اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm مشاركات: 335 مكان: مصر المحروسه
|
تفسير سيدى محى الدين بن عربى لسورة الكهف
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } * { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } * { هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } { إنهم فتية آمنوا بربّهم } إيماناً يقيناً علمياً على طريق الاستدلال أو المكاشفة { وزدناهم هدى } أي: هداية موصلة إلى عين اليقين ومقام المشاهدة بالتوفيق. { وربطنا على قلوبهم } قويناها بالصبر على المجاهدة، وشجعناهم على محاربة الشيطان ومخالفة النفس، وهجر المألوفات الجسمانية، واللذات الحسيّة، والقيام بكلمة التوحيد، ونفي إلهية الهوى، وترك عبادة صنم الجسم بين يدي جبّار النفس الأمّارة من غير مبالاة بها حين عاتبتهم على ترك عبادة إله الهوى وصنم البدن، وأوعدتهم بالفقر والهلاك، إذ النفس داعية إلى عبادته وموافقته، وتهيئة أسباب حظوظه مخيفة للقلب من الخوف والموت، أو جسرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار الدين القويم والدعوة إلى الحق عند كل جبّار هو دقيانوس وقته كنمروذ وفرعون وأبي جهل وأضرابهم ممن دان بدينهم واستولى عليه النفس الأمّارة فعبد الهوى، أو ادّعى لطغيانه، وتمرد أنائيته وعدوانه الربوبية من غير مبالاة عند معاتبته إياهم على ترك عبادة الصنم المجعول كما هو عادة بعضهم أو صنم نفسه، كما قال فرعون اللعين: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [القصص، الآية: 38] و { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات، الآية: 24]. { هؤلاء قومنا } إشارة إلى النفس الأمارة وقواها، لأن لكل قوم إلهاً تعبده وهو مطلوبها ومرادها، والنفس تعبد الهوى كقوله: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية، الآية: 23]، أو إلى أهل زمان كل من خرج منهم داعياً إلى الله، إذ كل من عكف على شيء يهواه فقد عبده. { لولا يأتون عليهم } أي: على عبادتهم وإلهيتهم وتأثيرهم ووجودهم { بسلطان بيّن } أي: حجة بيّنة دليل على فساد التقليد وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله وتأثيره ووجوده محال، كما قال: { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [النجم، الآية: 23] أي: اسماء بلا مسميات لكونها ليست بشيء.
{ وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } { وإذ اعْتَزلتموهم } أي: فارقتم نفوسكم وقواها بالتجرّد { وما يعبدون إلاَّ الله } من مراداتها وأهوائها { فأووا إلى الكهف } إلى البدن لاستعمال الآلات البدنية في الاستكمال بالعلوم والأعمال، وانخزلوا فيه منكسرين، مرتاضين، كأنهم ميتون بترك الحركات النفسانية والنزوات البهيمية والسطوات السبعية، أي: موتوا إرادياً { ينشر لكم ربكم من رحمته } حياة حقيقية بالعلم والمعرفة { ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً } كما لا ينتفع به بظهور الفضائل وطلوع أنوار التجليات، فتلتذون بالمشاهدات وتتمتعون بالكمالات كما قال تعالى: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام، الآية: 122]، وقال عليه السلام في أبي بكر رضي الله عنه: " من أراد أن ينظر ميتاً يمشي على وجه الأرض فلينظر أبا بكر " ، أي: ميتاً عن نفسه يمشي بالله. أو وإذ اعتزلتم قومكم ومعبوداتهم غيّر الله من مطالبهم المختلفة، ومقاصدهم المتشتتة، وأهوائهم المتفننة، وأصنامهم المتخذة، فأووا إلى كهوف أبدانكم وامتنعوا عن فضول الحركات والخروج في أثر الشهوات، واعكفوا على الرياضات، { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } [الكهف، الآية: 16] زيادة كمال وتقوية ونصرة بالأمداد الملكوتية، والتأييدات القدسية، فيغلبكم عليهم ويهيئ لكم ديناً وطريقاً ينتفع به، وقبولاً يهتدي بكم الخلائق ناجين. وفي المأوى إلى الكهف عند مفارقتهم سر آخر يفهم من دخول المهدي في الغار إذ أُخرج ونزل عيسى والله أعلم. وفي نشر الرحمة وتهيئة المرفق من أمرهم عند الأوي إلى الكهف إشارة إلى أنّ الرحمة الكامنة في استعدادهم إنما تنتشر بالتعلق البدني والكمال بتهيئاته. { وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } { وترى الشمس } أي: شمس الروح { إذا طلعت } أي: ترقت بالتجرّد عن غواشي الجسم وظهرت من أفقه تميل بهم من جهة البدن وميله ومحبته إلى جهة اليمين أي: جانب عالم القدس وطريق أعمال البرّ من الخيرات والفضائل والحسنات والطاعات. وسيرة الأبرار، فإن الأبرار هم أصحاب اليمين. { وإذا غربت } أي: هوت في الجسم واحتجبت به، واختفت في ظلماته وغواشيه، وخمد نورها، تقطعهم وتفارقهم كائنين في جهة الشمال، أي: جانب النفس وطريق أعمال السوء فينهمكون في المعاصي والسيئات والشرور والرذائل. وسيرة الفجار الذين هم أصحاب الشمال { وهم في فجوة منه } أي: في مجال متسع من بدنهم هو مقام النفس والطبيعة، فإن فيه متفسحاً لا يصيبهم فيه نور الروح. واعلم أن الوجه الذي يلي الروح من القلب موضع منور بنور الروح يسمى العقل وهو الباعث على الخير والمطرق لإلهام الملك والوجه الذي يلي النفس منه مظلم بظلمة صفاتها يسمى الصدر وهو محل وسوسة الشيطان كما قال: { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ } [الناس، الآية: 5]، فإذا تحرك الروح وأقبل القلب بوجهه إليه تنور وتقوى بالقوة العقلية الباعثة المشوقة إلى الكمال ومال إلى الخير والطاعة، وإذا تحركت النفس وأقبل القلب بوجهه إليها تكدر واحتجب عن نور الروح وأظلم العقل ومال إلى الشر والمعصية. وفي هاتين الحالتين تطرق الملك للإلهام والشيطان للوسواس وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وفي الآية لطيفة هي: أنه استعمل في الميل إلى الخير الازورار عن الكهف، وفي الميل إلى الشر قرضهم اي: قطعهم، وذلك أن الروح يوافق القلب في طريق الخبر ويأمره به ويوافقه معرضاً عن جانب البدن وموافقاته ولا يوافقه في طريق الشر بل يقطعه ويفارقه وهو منغمس في ظلمات النفس وصفاتها الحاجبة إياه عن النور وهو إشارة إلى تلوينهم في السلوك، فإن السالك ما لم يصل إلى مقام التمكين وبقي في التلوين قد تظهر عليه النفس وصفاته فيحتجب عن نور الروح ثم يرجع ذلك أي: طلوع نور الروح واختفاؤه من آيات الله التي يستدل بها ويتوصل منها إليه وإلى هدايته. { من يهد الله } بإيصاله إلى مقام المشاهدة والتمكين فيها { فهو المهتد } بالحقيقة لا غير { ومن يضلل } بحجبه عن نور وجهه فلا هادي له ولا مرشد, أو من يهد الله إليهم وإلى حالهم بالحقيقة ومن يضلله يحجبه عن حالهم.
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } * { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } * { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } { وتحسبهم أيقاظاً } يا مخاطب لانفتاح أعينهم وإحساساتهم وحركاتهم الإرادية الحيوانية { وهم رقود } بالحقيقة في سنة الغفلة تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون { ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال } أي: نصرفهم إلى جهة الخير وطلب الفضيلة تارة، وإلى جهة الشر ومقتضى الطبيعة أخرى { وكلبهم } أي: نفسهم { باسطٌ ذراعيه } أي: ناشرة قوتيها الغضبية والشهوانية { بالوصيد } أي: بفناء البدن، ولم يقل: وكلبهم هاجع لأنها لم ترقد بل بسطت القوتين في فناء البدن ملازمة له لا تبرح عنه، والذراع الأيمن هو الغضب لأنه أقوى وأشرف وأقبل لدواعي القلب في تأديبه، والأيسر هو الشهوة لضعفها وخستها { لو اطّلعت عليهم } أي: على حقائقهم المجردة وأحوالهم السنية وما أودع الله فيهم من النورية والسنا، وما ألبسهم من العز و البهاء { لوليت منهم } فارّاً لعدم اعتقادك بالنفوس المجردة وأحوالها وعدم استعدادك لقبول كمالهم، أو لوليت منهم للفرار عنهم وعن معاملاتهم لميلك إلى اللذات الحسيّة والأور الطبيعية { ولملئت منهم رعباً } من أحوالهم ورياضاتهم، أو لو اطلعت عليهم بعد الوصول إلى الكمال وعلى أسرارهم ومقاماتهم في الوحدة لأعرضت عنهم وفررت من أحوالهم وملئت منهم رعباً لما ألبسهم الله من عظمته وكبريائه. وأين الحدث من القدم، وأنى يسع الوجود العدم.
{ وكذلك بعثناهم } أي: مثل ذلك البعث الحقيقي والإحياء المعنوي بعثناهم { ليتساءلوا بينهم } أي: ليتباحثوا بينهم عن المعاني المودعة في استعدادهم الحقائق المكنونة في ذواتهم فيكملوا بإبرازها وإخراجها إلى الفعل، وهو أول الانتباه الذي تسميه المتصوفة اليقظة { قال قائل منهم كم لبثتم } مرّ تأويله، والمحققون منهم هم الذين { قالوا ربّكم أعلم بما لبثتم فابْعَثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } هذا هو زمان استبصارهم واستفادتهم واستكمالهم. والورق هو ما معهم من العلوم الأولية التي لا تحتاج إلى كسب، إذ بها تستفاد الحقائق الذهنية من العلوم الحقيقية والمعارف الإلهية. والمدينة محل الاجتماع، إذ لا بد من الصحبة والتربية أو مدينة العلم من قوله عليه السلام: " أنا مدينة العلم وعليّ بابها " وإنما بعثوا أحدهم لأن كمال الكل غير موقوف على التعليم والتعلم بل الكمال الأشرف هو العلمي فيكفي تعلم البعض عن كل فرقة وتنبيه الباقين كما قال تعالى: { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ } [التوبة، الآية: 122].
{ فلينظر أيها أزكى طعاماً } أي: أهلها أطيب وأفضل علماً وأنقى من الفضول واللغو والظواهر كعلم الخلاف والجدل والنحو وأمثالها التي لا تتقوى ولا تكمل بها النفس كقوله: { لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } [الغاشية، الآية: 7]، إذ العلم غذاء القلب كالطعام للبدن وهو الرزق الحقيقي الإلهي { وليتلطف } في اختيار الطعام ومن يشتري منه أي: ليختر المحقق الزكي النفس، الرشيد السمت، الفاضل السيرة، النقي السريرة، الكامل المكمل دون الفضولي الظاهري الخبيث النفس، المتعالم، المتصدّر، لإفادة ما ليس عنده ليستفيد بصحبته ويظهر كماله بمجالسته ويستبصر بعلمه فيفيدنا أو ليتلطف في أمره حتى لا يشعر بحالكم ودينكم، جاهل من غير قصد له { ولا يشعرنّ بكم أحداً } من أهل الظاهر المحجوبين وسكان عالم الطبيعة المنكرين، وإن أولنا أصحاب الكهف بالقوى الروحانية فالمبعوث هو الفكر، والمدينة محل اجتماع القوى الروحانية والنفسانية والطبيعية والذي هو أزكى طعاماً العقل دون الوهم والخيال والحواس، لأن كل مدرك له طعام والرزق هو العلم النظري على كلا التقديرين، ولا يشعرنّ بكم أحداً من القوى النفسانية. { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } * { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } * { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } { إنهم إن يظهروا } أي: يغلبوا { عليكم يرجموكم } بحجارة الأهواء والدواعي من الغضب والشهوة وطلب اللذة فيقتلوكم بمنعكم عن كمالكم { أو يعيدوكم في ملّتهم } باستيلاء الوهم وغلبة الشيطان والإمالة إلى الهوى وعبادة الأوثان وعلى التأويل الأول ظهور العوام، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم إياهم إلى ملّتهم ظاهر كما كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } * { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } { وكذلك أعثرنا عليهم } أي: مثل ذلك البعث والإنامة أطلعنا على حالهم المستعدّين القابلين لهديهم ومعرفة حقائقهم { ليعلموا } بصحبتهم وهدايتهم { أنّ وعد الله } بالبعث والجزاء { حق وأنّ الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم } أي: حين يتنازع المستعدون الطالبون بينهم أمرهم في المعاد، فمنهم من يقول: إن البعث مخصوص بالأرواح المجردة دون الأجساد، ومنهم من يقول: إنه بالأرواح والأجساد معاً، فعلموا بالاطلاع عليهم ومعرفتهم أنه بالأرواح والأجساد وأن المعاد الجسماني حق، { فقالوا ابنوا عليهم بنياناً } أي: فلما توفوا قالوا ذلك كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنية على الكمل، المقربين من الأنبياء والأولياء كإبراهيم ومحمد وعلى سائر الأنبياء والأولياء عليهم الصلاة والسلام. { ربّهم أعلم بهم } من كلام أتباعهم من أممهم والمقتدين بهم، أي: هم أجلّ وأعظم شأناً من أن يعرفهم غيرهم، الموحدون الهالكون في الله، المتحققون به، فهو أعلم بهم كما قال تعالى: " أوليائي تحت قبائي، لا يعرفهم غيري " { قال الذين غلبوا على أمرهم } من أصحابهم والذين يلون أمرهم تبركاً بهم وبمكانهم { لنتخذنّ عليهم مسجداً } يصلى فيه. { سيقولون } أي: الظاهريون من أهل الكتاب والمسلمين الذين لا علم لهم بالحقائق. وقوله: { رجماً بالغيب } أي: رمياً بالذي غاب عنهم، يعني: ظنّاً خالياً عن اليقين بعد قولهم: { ثلاثة رابعهم كلبهم } و { خمسة سادسهم كلبهم } وتوسيط الواو الدالة على أن الصفة مجامعة للموصوف ولا تفارقه، وأنه لا عدد وراءه بين قوله: { ويقولون سبعة } وبين { وثامنهم كلبهم }. وقوله: { ما يعلمهم إلا قليل } بعده، يدل على أنّ العدد هو سبعة لا غير، فالقليل هم المحققون القائلون به وإن أوّلناهم بالقوى الروحانية فهم العاقلتان: النظرية والعملية، والفكر والوهم، والتخيل والذكر، والحسّ المشترك المسمى بنطاسيا، والكلب النفس والشمس والروح على كلا التأويلين. ولهذا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: " إنهم كانوا سبعة، ثلاثة عن يمين الملك وثلاثة عن يساره، والسابع هو الراعي صاحب الكلب " ، فإن صحت الرواية فالملك هو دقيانوس النفس الأمّارة، والثلاثة الذين كانوا عن يمينه يستشيرهم هم العاقلتان والفكر، والثلاثة الذين كانوا عن يساره يستوزرهم هم التخيل والوهم والذكر، والراعي هو بنطاسيا صاحب أغنام الحواس، والذين قالوا هم ثلاثة ارادوا القلب والعاقلتين، والذين قالوا خمسة زادوا عليهم الفكر والوهم وتركوا المدرك للصور والذكر لعدم تصرفهما وكون كل منهما كالخزانة. وعلى هذا التأويل فالاطلاع للفئة المحققين من الحضرة الإلهية على بقاء النفس بعد خراب البدن، والتنازع، هو التجاذب والتغالب الواقع بين القوى في الاستيلاء على البدن الذي يبعثون فيه وهو البنيان المأمور ببنائه والآمرون هم الغالبون الذين قالوا: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } [الكهف، الآية: 21] يسجد، أي: ينقاد فيه جميع القوى الحيوانية و الطبيعية والنفسانية والمأمورون هم المغلوبون الفاعلون في البدن المبعوث فيه والله أعلم.
{ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً } * { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً } { ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك } أدّبه بالتأديب الإلهي بعدما نهاه عن المماراة والسؤال، فقال: " لا تقولنّ إلا وقت أن يشاء الله " بأن يأذن لك في القول فتكون قائلاً به وبمشيئته أو إلا بمشيئته على أنه حال، أي: ملتبساً بمشيئته، يعني: لا تقولنّ لما عزمت عليه من فعل إني فاعل ذلك في الزمان المستقبل إلا ملتبساً بمشيئة الله، قائلاً: إن شاء الله، أي: لا تسند الفعل إلى إرادتك بل إلى إرادة الله، فتكون فاعلاً به وبمشيئته { واذْكر ربّك } بالرجوع إليه والحضور { إذا نسيت } بالغفلة عند ظهور النفس والتلوين بظهور صفاتها { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا } أي: من الذكر عند التلوين وإسناد الفعل إلى صفاته بالتمكين والشهود الذاتي المخلص عن حجب الصفات { رشداً } استقامة، وهو التمكين في الشهود الذاتي.
{ وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } * { قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } * { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } * { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } * { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } { ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين } من التي تبتنى على دور القمر فتكون كل سنة شهراً ومجموعها خمسة وعشرون سنة، وذلك وقت انتباههم وتيقظهم { وازْدَادُوا تِسْعاً } هي مدة الحمل. وروعيت في الآية نكتة، هي أنه: لم يقل ثلثمائة سنة وتسعاً، أو ثلثمائة وتسع سنين، لاستعمال السنة في العرف وقت نزول الوحي في دورة شمسية لا قمرية، فأجمل العدد ثم بيّنه بقوله: سنين، فاحتمل أن يكون المميز غيرها كالشهر مثلاً، ثم بين أنّ المدة سنين مبهمة غير معينة، إذ لو قيل: ثلثمائة شهر سنين، فأبدل سنين من مجموع العدد، كانت العبارة صحيحة والمراد سنين كذا عدداً، أي: خمسة وعشرين. ويؤيده قوله بعده: { قل الله أعلم بما لبثوا } وقال قتادة: هو حكاية كلام أهل الكتاب من تتمة سيقولون: وقوله: { قل الله أعلم } ردّ عليهم. وفي مصحف عبد الله: وقالوا: { لبثوا } ، وذلك أن اليقين غير محقق ولا مطرد.
{ واتْل ما أوحي إليك من كتاب ربّك } يجوز أن تكون من لابتداء الغاية، والكتاب هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحى إلى من أوحى إليه، وأن تكون بياناً لما أوحى. والكتاب هو العقل الفرقاني وعلى التقديرين { لا مبدّل لكلماته } التي هي أصول الدين من التوحيد والعدل وأنواعهما { ولن تجد من دونه ملتحداً } تميل إليه لامتناع وجود ذلك.
{ واصبر نفسك } أمر بالصبر مع الله وأهله وعدم الالتفات إلى غيره وهذا الصبر هو من باب الاستقامة والتمكين لا يكون إلا بالله { مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ } أي: دائماً هم الموحدون من الفقراء المجرّدين الذين لا يطلبون غير الله ولا حاجة لهم في الدنيا والآخرة، ولا وقوف مع الأفعال والصفات { يريدون وجهه } أي: ذاته فحسب، يدعونه ولا يحتجبون عنه بغيره وقت ظهورها غداة الفناء ووقت احتجابها بهم عند البقاء، فالصبر معهم هو الصبر مع الله، ومجاوزة العين عنهم المنهي عنها هو الالتفات إلى الغير. { إنّا أعتدنا للظالمين } أي: المشركين المحجوبين عن الحق لقوله: { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان، الآية: 13] { ناراً } عظيمة { أحاط بهم سرادقها } من مراتب الأكوان كالطباع العنصرية والصور النوعية المادية المحيطة بالأشخاص الهيولانية { بماء كالمهل } من جنس الغساق والغسلين، أي: المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار مسودة فيها دسومات يغاثون بها أو غسالاتهم القذرة أو من جنس الغصص والهموم المحرقة.
|
|