛ فذكر كلُّ واحد منهم أصلح عمله.

قلت: وفي هذا خبر معروف أخرجه الصحيحان، وإليه نحا البخاري. وقال قوم: أخبر الله عن أصحاب الكهف، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء. وقال الضحاك: الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفساً كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف، فعلى هذا هم فتية آخرون جرى لهم ما جرى لأصحاب الكهف. والله أعلم. وقيل: الرقيم وادٍ دون فلسطين فيه الكهف؛ مأخوذ من رقمة الوادي وهي موضع الماء؛ يقال: عليك بالرقمة ودع الصِّفّة؛ ذكره الغزنوي. قال ابن عطية: وبالشام على ما سمعت به من ناس كثير (كهف) فيه موتى، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلبٌ رمّة. وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلبٌ رمّة، وأكثرهم قد تجرّد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة. ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاة من الأرض خربة، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها.

قلت: ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم؛ لأن الله تعالى يقول في حق أصحاب الكهف: { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } وقد قال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم: قد منع الله من هو خير منك عن ذلك؛ وسيأتي في آخر القصة. وقال مجاهد في قوله: «كانوا من آياتنا عجباً» قال: هم عجب. كذا روى ابن جريج عنه؛ يذهب إلى أنه ليس بإنكار على النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده أنهم عَجَب. وروى ابن نجيح عنه قال: يقول ليس بأعجب آياتنا.

{ إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }
فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ } رُوي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، [يقال فيه: دقليوس] ويقال فيه دقينوس. وروي أنهم كانوا مطوّقين مسوّرين بالذهب ذوي ذوائب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى. وقيل: كانوا قبل عيسى، والله أعلم. وقال ابن عباس: إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفْسُوس. وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام، وكان بها سبعة أحداث يعبدون الله سرًّا، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلاً، ومرُّوا براع معه كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئاً؛ فقال الملك: سُدُّوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعاً وعطشاً. وروى مجاهد عن ابن عباس أيضاً أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين ـ حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم ـ فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله؛ فرفع أمرهم إلى الملك وقيل له: إنهم قد فارقوا دينك واستخفّوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته، وتوعّدهم على فراق ذلك بالقتل؛ فقالوا له فيما روي: { رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } إلى قوله: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ }. وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك: إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم بل أستأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبّروا رأيكم وارجعوا إلى أمري، وضرب لهم في ذلك أجلاً، ثم إنه سافر خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم: إني أعرف كهفاً في جبل كذا، كان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا؛ فخرجوا فيما روي يلعبون بالصَّولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم. وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا باللّعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك. وروى وهب بن منبّه أن أول أمرهم إنما كان حواريّ لعيسى بن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فأجّر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة، فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من أهل المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه، واشتهرت خلطتهم به؛ فأتى يوماً إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها، فنهاه ذلك الحواري فانتهى، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغيّ، فدخل فماتا فيه جميعاً، فاتهم ذلك الحواريّ وأصحابه بقتلهما، ففروا جميعاً حتى دخلوا الكهف.

وقيل في خروجهم غير هذا.

وأما الكلب فروي أنه كان كلبَ صيد لهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعياً له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم؛ قاله ابن عباس. واسم الكلب حمران وقيل قطمير.

وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية، والسند في معرفتها واه. والذي ذكره الطبري هي هذه: مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومحسيميلنينا ويمليخا، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس. قال مقاتل: وكان الكلب لمكسلمينا، وكان أسنّهم وصاحب غنم.

الثانية: هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فاراً بدينه، وكذلك أصحابه، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة «النحل». وقد نص الله تعالى على ذلك في «براءة» وقد تقدم. وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين. فسكنَى الجبال ودخول الغيران، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء. وقد فضّل رسول الله صلى الله عليه وسلم العزلة، وفضّلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال: { فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ }.

قال العلماء: الاعتزال عن الناس يكون مرّة في الجبال والشّعاب، ومرة في السواحل والرِّباط، ومرة في البيوت؛ وقد جاء في الخبر: «إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكفّ لسانك». ولم يخصّ موضعاً من موضع. وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك، إن كنت بين أظهرهم. وقال ابن المبارك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت. وروى البغويّ عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نعم صوامع المؤمنين بيوتهم " من مراسيل الحسن وغيره. وقال عقبة بن عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما النجاة يا رسول الله؟ فقال: " يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك " وقال صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنمُ يتبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر يَفِرّ بدينه من الفتن "

خرّجه البخاري. وذكر عليّ بن سعد عن الحسن بن واقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلّت لأمتي العزبة والعزلة والترهّب في رؤوس الجبال " وذكر أيضاً علي بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فرّ بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلّت العُزْبة. قالوا: يا رسول الله، كيف تحلّ العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج؟ قال: إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: يعيِّرونه بضيق المعيشة ويكلّفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها ".

قلت: أحوال الناس في هذا الباب تختلف، فربّ رجلٍ تكون له قوّة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم في بداية أمره، ونص عليها في كتابه مخبراً عن الفتية، فقال: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ }. وربّ رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل؛ وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم. وربَّ رجلٍ متوسّط بينهما فيكون له من القوّة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن. وذكر ابن المبارك حدّثنا وهيب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبِّه فقال: إن الناس وقعوا فيما فيه وقعواٰ وقد حدّثت نفسي ألا أخالطهم. فقال: لا تفعل! إنه لا بدّ لك من الناس، ولا بدّ لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصمَّ سميعاً، أعمى بصيراً، سَكوتاً نَطُوقاً. وقد قيل: إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشِّعاب؛ مثل الاعتكاف في المساجد، ولزوم السواحل للرّباط والذكر، ولزوم البيوت فراراً عن شرور الناس. وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم ـ والله أعلم ـ لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها؛ فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه؛ كما ذكرنا، والله الموفق وبه العصمة.

وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يعجب ربُّك من راعي غنم في رأس شظيّة الجبل يؤذِّن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة " خرجه النسائيّ.

الثالثة: قوله تعالى: { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } لما فرُّوا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجأوا إلى الله تعالى فقالوا: { رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي مغفرة ورزقاً. { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } توفيقاً للرشاد. وقال ابن عباس: مخرجاً من الغار في سلامة. وقيل صواباً. ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حَزَبَه أمر فَزع إلى الصلاة.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 45 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1, 2, 3  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 9 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط