[font=Arial]قال تعالى:
"وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" الأنبياء 87
تفسير الجلالين ـــــــــــــــــــــــ
"وَ" اُذْكُرْ "ذَا النُّون" صَاحِب الْحُوت وَهُوَ يُونُس بْن مَتَّى وَيُبْدَل مِنْهُ "إذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا" لِقَوْمِهِ أَيْ غَضْبَان عَلَيْهِمْ مِمَّا قَاسَى مِنْهُمْ وَلَمْ يُؤْذَن لَهُ فِي ذَلِكَ "فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ" أَيْ نَقْضِي عَلَيْهِ بِمَا قَضَيْنَاهُ مِنْ حَبْسه فِي بَطْن الْحُوت أَوْ نُضَيِّق عَلَيْهِ بِذَلِكَ "فَنَادَى فِي الظُّلُمَات" ظُلْمَة اللَّيْل وَظُلْمَة الْبَحْر وَظُلْمَة بَطْن الْحُوت "أَنْ" أَيْ بِأَنْ "لَا إلَه إلَّا أَنْتَ سُبْحَانك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ" فِي ذَهَابِي مِنْ بَيْن قَوْمِي بِلَا إذْنٍ
تفسير الطبري ـــــــــــــــــــــ
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ
الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { وَذَا النُّون إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّد ذَا النُّون , يَعْنِي صَاحِب النُّون . وَالنُّون : الْحُوت . وَإِنَّمَا عَنَى بِذِي النُّون : يُونُس بْن مَتَّى , وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّته فِي سُورَة يُونُس بِمَا أَغْنَى عَنْ ذِكْره فِي هَذَا الْمَوْضِع , وَقَوْله : { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } يَقُول : حِين ذَهَبَ مُغَاضِبًا . وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى ذَهَابه مُغَاضِبًا , وَعَمَّنْ كَانَ ذَهَابه , وَعَلَى مَنْ كَانَ غَضَبه , فَقَالَ بَعْضهمْ : كَانَ ذَهَابه عَنْ قَوْمه وَإِيَّاهُمْ غَاضِب . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 18698 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : ثَنِي أَبِي , قَالَ : ثني عَمِّي , قَالَ : ثني أَبِي عَنْ أَبِيهِ , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَوْله : { وَذَا النُّون إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } يَقُول : غَضِبَ عَلَى قَوْمه . 18699 - حُدِّثْت عَنْ الْحُسَيْن , قَالَ : سَمِعْت أَبَا مُعَاذ يَقُول : ثنا عُبَيْد , قَالَ : سَمِعْت الضَّحَّاك يَقُول فِي قَوْله : { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } أَمَّا غَضَبه فَكَانَ عَلَى قَوْمه . وَقَالَ آخَرُونَ : ذَهَبَ عَنْ قَوْمه مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ , إِذْ كَشَفَ عَنْهُمْ الْعَذَاب بَعْدَمَا وَعَدَهُمُوهُ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : وَذِكْر سَبَب مُغَاضَبَته رَبّه فِي قَوْلهمْ : 18700 - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق , عَنْ يَزِيد بْن زِيَاد , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَلَمَة , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَالَ : بَعَثَهُ اللَّه - يَعْنِي يُونُس - إِلَى أَهْل قَرْيَته , فَرَدُّوا عَلَيْهِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ وَامْتَنَعُوا مِنْهُ . فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ : إِنِّي مُرْسِل عَلَيْهِمْ الْعَذَاب فِي يَوْم كَذَا وَكَذَا , فَاخْرُجْ مِنْ بَيْن أَظْهُرهمْ ! فَأَعْلَمَ قَوْمه الَّذِي وَعَدَهُ اللَّه مِنْ عَذَابه إِيَّاهُمْ , فَقَالُوا : اُرْمُقُوهُ , فَإِنْ خَرَجَ مِنْ بَيْن أَظْهُركُمْ فَهُوَ وَاَللَّه كَائِن مَا وَعَدَكُمْ . فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَة الَّتِي وُعِدُوا بِالْعَذَابِ فِي صُبْحهَا أَدْلَجَ وَرَآهُ الْقَوْم , فَخَرَجُوا مِنْ الْقَرْيَة إِلَى بَرَاز مِنْ أَرْضهمْ , وَفَرَّقُوا بَيْن كُلّ دَابَّة وَوَلَدهَا , ثُمَّ عَجُّوا إِلَى اللَّه , فَاسْتَقَالُوهُ , فَأَقَالَهُمْ , وَتَنَظَّرَ يُونُس الْخَبَر عَنْ الْقَرْيَة وَأَهْلهَا , حَتَّى مَرَّ بِهِ مَارّ , فَقَالَ : مَا فَعَلَ أَهْل الْقَرْيَة ؟ فَقَالَ : فَعَلُوا أَنَّ نَبِيّهمْ خَرَجَ مِنْ بَيْن أَظْهُرهمْ , عَرَفُوا أَنَّهُ صَدَقَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ الْعَذَاب , فَخَرَجُوا مِنْ قَرْيَتهمْ إِلَى بَرَاز مِنْ الْأَرْض , ثُمَّ فَرَّقُوا بَيْن كُلّ ذَات وَلَد وَوَلَدهَا . وَعَجُّوا إِلَى اللَّه وَتَابُوا إِلَيْهِ . فَقَبِلَ مِنْهُمْ , وَأَخَّرَ عَنْهُمْ الْعَذَاب . قَالَ : فَقَالَ يُونُس عِنْد ذَلِكَ وَغَضِبَ : وَاَللَّه لَا أَرْجِع إِلَيْهِمْ كَذَّابًا أَبَدًا , وَعَدْتهمْ الْعَذَاب فِي يَوْم ثُمَّ رُدَّ عَنْهُمْ ! وَمَضَى عَلَى وَجْهه مُغَاضِبًا . 18701 - حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن جَعْفَر , قَالَ : ثنا عَوْف , عَنْ سَعِيد بْن أَبِي الْحَسَن , قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ يُونُس لَمَّا أَصَابَ الذَّنْب , اِنْطَلَقَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ , وَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَان . 18702 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا بْن أَبِي زَائِدَة , عَنْ مُجَالِد بْن سَعِيد , عَنْ الشَّعْبِيّ , فِي قَوْله : { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } قَالَ : مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ . 18703 - حَدَّثَنَا الْحَارِث , قَالَ : ثَنَا عَبْد الْعَزِيز , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ إِسْمَاعِيل بْن عَبْد الْمَلِك , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر ; فَذَكَرَ نَحْو حَدِيث اِبْن حُمَيْد , عَنْ سَلَمَة , وَزَادَ فِيهِ : قَالَ : فَخَرَجَ يُونُس يَنْظُر الْعَذَاب , فَلَمْ يَرَ شَيْئًا , قَالَ : جَرَّبُوا عَلَيَّ كَذِبًا ! فَذَهَبَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ حَتَّى أَتَى الْبَحْر . 18704 - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق , عَنْ رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَن , عَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه الْيَمَانِيّ , قَالَ : سَمِعْته يَقُول : إِنَّ يُونُس بْن مَتَّى كَانَ عَبْدًا صَالِحًا , وَكَانَ فِي خُلُقه ضِيق . فَلَمَّا حُمِلَتْ عَلَيْهِ أَثْقَال النُّبُوَّة , وَلَهَا أَثْقَال لَا يَحْمِلهَا إِلَّا قَلِيل , تَفَسَّخَ تَحْتهَا تَفَسُّخ الرُّبَع تَحْت الْحِمْل , فَقَذَفَهَا بَيْن يَدَيْهِ , وَخَرَجَ هَارِبًا مِنْهَا . يَقُول اللَّه لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْم مِنْ الرُّسُل } 46 35 { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّك وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوت } 68 48 أَيْ لَا تُلْقِ أَمْرِي كَمَا أَلْقَاهُ . وَهَذَا الْقَوْل , أَعْنِي قَوْل مَنْ قَالَ : ذَهَبَ عَنْ قَوْمه مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ , أَشْبَه بِتَأْوِيلِ الْآيَة , وَذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْله : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } عَلَى ذَلِكَ . عَلَى أَنَّ الَّذِينَ وَجَّهُوا تَأْوِيل ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ , إِنَّمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ اِسْتِنْكَارًا مِنْهُمْ أَنْ يُغَاضِب نَبِيّ مِنْ الْأَنْبِيَاء رَبّه وَاسْتِعْظَامًا لَهُ . وَهُمْ بِقِيلِهِمْ أَنَّهُ ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ قَدْ دَخَلُوا فِي أَمْر أَعْظَم مَا أَنْكَرُوا , وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ اِخْتَلَفُوا فِي سَبَب ذَهَابه كَذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : إِنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ كَرَاهَة أَنْ يَكُون بَيْن قَوْم قَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْخُلْف فِيمَا وَعَدَهُمْ , وَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ , وَلَمْ يَعْلَم السَّبَب الَّذِي دُفِعَ بِهِ عَنْهُمْ الْبَلَاء . وَقَالَ بَعْض مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْل : كَانَ مِنْ أَخْلَاق قَوْمه الَّذِي فَارَقَهُمْ قَتْل مَنْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِب , عَسَى أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ أَجْل أَنَّهُ وَعَدَهُمْ الْعَذَاب , فَلَمْ يَنْزِل بِهِمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَة بِذَلِكَ فِي سُوَره يُونُس , فَكَرِهْنَا إِعَادَته فِي هَذَا الْمَوْضِع . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ إِنَّمَا غَاضَبَ رَبّه مِنْ أَجْل أَنَّهُ أُمِرَ بِالْمَصِيرِ إِلَى قَوْم لِيُنْذِرهُمْ بَأْسه وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ , فَسَأَلَ رَبّه أَنْ يُنْظِرهُ لِيَتَأَهَّب لِلشُّخُوصِ إِلَيْهِمْ , فَقِيلَ لَهُ : الْأَمْر أَسْرَع مِنْ ذَلِكَ ; وَلَمْ يُنْظَر حَتَّى شَاءَ أَنْ يُنْظَر إِلَى أَنْ يَأْخُذ نَعْلًا لِيَلْبَسهَا , فَقِيلَ لَهُ نَحْو الْقَوْل الْأَوَّل . وَكَانَ رَجُلًا فِي خُلُقه ضِيق , فَقَالَ : أَعْجَلَنِي رَبِّي أَنْ آخُذ نَعْلًا فَذَهَبَ مُغَاضِبًا . وَمِمَّنْ ذُكِرَ هَذَا الْقَوْل عَنْهُ : الْحَسَن الْبَصْرِيّ . 18705 - حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن بْن مُوسَى , عَنْ أَبِي هِلَال , عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب , عَنْهُ . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَلَيْسَ فِي وَاحِد مِنْ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَصْف نَبِيّ اللَّه يُونُس صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ شَيْء إِلَّا وَهُوَ دُون مَا وَصَفَهُ بِمَا وَصَفَهُ الَّذِينَ قَالُوا : ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ ; لِأَنَّ ذَهَابه عَنْ قَوْمه مُغَاضِبًا لَهُمْ , وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِالْمَقَامِ بَيْن أَظْهُرهمْ , لِيُبَلِّغهُمْ رِسَالَته وَيُحَذِّرهُمْ بَأْسه وَعُقُوبَته عَلَى تَرْكهمْ الْإِيمَان بِهِ وَالْعَمَل بِطَاعَتِهِ لَا شَكَّ أَنَّ فِيهِ مَا فِيهِ . وَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مَا قَالَهُ الَّذِينَ وَصَفُوهُ بِإِتْيَانِ الْخَطِيئَة , لَمْ يَكُنْ اللَّه تَعَالَى ذِكْره لِيُعَاقِبهُ الْعُقُوبَة الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابه وَيَصِفهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ بِهَا , فَيَقُول لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوت إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُوم } 68 48 وَيَقُول : { فَالْتَقَمَهُ الْحُوت وَهُوَ مُلِيم فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ } . 37 142 : 144 وَقَوْله : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي تَأْوِيله , فَقَالَ بَعْضهمْ : مَعْنَاهُ : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُعَاقِبهُ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ . مِنْ قَوْلهمْ قَدَرْت عَلَى فُلَان : إِذَا ضَيَّقْت عَلَيْهِ , كَمَا قَالَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقه فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّه } . 65 7 ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 18706 - حَدَّثَنِي عَلِيّ , قَالَ : ثنا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : ثَنِي مُعَاوِيَة , عَنْ عَلِيّ , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَوْله : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } يَقُول : ظَنَّ أَنْ لَنْ يَأْخُذهُ الْعَذَاب الَّذِي أَصَابَهُ . 18707 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : ثني أَبِي , قَالَ : ثَنِي عَمِّي , قَالَ : ثني أَبِي , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ اِبْن عَبَّاس : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } يَقُول : ظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِي عَلَيْهِ عُقُوبَة وَلَا بَلَاء فِيمَا صَنَعَ بِقَوْمِهِ فِي غَضَبه إِذْ غَضِبَ عَلَيْهِمْ وَفِرَاره . وَعُقُوبَته أَخْذ النُّون إِيَّاهُ . 18708 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن جَعْفَر , عَنْ شُعْبَة , عَنْ الْحَكَم , عَنْ مُجَاهِد , أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } قَالَ : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُعَاقِبهُ بِذَنْبِهِ . * - حَدَّثَنِي مُوسَى بْن عَبْد الرَّحْمَن الْمَسْرُوقِيّ , قَالَ : ثنا زَيْد بْن حُبَاب , قَالَ : ثَنِي شُعْبَة , عَنْ مُجَاهِد , وَلَمْ يَذْكُر فِيهِ الْحَكَم . 18709 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَوْله : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } قَالَ : يَقُول : ظَنَّ أَنْ لَنْ نُعَاقِبهُ . * - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن ثَوْر , عَنْ مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة وَالْكَلْبِيّ : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } قَالَا : ظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِي عَلَيْهِ الْعُقُوبَة . 18710 - حُدِّثْت عَنْ الْحُسَيْن . قَالَ : سَمِعْت أَبَا مُعَاذ يَقُول : ثنا عُبَيْد , قَالَ : سَمِعْت الضَّحَّاك يَقُول فِي قَوْله : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر } يَقُول : ظَنَّ أَنَّ اللَّه لَنْ يَقْضِي عَلَيْهِ عُقُوبَة وَلَا بَلَاء فِي غَضَبه الَّذِي غَضِبَ عَلَى قَوْمه وَفِرَاقه إِيَّاهُمْ . * - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثَنَا جَرِير , عَنْ مَنْصُور , عَنْ اِبْن عَبَّاس , فِي قَوْله : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } قَالَ : الْبَلَاء الَّذِي أَصَابَهُ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ : فَظَنَّ أَنَّهُ يُعْجِز رَبّه فَلَا يَقْدِر عَلَيْهِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 18711 - حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار , قَالَ : ثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر , قَالَ : ثنا عَوْف , عَنْ سَعِيد بْن أَبِي الْحَسَن , قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ يُونُس لَمَّا أَصَابَ الذَّنْب , اِنْطَلَقَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ , وَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَان , حَتَّى ظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ . قَالَ : وَكَانَ لَهُ سَلَف وَعِبَادَة وَتَسْبِيح . فَأَبَى اللَّه أَنْ يَدْعُهُ لِلشَّيْطَانِ , فَأَخَذَهُ فَقَذَفَهُ فِي بَطْن الْحُوت , فَمَكَثَ فِي بَطْن الْحُوت أَرْبَعِينَ مِنْ بَيْن لَيْلَة وَيَوْم , فَأَمْسَكَ اللَّه نَفْسه , فَلَمْ يَقْتُلهُ هُنَاكَ . فَتَابَ إِلَى رَبّه فِي بَطْن الْحُوت , وَرَاجَعَ نَفْسه . قَالَ : فَقَالَ : { سُبْحَانك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } قَالَ : فَاسْتَخْرَجَهُ اللَّه مِنْ بَطْن الْحُوت بِرَحْمَتِهِ بِمَا كَانَ سَلَفَ مِنْ الْعِبَادَة وَالتَّسْبِيح , فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ . قَالَ عَوْف : وَبَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ فِي دُعَائِهِ : وَبَنَيْت لَك مَسْجِدًا فِي مَكَان لَمْ يَبْنِهِ أَحَد قَبْلِي . 18712 - حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار , قَالَ : ثنا هَوْذَة , قَالَ : ثنا عَوْف , عَنْ الْحَسَن : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } وَكَانَ لَهُ سَلَف مِنْ عِبَادَة وَتَسْبِيح , فَتَدَارَكَهُ اللَّه بِهَا فَلَمْ يَدَعهُ لِلشَّيْطَانِ . 18713 - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق , عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث , عَنْ إِيَاس بْن مُعَاوِيَة الْمَدَنِيّ , أَنَّهُ كَانَ إِذَا ذُكِرَ عِنْده يُونُس , وَقَوْله : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } يَقُول إِيَاس : فَلِمَ فَرَّ ؟ وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ ذَلِكَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَام , وَإِنَّمَا تَأْوِيله : أَفَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ ؟ ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 18714 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } قَالَ : هَذَا اِسْتِفْهَام . وَفِي قَوْله : { فَمَا تُغْنِي النُّذُر } 54 5 قَالَ : اِسْتِفْهَام أَيْضًا . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَال فِي تَأْوِيل ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ , قَوْل مَنْ قَالَ : عَنَى بِهِ : فَظَنَّ يُونُس أَنْ لَنْ نَحْبِسهُ وَنُضَيِّق عَلَيْهِ , عُقُوبَة لَهُ عَلَى مُغَاضَبَته رَبّه . وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْكَلِمَة , لِأَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يُنْسَب إِلَى الْكُفْر وَقَدْ اِخْتَارَهُ لِنُبُوَّتِهِ , وَوَصَفَهُ بِأَنْ ظَنَّ أَنَّ رَبّه يَعْجَز عَمَّا أَرَادَ بِهِ وَلَا يَقْدِر عَلَيْهِ , وَوَصَفَ لَهُ بِأَنَّهُ جَهِلَ قُدْرَة اللَّه , وَذَلِكَ وَصْف لَهُ بِالْكُفْرِ , وَغَيْر جَائِز لِأَحَدٍ وَصْفه بِذَلِكَ . وَأَمَّا مَا قَالَهُ اِبْن زَيْد , فَإِنَّهُ قَوْل لَوْ كَانَ فِي الْكَلَام دَلِيل عَلَى أَنَّهُ اِسْتِفْهَام حَسَن , وَلَكِنَّهُ لَا دَلَالَة فِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ . وَالْعَرَب لَا تَحْذِف مِنْ الْكَلَام شَيْئًا لَهُمْ إِلَيْهِ حَاجَة إِلَّا وَقَدْ أَبْقَتْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مُرَاد فِي الْكَلَام , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْله : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ } دَلَالَة عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ الِاسْتِفْهَام كَمَا قَالَ اِبْن زَيْد , كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ وَإِذْ فَسَدَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ , صَحَّ الثَّالِث وَهُوَ مَا قُلْنَا .
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ
وَقَوْله : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَات } اِخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْمَعْنِيّ بِهَذِهِ الظُّلُمَات , فَقَالَ بَعْضهمْ : عَنَى بِهَا ظُلْمَة اللَّيْل , وَظُلْمَة الْبَحْر , وَظُلْمَة بَطْن الْحُوت . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 18715 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثني حَجَّاج , عَنْ إِسْرَائِيل , عَنْ أَبِي إِسْحَاق , عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَات } قَالَ : ظُلْمَة بَطْن الْحُوت , وَظُلْمَة الْبَحْر , وَظُلْمَة اللَّيْل . وَكَذَلِكَ قَالَ أَيْضًا اِبْن جُرَيْج . 18716 - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثَنَا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق , عَنْ يَزِيد بْن زِيَاد , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَلَمَة , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَالَ : نَادَى فِي الظُّلُمَات : ظُلْمَة اللَّيْل , وَظُلْمَة الْبَحْر , وَظُلْمَة بَطْن الْحُوت { لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } . 18717 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم السُّلَمِيّ , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن رِفَاعَة , قَالَ : سَمِعْت مُحَمَّد بْن كَعْب يَقُول فِي هَذِهِ الْآيَة : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَات } قَالَ : ظُلْمَة اللَّيْل , وَظُلْمَة الْبَحْر , وَظُلْمَة بَطْن الْحُوت . 18718 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَوْله : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَات } قَالَ : ظُلْمَة اللَّيْل , وَظُلْمَة الْبَحْر , وَظُلْمَة بَطْن الْحُوت . * - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن ثَوْر , عَنْ مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَات } قَالَ : ظُلْمَة بَطْن الْحُوت , وَظُلْمَة الْبَحْر , وَظُلْمَة اللَّيْل . وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ نَادَى فِي ظُلْمَة جَوْف حُوت فِي جَوْف حُوت آخَر فِي الْبَحْر . قَالُوا : فَذَلِكَ هُوَ الظُّلُمَات . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 18719 - حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار , قَالَ : ثَنَا عَبْد الرَّحْمَن , قَالَ : ثنا سُفْيَان , عَنْ مَنْصُور , عَنْ سَالِم بْن أَبِي الْجَعْد : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَات } قَالَ : أَوْحَى اللَّه إِلَى الْحُوت أَنْ لَا تَضُرّ لَهُ لَحْمًا وَلَا عَظْمًا . ثُمَّ اِبْتَلَعَ الْحُوت حُوت آخَر , قَالَ : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَات } قَالَ : ظُلْمَة الْحُوت , ثُمَّ حُوت , ثُمَّ ظُلْمَة الْبَحْر . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَال : إِنَّ اللَّه أَخْبَرَ عَنْ يُونُس أَنَّهُ نَادَاهُ فِي الظُّلُمَات : { أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ عَنَى بِإِحْدَى الظُّلُمَات : بَطْن الْحُوت , وَبِالْأُخْرَى : ظُلْمَة الْبَحْر , وَفِي الثَّالِثَة اِخْتِلَاف , وَجَائِز أَنْ تَكُون تِلْكَ الثَّالِثَة ظُلْمَة اللَّيْل , وَجَائِز أَنْ تَكُون كَوْن الْحُوت فِي جَوْف حُوت آخَر . وَلَا دَلِيل يَدُلّ عَلَى أَيّ ذَلِكَ مِنْ أَيّ , فَلَا قَوْل فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ التَّسْلِيم لِظَاهِرِ التَّنْزِيل .
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
وَقَوْله : { لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك } يَقُول : نَادَى يُونُس بِهَذَا الْقَوْل مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ تَائِبًا مِنْ خَطِيئَته { إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } فِي مَعْصِيَتِي إِيَّاكَ . كَمَا : 18720 - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , عَنْ اِبْن إِسْحَاق , عَنْ يَزِيد بْن زِيَاد , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَلَمَة , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَالَ : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَات أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ , تَائِبًا مِنْ خَطِيئَته . 18721 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثَنِي حَجَّاج , قَالَ . أَبُو مَعْشَر : قَالَ مُحَمَّد بْن قَيْس : قَوْله : { لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك } مَا صَنَعْت مِنْ شَيْء فَلَمْ أَعْبُد غَيْرك , { إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } حِين عَصَيْتُك . 18722 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم , قَالَ : ثنا الْحُسَيْن , قَالَ : ثنا جَعْفَر بْن سُلَيْمَان , عَنْ عَوْف الْأَعْرَابِيّ , قَالَ : لَمَّا صَارَ يُونُس فِي بَطْن الْحُوت ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ . ثُمَّ حَرَّكَ رِجْله , فَلَمَّا تَحَرَّكَتْ سَجَدَ مَكَانه , ثُمَّ نَادَى : يَا رَبّ اِتَّخَذْت لَك مَسْجِدًا فِي مَوْضِع مَا اِتَّخَذَهُ أَحَد ! 18723 - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا سَلَمَة , قَالَ : ثني اِبْن إِسْحَاق عَمَّنْ حَدَّثَهُ , عَنْ عَبْد اللَّه بْن رَافِع , مَوْلَى أُمّ سَلَمَة زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَمَّا أَرَادَ اللَّه حَبْس يُونُس فِي بَطْن الْحُوت , أَوْحَى اللَّه إِلَى الْحُوت : أَنْ خُذْهُ وَلَا تَخْدِش لَهُ لَحْمًا وَلَا تَكْسِر عَظْمًا ! فَأَخَذَهُ , ثُمَّ هَوَى بِهِ إِلَى مَسْكَنه مِنْ الْبَحْر ; فَلَمَّا اِنْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَل الْبَحْر , سَمِعَ يُونُس حِسًّا , فَقَالَ فِي نَفْسه : مَا هَذَا ؟ قَالَ : فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْن الْحُوت : إِنَّ هَذَا تَسْبِيح دَوَابّ الْبَحْر , قَالَ : فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْن الْحُوت , فَسَمِعَتْ الْمَلَائِكَة تَسْبِيحه , فَقَالُوا : يَا رَبّنَا إِنَّا نَسْمَع صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَة ؟ قَالَ : ذَاكَ عَبْدِي يُونُس , عَصَانِي فَحَبَسْته فِي بَطْن الْحُوت فِي الْبَحْر . قَالُوا : الْعَبْد الصَّالِح الَّذِي كَانَ يَصْعَد إِلَيْك مِنْهُ فِي كُلّ يَوْم وَلَيْلَة عَمَل صَالِح ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَشَفَعُوا لَهُ عِنْد ذَلِكَ , فَأَمَرَ الْحُوت فَقَذَفَهُ فِي السَّاحِل كَمَا قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَهُوَ سَقِيم " .
تفسير القرطبي ـــــــــــــــــــــــ
وَذَا النُّونِ
أَيْ وَاذْكُرْ " ذَا النُّون " وَهُوَ لَقَب لِيُونُسَ بْن مَتَّى لِابْتِلَاعِ النُّون إِيَّاهُ . وَالنُّون الْحُوت . وَفِي حَدِيث عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى صَبِيًّا مَلِيحًا فَقَالَ : دَسِّمُوا نُونَته كَيْ لَا تُصِيبهُ الْعَيْن . رَوَى ثَعْلَب عَنْ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : النُّونَة النُّقْبَة الَّتِي تَكُون فِي ذَقْن الصَّبِيّ الصَّغِير , وَمَعْنَى دَسِّمُوا سَوِّدُوا .
إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا
قَالَ الْحَسَن وَالشَّعْبِيّ وَسَعِيد بْن جُبَيْر : مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ وَالْقُتَبِيّ وَاسْتَحْسَنَهُ الْمَهْدَوِيّ , وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود . وَقَالَ النَّحَّاس : وَرُبَّمَا أَنْكَرَ هَذَا مَنْ لَا يَعْرِف اللُّغَة وَهُوَ قَوْل صَحِيح . وَالْمَعْنَى : مُغَاضِبًا مِنْ أَجْل رَبّه , كَمَا تَقُول : غَضِبْت لَك أَيْ مِنْ أَجْلك . وَالْمُؤْمِن يَغْضَب لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا عُصِيَ . وَأَكْثَر أَهْل اللُّغَة يَذْهَب إِلَى أَنَّ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ : ( اِشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاء ) مِنْ هَذَا . وَبَالَغَ الْقُتَبِيّ فِي نُصْرَة هَذَا الْقَوْل . وَفِي الْخَبَر فِي وَصْف يُونُس : إِنَّهُ كَانَ ضَيِّق الصَّدْر فَلَمَّا حَمَلَ أَعْبَاء النُّبُوَّة تَفَسَّخَ تَحْتهَا تَفَسُّخ الرُّبُع تَحْت الْحِمْل الثَّقِيل , فَمَضَى عَلَى وَجْهه مُضِيّ الْآبِق النَّادّ . وَهَذِهِ الْمُغَاضَبَة كَانَتْ صَغِيرَة . وَلَمْ يَغْضَب عَلَى اللَّه وَلَكِنْ غَضِبَ لِلَّهِ إِذْ رَفَعَ الْعَذَاب عَنْهُمْ . وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : أَبَقَ مِنْ رَبّه أَيْ مِنْ أَمْر رَبّه حَتَّى أَمَرَهُ بِالْعَوْدِ إِلَيْهِمْ بَعْد رَفْع الْعَذَاب عَنْهُمْ . فَإِنَّهُ كَانَ يَتَوَعَّد قَوْمه بِنُزُولِ الْعَذَاب فِي وَقْت مَعْلُوم , وَخَرَجَ مِنْ عِنْدهمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْت , فَأَظَلَّهُمْ الْعَذَاب فَتَضَرَّعُوا فَرُفِعَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَعْلَم يُونُس بِتَوْبَتِهِمْ ; فَلِذَلِكَ ذَهَبَ مُغَاضِبًا وَكَانَ مِنْ حَقّه أَلَّا يَذْهَب إِلَّا بِإِذْنٍ مُحَدَّد . وَقَالَ الْحَسَن : أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِالْمَسِيرِ إِلَى قَوْمه فَسَأَلَ أَنْ يُنْظَر لِيَتَأَهَّبَ , فَأَعْجَلَهُ اللَّه حَتَّى سَأَلَ أَنْ يَأْخُذ نَعْلًا لِيَلْبَسهَا فَلَمْ يُنْظَر , وَقِيلَ لَهُ : الْأَمْر أَعْجَل مِنْ ذَلِكَ - وَكَانَ فِي خُلُقه ضِيق - فَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ , فَهَذَا قَوْل وَقَوْل النَّحَّاس أَحْسَن مَا قِيلَ فِي تَأْوِيله . أَيْ خَرَجَ مُغَاضِبًا مِنْ أَجْل رَبّه , أَيْ غَضِبَ عَلَى قَوْمه مِنْ أَجْل كُفْرهمْ بِرَبِّهِ . وَقِيلَ : إِنَّهُ غَاضَبَ قَوْمه حِين طَالَ عَلَيْهِ أَمْرهمْ وَتَعَنُّتهمْ فَذَهَبَ فَارًّا بِنَفْسِهِ , وَلَمْ يَصْبِر عَلَى أَذَاهُمْ وَقَدْ كَانَ اللَّه أَمَرَهُ بِمُلَازَمَتِهِمْ وَالدُّعَاء , فَكَانَ ذَنْبه خُرُوجه مِنْ بَيْنهمْ مِنْ غَيْر إِذْن مِنْ اللَّه . رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك , وَأَنَّ يُونُس كَانَ شَابًّا وَلَمْ يَحْمِل أَثْقَال النُّبُوَّة ; وَلِهَذَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوت " [ الْقَلَم : 48 ] . وَعَنْ الضَّحَّاك أَيْضًا خَرَجَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ ; لِأَنَّ قَوْمه لَمَّا لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَهُوَ رَسُول مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَفَرُوا بِهَذَا فَوَجَبَ أَنْ يُغَاضِبَهُمْ , وَعَلَى كُلّ أَحَد أَنْ يُغَاضِب مَنْ عَصَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَقَالَتْ فِرْقَة مِنْهُمْ الْأَخْفَش : إِنَّمَا خَرَجَ مُغَاضِبًا لِلْمَلِكِ الَّذِي كَانَ عَلَى قَوْمه . قَالَ اِبْن عَبَّاس : أَرَادَ شعيا النَّبِيّ وَالْمَلِك الَّذِي كَانَ فِي وَقْته اِسْمه حزقيا أَنْ يَبْعَثُوا يُونُس إِلَى مَلِك نِينَوَى , وَكَانَ غَزَا بَنِي إِسْرَائِيل وَسَبَى الْكَثِير مِنْهُمْ لِيُكَلِّمهُ حَتَّى يُرْسِل مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيل , وَكَانَ الْأَنْبِيَاء فِي ذَلِكَ الزَّمَان يُوحَى إِلَيْهِمْ , وَالْأَمْر وَالسِّيَاسَة إِلَى مَلِك قَدْ اِخْتَارُوهُ , فَيَعْمَل عَلَى وَحْي ذَلِكَ النَّبِيّ , وَكَانَ أَوْحَى اللَّه لشعيا : أَنْ قُلْ لحزقيا الْمَلِك أَنْ يَخْتَار نَبِيًّا قَوِيًّا أَمِينًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فَيَبْعَثهُ إِلَى أَهْل نِينَوَى فَيَأْمُرهُمْ بِالتَّخْلِيَةِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيل فَإِنِّي مُلْقٍ فِي قُلُوب مُلُوكهمْ وَجَبَابِرَتهمْ التَّخْلِيَة عَنْهُمْ . فَقَالَ يُونُس لشعيا : هَلْ أَمَرَك اللَّه بِإِخْرَاجِي ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : فَهَلْ سَمَّانِي لَك ؟ قَالَ : لَا . قَالَ فَهَاهُنَا أَنْبِيَاء أُمَنَاء أَقْوِيَاء . فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِلنَّبِيِّ الْمَلِك وَقَوْمه , فَأَتَى بَحْر الرُّوم وَكَانَ مِنْ قِصَّته مَا كَانَ ; فَابْتُلِيَ بِبَطْنِ الْحُوت لِتَرْكِهِ أَمْر شعيا ; وَلِهَذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَالْتَقَمَهُ الْحُوت وَهُوَ مُلِيم " [ الصَّافَّات : 142 ] وَالْمُلِيم مِنْ فِعْل مَا يُلَام عَلَيْهِ . وَكَانَ مَا فَعَلَهُ إِمَّا صَغِيرَة أَوْ تَرْك الْأَوْلَى . وَقِيلَ : خَرَجَ وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَلَكِنْ أَمَرَهُ مَلِك مِنْ مُلُوك بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يَأْتِي نِينَوَى ; لِيَدْعُوَ أَهْلهَا بِأَمْرِ شعيا فَأَنِفَ أَنْ يَكُون ذَهَابه إِلَيْهِمْ بِأَمْرِ أَحَد غَيْر اللَّه , فَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِلْمَلِكِ ; فَلَمَّا نَجَا مِنْ بَطْن الْحُوت بَعَثَهُ اللَّه إِلَى قَوْمه فَدَعَاهُمْ وَآمَنُوا بِهِ . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَالْأَظْهَر أَنَّ هَذِهِ الْمُغَاضَبَة كَانَتْ بَعْد إِرْسَال اللَّه تَعَالَى إِيَّاهُ , وَبَعْد رَفْع الْعَذَاب عَنْ الْقَوْم بَعْدَمَا أَظَلَّهُمْ ; فَإِنَّهُ كَرِهَ رَفْع الْعَذَاب عَنْهُمْ . قُلْت : هَذَا أَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه فِي " وَالصَّافَّات " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقِيلَ : إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَخْلَاق قَوْمه قَتْل مَنْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِب فَخَشِيَ أَنْ يُقْتَل فَغَضِبَ , وَخَرَجَ فَارًّا عَلَى وَجْهه حَتَّى رَكِبَ فِي سَفِينَة فَسَكَنَتْ وَلَمْ تَجْرِ . فَقَالَ أَهْلهَا : أَفِيكُمْ آبِق ؟ فَقَالَ : أَنَا هُوَ . وَكَانَ مِنْ قِصَّته مَا كَانَ , وَابْتُلِيَ بِبَطْنِ الْحُوت تَمْحِيصًا مِنْ الصَّغِيرَة كَمَا قَالَ فِي أَهْل أُحُد : " حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ " [ آل عِمْرَان : 152 ] إِلَى قَوْله : " وَلِيُمَحِّصَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا " [ آل عِمْرَان : 141 ] فَمَعَاصِي الْأَنْبِيَاء مَغْفُورَة , وَلَكِنْ قَدْ يَجْرِي تَمْحِيص وَيَتَضَمَّن ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ الْمُعَاوَدَة . وَقَوْل رَابِع : إِنَّهُ لَمْ يُغَاضِب رَبّه , وَلَا قَوْمه , وَلَا الْمَلِك , وَأَنَّهُ مِنْ قَوْلهمْ غَضِبَ إِذَا أَنِفَ . وَفَاعِل قَدْ يَكُون مِنْ وَاحِد ; فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ قَوْمه بِالْعَذَابِ وَخَرَجَ عَنْهُمْ تَابُوا وَكُشِفَ عَنْهُمْ الْعَذَاب , فَلَمَّا رَجَعَ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْلِكُوا أَنِفَ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ آبِقًا . وَيُنْشَد هَذَا الْبَيْت : وَأَغْضَب أَنْ تُهْجَى تَمِيم بِدَارِمٍ أَيْ أَنِفَ . وَهَذَا فِيهِ نَظَر ; فَإِنَّهُ يُقَال لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْل : إِنَّ تِلْكَ الْمُغَاضَبَة وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَنَفَة , فَالْأَنَفَة لَا بُدّ أَنْ يُخَالِطهَا الْغَضَب وَذَلِكَ الْغَضَب وَإِنْ دَقَّ عَلَى مَنْ كَانَ ؟ ! وَأَنْتَ تَقُول لَمْ يَغْضَب عَلَى رَبّه وَلَا عَلَى قَوْمه ! .
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ
قِيلَ : مَعْنَاهُ اسْتَنْزَلَهُ إِبْلِيس وَوَقَعَ فِي ظَنّه إِمْكَان أَلَّا يَقْدِر اللَّه عَلَيْهِ بِمُعَاقَبَتِهِ . وَهَذَا قَوْل مَرْدُود مَرْغُوب عَنْهُ ; لِأَنَّهُ كُفْر . رُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر حَكَاهُ عَنْهُ الْمَهْدَوِيّ , وَالثَّعْلَبِيّ عَنْ الْحَسَن . وَذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ وَقَالَ عَطَاء وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَكَثِير مِنْ الْعُلَمَاء مَعْنَاهُ : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّق عَلَيْهِ . قَالَ الْحَسَن : هُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " اللَّه يَبْسُط الرِّزْق لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِر " [ الرَّعْد : 26 ] أَيْ يُضَيِّق . وَقَوْله " وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقه " [ الطَّلَاق : 7 ] . قُلْت : وَهَذَا الْأَشْبَه بِقَوْلِ سَعِيد وَالْحَسَن . وَقَدَرَ وَقُدِرَ وَقَتَرَ وَقُتِرَ بِمَعْنًى , أَيْ ضُيِّقَ وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس فِيمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ وَالْمَهْدَوِيّ . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْقَدْر الَّذِي هُوَ الْقَضَاء وَالْحُكْم ; أَيْ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِي عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ ; قَالَهُ قَتَادَة وَمُجَاهِد وَالْفَرَّاء . مَأْخُوذ مِنْ الْقَدْر وَهُوَ الْحُكْم دُون الْقُدْرَة وَالِاسْتِطَاعَة . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب , أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ " هُوَ مِنْ التَّقْدِير لَيْسَ مِنْ الْقُدْرَة , يُقَال مِنْهُ : قَدَرَ اللَّه لَك الْخَيْر يَقْدِرهُ قَدْرًا , بِمَعْنَى قَدَرَ اللَّه لَك الْخَيْر . وَأَنْشَدَ ثَعْلَب : فَلَيْسَتْ عَشِيَّات اللَّوَى بِرَوَاجِعَ لَنَا أَبَدًا مَا أَوْرَقَ السِّلْم النَّضْر وَلَا عَائِد ذَاكَ الزَّمَان الَّذِي مَضَى تَبَارَكَتْ مَا تَقْدِر يَقَع وَلَك الشُّكْر يَعْنِي مَا تَقْدِرهُ وَتَقْضِي بِهِ يَقَع . وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ الْعُلَمَاء . وَقَرَأَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالزُّهْرِيّ : " فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُقَدِّر عَلَيْهِ " بِضَمِّ النُّون وَتَشْدِيد الدَّال مِنْ التَّقْدِير . وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَة الْمَاوَرْدِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَرَأَ عُبَيْد بْن عُمَيْر وَقَتَادَة وَالْأَعْرَج : " أَنْ لَنْ يُقَدَّر عَلَيْهِ " بِضَمِّ الْيَاء مُشَدَّدًا عَلَى , الْفِعْل الْمَجْهُول . وَقَرَأَ يَعْقُوب وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي إِسْحَاق وَالْحَسَن وَابْن عَبَّاس أَيْضًا " يُقْدَر عَلَيْهِ " بِيَاءٍ مَضْمُومَة وَفَتْح الدَّال مُخَفَّفًا عَلَى الْفِعْل الْمَجْهُول . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا " فَظَنَّ أَنْ لَنْ يَقْدِر عَلَيْهِ " . الْبَاقُونَ " نَقْدِر " بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الدَّال وَكُلّه بِمَعْنَى التَّقْدِير . قُلْت : وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ تَأَوَّلَهُمَا الْعُلَمَاء فِي قَوْل الرَّجُل الَّذِي لَمْ يَعْمَل خَيْرًا قَطُّ لِأَهْلِهِ إِذَا مَاتَ فَحَرَقُوهُ ( فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّه عَلَيَّ ) الْحَدِيث فَعَلَى التَّأْوِيل الْأَوَّل يَكُون تَقْدِيره : وَاَللَّه لَئِنْ ضَيَّقَ اللَّه عَلَيَّ وَبَالَغَ فِي مُحَاسَبَتِي وَجَزَائِي عَلَى ذُنُوبِي لَيَكُونَنَّ ذَلِكَ , ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُحْرَق بِإِفْرَاطِ خَوْفه . وَعَلَى التَّأْوِيل الثَّانِي : أَيْ لَئِنْ كَانَ سَبَقَ فِي قَدَر اللَّه وَقَضَائِهِ أَنْ يُعَذِّب كُلّ ذِي جُرْم عَلَى جُرْمه لَيُعَذِّبَنِّي اللَّه عَلَى إِجْرَامِي وَذُنُوبِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ غَيْرِي . وَحَدِيثه خَرَّجَهُ الْأَئِمَّة فِي الْمُوَطَّأ وَغَيْره . وَالرَّجُل كَانَ مُؤْمِنًا مُوَحِّدًا . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْض طُرُقه ( لَمْ يَعْمَل خَيْرًا إِلَّا التَّوْحِيد ) وَقَدْ قَالَ حِين قَالَ اللَّه تَعَالَى : لِمَ فَعَلْت هَذَا ؟ قَالَ : مِنْ خَشْيَتك يَا رَبّ . وَالْخَشْيَة لَا تَكُون إِلَّا لِمُؤْمِنٍ مُصَدِّق ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّه مِنْ عِبَاده الْعُلَمَاء " . [ فَاطِر : 28 ] . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ مَعْنَى " فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِر عَلَيْهِ " الِاسْتِفْهَام وَتَقْدِيره : أَفَظَنَّ , فَحُذِفَ أَلِف الِاسْتِفْهَام إِيجَازًا ; وَهُوَ قَوْل سُلَيْمَان " أَبُو " الْمُعْتَمِر . وَحَكَى الْقَاضِي مُنْذِر بْن سَعِيد : أَنَّ بَعْضهمْ قَرَأَ " أَفَظَنَّ " بِالْأَلِفِ .
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " فَنَادَى فِي الظُّلُمَات " اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي جَمْع الظُّلُمَات مَا الْمُرَاد بِهِ , فَقَالَتْ فِرْقَة مِنْهُمْ اِبْن عَبَّاس وَقَتَادَة : ظُلْمَة اللَّيْل , وَظُلْمَة الْبَحْر , وَظُلْمَة الْحُوت . وَذَكَرَ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا يُوسُف بْن مُوسَى حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود فِي بَيْت الْمَال قَالَ : لَمَّا اِبْتَلَعَ الْحُوت يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام أَهْوَى بِهِ إِلَى قَرَار الْأَرْض , فَسَمِعَ يُونُس تَسْبِيح الْحَصَى فَنَادَى فِي الظُّلُمَات ظُلُمَات ثَلَاث : ظُلْمَة بَطْن الْحُوت , وَظُلْمَة اللَّيْل , وَظُلْمَة الْبَحْر " أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " " فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيم " [ الصَّافَّات : 145 ] كَهَيْئَةِ الْفَرْخ الْمَمْعُوط الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ رِيش . وَقَالَتْ فِرْقَة مِنْهُمْ سَالِم بْن أَبِي الْجَعْد : ظُلْمَة الْبَحْر , وَظُلْمَة حُوت اِلْتَقَمَ الْحُوت الْأَوَّل . وَيَصِحّ أَنْ يُعَبَّر بِالظُّلُمَاتِ عَنْ جَوْف الْحُوت الْأَوَّل فَقَطْ ; كَمَا قَالَ : " فِي غَيَابَة الْجُبّ " [ يُوسُف : 10 ] وَفِي كُلّ جِهَاته ظُلْمَة فَجَمْعهَا سَائِغ . وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ : أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يُعَبَّر بِالظُّلُمَاتِ عَنْ ظُلْمَة الْخَطِيئَة , و ظُلْمَة الشِّدَّة , وَظُلْمَة الْوَحْدَة . وَرُوِيَ : أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْحَى إِلَى الْحُوت : " لَا تُؤْذِ مِنْهُ شَعْرَة فَإِنِّي جَعَلْت بَطْنك سِجْنه وَلَمْ أَجْعَلهُ طَعَامك " وَرُوِيَ : أَنَّ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام سَجَدَ فِي جَوْف الْحُوت حِين سَمِعَ تَسْبِيح الْحِيتَان فِي قَعْر الْبَحْر . وَذَكَرَ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن يَزِيد الْعَبْدِيّ حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِدْرِيس حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن سُلَيْمَان عَنْ عَوْف عَنْ سَعِيد بْن أَبِي الْحَسَن قَالَ : لَمَّا اِلْتَقَمَ الْحُوت يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَطَوَّلَ رِجْلَيْهِ فَإِذَا هُوَ لَمْ يَمُتْ فَقَامَ إِلَى عَادَته يُصَلِّي فَقَالَ فِي دُعَائِهِ : " وَاِتَّخَذْت لَك مَسْجِدًا حَيْثُ لَمْ يَتَّخِذهُ أَحَد " . وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي : قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُس بْن مَتَّى ) الْمَعْنَى فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ وَأَنَا فِي سِدْرَة الْمُنْتَهَى بِأَقْرَبَ إِلَى اللَّه مِنْهُ , وَهُوَ فِي قَعْر الْبَحْر فِي بَطْن الْحُوت . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْبَارِي سُبْحَانه وَتَعَالَى لَيْسَ فِي جِهَة . وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي " الْبَقَرَة " وَ " الْأَعْرَافِ " . " أَنْ لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " يُرِيد فِيمَا خَالَفَ فِيهِ مِنْ تَرْك مُدَاوَمَة قَوْمه وَالصَّبْر عَلَيْهِمْ وَقِيلَ : فِي الْخُرُوج مِنْ غَيْر أَنْ يُؤْذَن لَهُ . وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ اللَّه عُقُوبَة ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاء لَا يَجُوز أَنْ يُعَاقَبُوا , وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ تَمْحِيصًا . وَقَدْ يُؤَدَّب مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الْعِقَاب كَالصِّبْيَانِ ; ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ . وَقِيلَ : مِنْ الظَّالِمِينَ فِي دُعَائِي عَلَى قَوْمِي بِالْعَذَابِ . وَقَدْ دَعَا نُوح عَلَى قَوْمه فَلَمْ يُؤَاخَذ . وَقَالَ الْوَاسِطِيّ فِي مَعْنَاهُ : نَزَّهَ رَبّه عَنْ الظُّلْم وَأَضَافَ الظُّلْم إِلَى نَفْسه اِعْتِرَافًا وَاسْتِحْقَاقًا . وَمِثْل هَذَا قَوْل آدَم وَحَوَّاء : " رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسنَا " [ الْأَعْرَاف : 23 ] إِذْ كَانَا السَّبَب فِي وَضْعهمَا أَنْفُسهمَا فِي غَيْر الْمَوْضِع الَّذِي أُنْزِلَا فِيهِ .
الثَّانِيَة : رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( دُعَاء ذِي النُّون فِي بَطْن الْحُوت " لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " لَمْ يَدْعُ بِهِ رَجُل مُسْلِم فِي شَيْء قَطُّ إِلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ ) وَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم . وَرَوَاهُ سَعْد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي الْخَبَر : فِي هَذِهِ الْآيَة شَرَطَ اللَّه لِمَنْ دَعَاهُ أَنْ يُجِيبهُ كَمَا أَجَابَهُ وَيُنْجِيه كَمَا أَنْجَاهُ , وَهُوَ قَوْله : " وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ " وَلَيْسَ هَاهُنَا صَرِيح دُعَاء وَهُوَ وَإِنَّمَا هُوَ مَضْمُون قَوْله : " إِنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ " فَاعْتَرَفَ بِالظُّلْمِ فَكَانَ تَلْوِيحًا .
[/font].
_________________ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }الأحزاب33 
|