موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 338 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 19, 20, 21, 22, 23
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء سبتمبر 03, 2024 10:58 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2702

قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ٩٨ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ٩٩يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ١٠٠آل عمران




الخطاب بهذه الآية لتأكيد الحجة عليهم، ومن حيث الحقيقة والقهر يَسُدُّ الحجة عليهم، فهم مدعوون - شرعاً وأمراً، مطرودون - حُكْماً وقهراً.كيف يصد غيره مَنْ هو مصدودٌ في نَفْسِه؟ إنَّ في هذا لَسِرَّا للربوبية.الوحشة ليست بلازمة لأصحابها، بل هي متعدية إلى كل من يحوِّم حول أهلها، فَمَنْ أطاع عدوَّ الله إلى شؤم صحبة (الأعداء) ألقاه في وهدته."لطائف الإشارات للقشيري"
الإشارة: كل من جحد وجود الخصوصية عند أهلها، وصد القاصدين للدخول فيها، استحق هذا العتاب بلا شك ولا ارتياب. والله تعالى أعلم.وكما نهى الله عن طاعة من يرد عن الإيمان، نهى عن طاعة من يصد عن مقام الإحسان، كائناً ما كان، وكيف يرجع عن مقام التحقيق، وقد ظهرت معالم الطريق لمن سبقت له العناية والتوفيق!. قال بعضهم: والله ما رَجَعَ مَنْ رَجَعَ إلا من الطريق، وأما من وصل فلا يرجع أبداً. إذ لا يمكن أن يرجع من عين اليقين إلى علمِ اليقين، أو من اليقين إلى الظن. ومن أراد الثبات على اليقين فليعتصم بحبل الله المتين، وهو صحبة العارفين، فمن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله، { وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [آل عِمرَان: 101].

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء سبتمبر 04, 2024 9:11 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2702

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ١٠١ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ١٠٢ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٠٣ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ١٠٤ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٠٥آل عمران




لا ينبغي لمن أشرقت في قلبه شموسُ العرفان أن يوقع الكفرُ عليه ظِلَّه، فإنه إذا أقبل النهارُ من ها هنا أدبر الليل من ها هنا.
وقوله: { وَمَن يَعْتَصِم } الآية إنما يعتصم بالله مَنَّ وَجَدَ العصمة من الله، فأمَّا مَنْ لم يَهْدِه الله فمتى يعتصم بالله؟ فالهدايةُ منه في البداية توجِبُ اعتصامك في النهاية، لا الاعتصام منك يوجب الهداية.
وحقيقةُ الاعتصام صدق اللُّجوء إليه، ودوامُ الفرار إليه، واستصحاب الاستغاثة إليه. ومَنْ كشف عن سِرِّه غطاء التفرقة تحقق بأنه لا لغير الله ذرة أو منه سينة، فهذا الإنسان يعتصم به ممن يُعْتَصَمُ به؛ قال سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه وعلى آله: { أَعُوذُ بِكَ مِنْ }.
ومَنْ اعتصم بنفسه دون أن يكون محواً عن حوله وقوته في اعتصامه - فالشِرْكُ وطنُه وليس يشعر.قوله جلّ ذكره: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }.
حقُّ التقوى أن يكون على وفق الأمر لا يزيد من قِبَلِ نَفْسِه ولا ينقص.
هذا هو المعتمد من الأقاويل فيه، وأمره على وجهين: على وجه الحَتْم وعلى وجه النَدْب وكذلك القول في النهي على قسمين: تحريم وتنزيه، فيدخل في جملة هذا أن يكون حق تقاته أولاً اجتناب الزلة ثم اجتناب الغفلة ثم التوقي عن كل خلة ثم التنقي من كل عِلَّة، فإذا تَقِيتَ عن شهود تقواك بعد اتصافك بتقواك فقد اتَّقَيْت حقَّ تقواك.
وحق التقوى رفض العصيان ونفي النسيان، وصون العهود، وحفظ الحدود، وشهود الإلهية، والانسلاخ عن أحكام البشرية، والخمود تحت جريان الحكم بعد اجتناب كل جُرْم وظلم، واستشعار الأنفة عن التوسل إليه بشيء من طاعتك دون صرف كرمه، والتحقق بأنه لا يَقْبل أحداً بعِلَّة ولا يَرُدُّ أحداً بعلة.
قوله جلّ ذكره: { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ }.
لا تُصَادِفَنَّكم الوفاة إلا وأنتم بشرط الوفاء.الاعتصامُ بحبله - سبحانه - التمسك بآثار الواسطة - العزيز صلوات الله عليه - وذلك بالتحقق والتعلُّق بالكتاب والسُّنَّة.
ويصح أن يقال: الخواص يُقال لهم { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ }، وخاص الخاص قيل لهم { وَٱعْتَصَمُواْ بِٱللَّهِ }، ولِمَنْ رجع عند سوانحه إلى اختياره واحتياله، أو فكرته واستدلاله، أو معارفه وأشكاله، والتجأ إلى ظل تدبيره، واستضاء بنور عقله وتفكيره - فمرفوع عنه ظل العناية، وموكول إلى سوء حاله.
وقوله: { وَلاَ تَفَرَّقُواْ }: التفرقة أشد العقوبات وهي قرينة الشِرْك.
وقوله: { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً }. وكانوا أعداء حين كانوا قائمين بحظوظهم، مُعَرِّجِين على ضيق البشرية، متزاحمين بمقتضى شُحِّ النفوس.
{ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ }: بالخلاص من أسْرِ المكونات، ودَفَعَ الأخطار عن أسرارهم، فصار مقصودُهم جميعاً واحداً؛ فلو ألَّفَ ألْفَ شخص في طلبٍ واحدٍ - فهم في الحقيقة واحد.
{ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } نعمته التي هي عصمته إياكم، إخواناً مُتَّفقِي القصدَ والهمة، متفانين عن حظوظ النَّفْس وخفايا البخل والشحُّ.
{ وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ }: بكونكم تحت أسْرِ مُنَاكم، ورباط حظوظكم وهواكم.
{ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا }: بنور الرضاء، والخمود عند جريان القضاء، وتلك حقاً هي المكانة العُظمى والدرجة الكبرى، ويدخل في هذه الجملة تَرْكُ السكون إلى ما مِنْك من المناقب والتُّقى، والعقل والحجا، والتحصيل والنُّهى، والفرار إلى الله - عزَّ وجلَّ - عن كل غَيْر وسوى.هذه إشارة إلى أقوامٍ قاموا بالله لله، لا تأخذهم لومة لائم، ولا تقطعهم عن الله استنامة إلى علة، وقفوا جملتهم على دلالات أمره، وقصَرُوا أنفاسَهم واستغرقوا أعمارَهم على تحصيل رضاه، عملوا لله، ونصحوا الدين لله، ودَعَوْا خَلْقَ الله إلى الله، فَرَبِحَتْ تجارتُهم، وما خَسِرتْ صفقتهم.هؤلاء أقوام أظهر عليهم في الابتداء رقومَ الطلب، ثم وسمهم في الانتهاء بِكَيِّ الفُرقة، فباتوا في شق الأحباب، وأصبحوا في زمرة الأجانب."لطائف الإشارات للقشيري"
خاطب أهل الإحسان فقال: { يا أيها الذين آمنوا اقتوا الله حق تقاته } بأن تغيبوا عما سواه، ولا تموتن إلا وأنتم منقادون لأحكام الربوبية، قائمون بوظائف العبودية. فهذه الآية خطاب لأهل الإحسان، و { فَاْتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16]: خطاب لأهل افسلام والإيمان، أو هذه لأهل التجريد، والثانية لأهل الأسباب، أو لأهل الباطن، والثانية لأهل الظاهر، فلكل آية أهل ومحل، فلا نسخ ولا تعارض. وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: من أراد الجمع بين الآيتين فليتق الله حق تقاته بباطنه، وليتق الله ما استطاع بظاهره. هـ. وبالله التوفيق.المذاهب كلها وقع فيها الاختلاف والتفرق في الأصول والفروع، إلا مذاهب الصوفية فكلها متفقة بداية ونهاية، إذ بدايتهم مجاهدة، ونهايتهم مشاهدة، وإلى ذلك أشار في المباحث، حث قال:
مذاهبُ الناسِ على اخْتلاف ومَذْهَبُ القَوْمِ على ائْتِلاَف

وإن وقع الاختلاف في بعض الطرق الموصلة إلى المقصود، فقد اتفقت في النهاية، بخلاف أهل الظاهر، لا تجدهم يتفقون إلا في مسائل قليلة، لأن مذهبهم مبني على غلبة الظن، ومذهب القوم مبني على التحقيق ذوقاً وكشفاً، وكذلك ائتلفت أيضاً قلوبهم وأرواحهم، إذ كلهم متخلقون بالشفقة والرأفة والمودة والألفة والصفا؛ لأنهم دخلوا الجنة - أعني جنة المعارف - فتخلقوا بأخلاق أهل الجنة، قال تعالى: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [الحِجر: 47]، فيقال لهم بعد الفتح: واذكروا نعمة الله عليكم، إذ كنتم أعداء قبل اتصالكم بالطبيب، فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته أخواناً متحابين، وكنتم على شفا حفرة من نار القطيعة والحجاب { فأنقذكم منها }. مثل هذا البيان يوضح الله آياته، أي: تجلياته، لعلكم تهتدون إلى مشاهدة ذاته في أنوار صفاته. والله تعالى أعلم.{ ولتكن منكم أمة } أي: طائفة ينهض حالهم ويدلُّ على الله مقالهم، يدعون إلى الخير العظيم، وهو شهود ذات السميع العليم، ويأمرون بالمعروف بالهمة العلية، وينهون عن المنكر بالحال القوية، فكلُّ من رآهم بالصفا ائتمر وانتهى، وكل من صحبهم بالوفاء أخذ حظه من الغنى بالمكيال الأوفى، إن لله رجالاً من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، فهؤلاء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالحال دون المقال.
يُحكى أن بعض الشيوخ مرَّ مع أصحابه بقوم يشربون الخمر تحت شجرة فأراد أصحابه أن يُغيروا عليهم، فقال لهم: إن كنتم رجالاً فَغِيرُوا عليهم بحالكم دون مقالكم، فتوجهوا إلى الله بهممهم، فإذا القوم قد كسروا الأواني، وجاءوا إلى الشيخ تائبين. وكذلك قضية معروف الكرخي مع أصحاب السفينة، الذي كانوا مشتغلين باللهو واللعب، فقال له أصحابه: ادع عليهم، فقال: اللهم كما فرَّحتَهم في الدنيا ففرِّحْهُم في الآخرة، فتابوا على يده جميعاً. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة سبتمبر 06, 2024 8:26 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2702

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ١٠٦ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١٠٧ تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ١٠٨ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ ١٠٩كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ١١٠ -آل عمران



أرباب الدَّعاوَى تسودُّ وجوههم، وأصحابَ المعاني تبيض وجوههم، وأهل الكشوفات غداً تبيضُّ بالإشراق وجوهُهُم، وأصحاب الحجاب تسودُّ بالحجبة وجوهُهُم، فتعلوها غَبَرة، وترهقها قَتَرَة.
ويقال مَنْ ابيض - اليومَ - قلبُه ابيضَّ - غداً - وجهُه، ومَنْ كان بالضد فحاله العكس.
ويقال مَنْ أعرض عن الخلق - عند سوانحه - ابيضَّ وجهه بروح التفويض، ومَنْ علَّق بالأغيار قلبَه عند الحوائج اسودّ محيَّاه بغبار الطمع؛ فأمّا الذين ابيضت وجوههم ففي أُنُسٍ وروح، وأمّا الذين اسودّت وجوههم ففي محن ونَوْح.نُدِيمُ مخاطبتنا معك على دوام الأوقات في كل قليل وكثير، عمارة لسبيل الوداد: { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } وأنَّى يجوز الظلم في وصفه تقديراً ووجوداً - والخلق كلُّهم خَلْقُه - والحكمُ عليهم حُكْمُه؟
{ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } حُكماً.قوله جلّ ذكره: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ }.
لمّا كان المصطفى صلوات الله عليه أشرفَ الأنبياء كانت أُمَّتُه - عليه السلام - خيرَ الأمم. ولمَّا كانوا خيرَ الأمم كانوا أشرفَ الأمم، ولمَّا كانوا أشرف الأمم كانوا أشْوَقَ الأمم، فلمَّا كانوا أشوق الأمم كانت أعمارُهم أقْصَرَ الأعمار، وخَلقَهم آخِرَ الخلائق لئلا يطولَ مُكْثُهم تحت الأرض. وما حصلت خيريتُهم بكثرة صلواتهم وعبادتهم، ولكن بزيادة إقبالهم، وتخصيصه إياهم. ولقد طال وقوف المتقدمين بالباب ولكن لما خرج الإذنُ بالدخول تقدَّم المتأخرون:
وكم باسطين إلى وَصْلِنا أكُفَّهُم لم ينالوا نصيبا

قوله جلّ ذكره: { تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ }.
المعروف خدمة الحق، والمنكر صحبة النفس.
المعروف إيثار حقِّ الحق، والمنكر اختيار حظ النفس.
المعروف ما يُزْلِفُك إليه، والمنكر ما يحجبك عنه.
وشرط الآمر بالمعروف أن يكون متصفاً بالمعروف، وحقُّ النَّاهي عن المنكر أن يكون منصرفاً عن المنكر.
{ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }.
لو دَخَلَ الكافةُ تحت أمرنا لوصلوا إلى حقيقة العزِّ في الدنيا والعقبى، ولكن بَعُدُوا عن القبول في سابق الاختيار فصار أكثرُهم موسوماً بالشِّرْك."لطائف الإشارات للقشيري"
الإشارة: قد نهى الله - تعالى - أهل الجمع عن التشبه بأهل الفرق، في اختلاف قلوبهم ووجوههم وآرائهم وأنظارهم، من بعد ما جاءتهم الدلائل الواضحات على طلب جمع القلب على الله، والتودد في الله، وصرف النظرة في شهود الله، وأولئك المفترقون لهم عذاب عظيم، وأيّ عذاب أعظم من الحجاب؟ يوم تبيض وجوه العارفين، فتكون كالشمس الضاحية، يسرحون في الجنان حيث شاءوا، وتسود وجوه الجاهلين؛ لما يعتريها من الندم، وسوادها باعتبار وجوه العارفين في النقص عنها، وإن كانت مُبْيَضَّةً بنور الإيمان، لكن فاتهم نور الإحسان، فيقال: أكفرتم بالخصوصية في زمانكم، بعد إيمانكم بها فيمن سلف قبلكم؟ فذوقوا عذاب القطيعة عن شهود الحبيب في كل حين، وأما الذين ابيضت وجوههم وأشرقت بنور البقاء، ففي رحمة الله، أي: جنة المعارف { فِى مَقْعَدٍ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } [القَمَر: 55]، فقد اتضحت الطريق، وظهرت أعلام التحقيق، لكن الهداية بيد الله، كما أنَّ الأمور كلها بيده، يهدي مَن يشاء ويضل من يشاء، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَمٍ لِّلْعَبِيدِ } [فُصّلَت: 46]. وبالله التوفيق."البحر المديد لابن عجيبة الحسيني"

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس نوفمبر 14, 2024 11:13 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2702

لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ١١١ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ١١٢ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ١١٣ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ ١١٤ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ ١١٥ -آل عمران




إن الحق سبحانه وتعالى لا يسلط على أوليائه إلا بمقدار ما يصدق إلى الله فرارهم، فإذا حق فرارهم أكرم لديه قرارهم، وإن استطالوا على الأولياء بموجب حسبانهم انعكس الحال عليهم بالصغار والهوان.علَمُ الهجران لا ينكتم، وسِمَةُ البُعْد لا تَخْفَى، ودليل القطيعة لا يستتر؛ فهم في صغار الطرد، وذُلِّ الرد، يعتبر بهم أولو الأبصار، ويغترُّ بهم أضرابُهم من الكفار الفُجَّار.كما غَايَرَ بين النور والظلام مغايرة تضاد فكذلك تضاد فكذلك أثبت منافاة بين أحوال الأولياء وأحوال الأعداء، ومتى يستوي الضياء والظلمة، واليقين والتُّهمة، والوصلة والفرقة، والبعاد والألفة، والمعتكف على البِساط والمنصرف عن الباب، والمتصف بالولاء والمنحرف عن الوفاء؟ هيهات يلتقيان! فكيف يتفقان أو يستويان؟!لن يخيبَ عن بابه قاصد، ولم يخسر عليه (تاجر)، ولم يستوحش معه مصاحب، ولم يَذِلّ له طالب."لطائف الإشارات للقشيري"
- الإشارة: ولو آمن أهل الظاهر بطريق الخصوص، وحطو رؤوسهم لأهل الخصوصية لكان خيراً لهم، للتسع عليهم دائرة العلوم، وتفتح لهم مخازن الفهوم، منهم من يقر بوجود الخصوصية، ويعجز عن حمل شروطها، وأكثرهم ينكرونها ويحتجون لأنفسهم بقول من قال: انقطعت التربية في القرن الثامن، فيموتون مصرين على الإنكار والعصيان، فلن يضركم إنكارهم أيها الفقراء، فإنهم لا قدرة لهم عليكم، للرعاية التي أحاطت بكم، إلا أذى بلسانهم، وعلى تقدير لحوق ضررهم في الظاهر، فإن الله يُغيِّبْ ألمّ ذلك عنكم في الباطن، كما شاهدناه من بعض الفقراء، وإن يُهددوكم بالقتل والجلاء، فإن الله لا يَنْصُرُهم في الغالب.
قلت: وقد هددونا بالضرب والرفع إلى السلطان والجلاء إلى برِّ النصارى، فلم يقدروا على شيء من ذلك، وقد وقع ذلك لبعض الصوفية زيادةً في شرفهم وعزّهم، فالمنكر على الصوفية لا يزال في هَمٍّ وغمٍّ وذُلٍّ ومسكنة، لخراب باطنه من نور اليقين. فإنَّ الانتقاد على الأولياء جناية واعتقادهم عناية، فإن استمر على أذاهم كان عاقبته سوء الخاتمة، فيبوء بغضب من الله سبب اعتدائه على أولياء الله، "ومن آذى لي وليّاً فقد أذتني بالحرب" . رزقنا الله الأدب معهم، وأماتنا على محبتهم، آمين.ليس أهل العلم سواء، بل منهم من جعله شبكةً يصطاد به الدنيا، يبيع دينه بعرض قليل، وهم علماء السوء وقضاة الجور، ومنهم من قرأه لله وعلَّمه لله، فأفنى عُمره في تعليمه وتقييده، ومنهم من صرف همته إلى جمعه وتأليفه، ومنهم من صرف همته إلى العمل به فالتحق بالعباد والزُّهاد، { يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } ومنهم من حرره وحققه، ثم توجه إلى علم الباطن وصحب العارفين، فكان من المقربين، فهؤلاء كلهم { يسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين }، فيقال لهم: { وما يفعلوا من خير فلن يُكفره والله عليم بالمتقين }."البحر المديد لابن عجيبة الحسيني"

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة نوفمبر 15, 2024 10:21 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2702

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ١١٦مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ١١٧يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ١١٨ هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ١١٩ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ١٢٠ -آل عمران





لا في الحال لهم بدل ولا في المآل عنهم خلف. في عاجلهم خَسِروا، وفي آجلهم في قطعٍ وهجْرٍ، وبلاءٍ وخُسْرٍ، وعذابٍ ونُكْر:
تبَدَّلَتْ وتبدلنا واحسرةً لمن ابتغى عِوَضاً لسلمى فلم يَجدَما وجدوا ميراث ما بذلوا لغير الله إلا حسراتٍ متتابعة، وما حصلوا من حسباناتهم إلا على محن مترادفة، وذلك جزاء من أعرض وتولّى.الركون إلى الضد - بعد تبين المشاق - إعانة على الحال بما لا يبلغه كيد العدو، فأشار الحقُّ - سبحانه - على المسلمين بالتحرز عن الاعتراض، وإظهار البراءة عن كل غير، ودوام الخلوص للحق - سبحانه - بالقلب والسر. وأخبر أن مضادات القوم للرسول صلى الله عليه وسلم أصلية غير طارئة عليهم، وكيف لا؟ وهو صلوات الله عليه محلُّ الإقبال وهم محل الإعراض. ومتى يجتمع الليلُ والنهار؟!قوله جلّ ذكره: { هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ }.
أنتم بقضية كرمكم تصفو - عن الكدورات - قلوبُكم؛ فتغلبكم الشفقة عليهم، وهم - لعتوِّهم وخُلْفِهم - يكيدون لكم ما استطاعوا، ولفرط وحشتهم لا تترشح منهم إلا قطرات غيظهم. فَفَرِّغْ - يا محمد - قلبك منهم.
{ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }.
دَعْهُمْ يتفردوا بمقاساة ما تداخلهم من الغيظ، واستريحوا بقلوبكم عمَّا يَحِلُّ بهم، فإن الله أولى بعباده؛ يوصل إلى مَنْ يشاء ما يشاء.المنصرفين عن طريق الإرادة، الراجعين إلى أحوال أهل العادة؛ لا يعجبهم أن يكون لمريد نفاذ، وإذا رأوا فترةً لقاصِد استراحوا إلى ذلك. وإنَّ الله - بفضله ومِنَّته - يُتِمُّ نورَه على أهل عنايته، ويَذَرُ الظالمين الزائغين عن سبيله في عقوبة بعادهم، لا يبالي بما يستقبلهم."لطائف الإشارات للقشيري"
-الإشارة: إن الذين كفروا بالخصوصية عند أهل زمانهم، وفاتهم اقتباس أنوارهم، لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا علومهم مما فاتهم من معرفة الله شيئاً، ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَ الله؟ وماذا فقد من وجد الله؟! قال الشاعر:
لِكُلِّ شيء إذا فارقته عِوَضٌ وليسَ للّهِ إنْ فارقت مِنْ عِوَضِ

ولا طريق لمعرفة الحق المعرفة الخاصة - أعني معرفة العيان - إلا صحبة أهل الشهود والعيان، فكلُّ من أنكرهم كان غايته الحرمان، ولزمته البطالة والخذلان، وجَرَّب، ففي التجريب علم الحقائق، ومن حُرم صحبتهم لا ينفك عن نار القطيعة وعذاب الحجاب، وعنت الحرص والتعب، عائذاً بالله من ذلك.كل من لم يحقق مقام الإخلاص، ولم يصحب أهل التخليص والاختصاص، لا تنفك أعماله من علل، ولا أحواله من دخل، فأعماله فارغة خفيفة، أقل ريح تقلعها وتسقطها عن درجة الاعتبار، وما زالت العامة تقول: الصحيح يصح، والخاوي يدريه الريح. وبالله التوفيق.لا ينبغي لأهل الخصوصية أن يتخذوا بطانة من دونهم من العامة حتى يطلعوهم على سرهم، فإن الإطلاع على السر، ولو كان غير الخصوصية، كله ضعف في العقل ووهن في الرأي، وفي ذلك يقول القائل:
من أطْلَعَ الناسَ على سره استحقَّ الكيَّ على جَبْهَتِه

وأما سر الربوبية فإفشاؤه لغير أهله حرام، والعامة مضادون لأهل الخصوصية، لا يألونهم خبالاً في قلوبهم وتشتيتاً لفكرتهم، إذا صحبوهم يودون أن لو كانوا مثلهم في العنت وتعب الأسباب، فإذا ظهر بالفقراء نقص أو خلل ظهرت البغضاء من أفواههم، وما تحفى صدورهم أكبر، فإن كنتم أيها الفقراء تحبون لهم الخير فإنهم بعكس ذلك، وإن كنتم تقرون شريعتهم فإنهم لا يؤمنون بحقيقتكم، بل ينكرونها عليكم، ومنهم من يتصف بالنفاق، إذا لقي أهل الخصوصية أظهر التصديق والمحبة، وإذا خلا مع العامة أظهر العداوة والحَنَق، وإن تمسسكم أيها الفقراء حسنة، كعز وفتح وشهود ومعرفة تَسؤْهم، وإن تصبكم سيئة؛ كمحنة أو بلية، يفرحوا بها، وإن تصبروا على أذاهم وجفوتهم، وتتقوا شهود السوى فيهم، لا يضركم كيدهم شيئاً؛ { إن الله بما يعملون محيط }."البحر المديد لابن عجيبة الحسيني"

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء نوفمبر 19, 2024 11:47 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2702

إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَٱللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ١٢٢ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٢٣ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ ١٢٤بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ
١٢٥ال عمران




أقامَه - صلى الله عليه وسلم - بتبوئه الأماكن للقتال، فانْتُدِب لذلك بأمره ثم أظهر في ذلك الباب مكنونات سِرِّه، فالمدار على قضائه وَقَدَرِه، والاعتبار بإجرائه واختياره.يُبْرِزُ الجميعَ في صدار الاختيار؛ كأنَّ الأمر إليهم في نفيهم وإتيانهم، وفعلهم وتركهم، وفي الحقيقة لا يتقلبون إلا بتصريف القبضة، وتقليب القدرة.تذكير ما سَلَفَ من الإنْعَام فتحٌ لباب التملق في اقتضاء أمثاله في المُسْتَأنَف.كان تسكينُ الحقِّ سبحانه لقلبِ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة من الله - سبحانه، والربطُ على قلوب المؤمنين بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم - فلولا بقية بقيت عليهم ما ردَّهم في حديث النصرة إلى إنزال المَلَك، وأنَّى بحديث المَلَك - والأمرُ كلُّه بِيَدِ المَلِك؟!"لطائف الإشارات للقشيري"
الإشارة: من شأن شيوخ التربية أن يَدُلُّوا المريدين على محاربة النفوس ومقاتلتها، ويطلعوهم على دسائسها ومخادعتها، ليهيئوا لهم بذلك مقاعد لقتالها، والله مطلع على إخلاصهم ونياتهم، فمنهم من يمل ويكل، فيرجع إلى وطن عوائده، ومنهم من يصبر حتى يفوز بالغنيمة العظمى والسعادة القصوى، وفي ذلك يقول القائل:
وبَالَغَوا في الجدِّ حتى مَلَّ أكثرهُم وعَانَقَ المجْدَ مَنْ وَافَى ومَنْ صَبَرَا

قال بعضهم: انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا. هـ. ومنهم من يلحقه الملل والفشل فيهم بالانصراف والرجوع، ثم يثبته الله تعالى وينصره، فيلحق بالصابرين السابقين، وعمدة المريد في مجاهدة نفسه: التوكل على الله والاعتماد عليه دون شيء سواه؛ "من علامة النجح في النهايات: الرجوع إلى الله في البدايات". { وعلى الله فليتوكل المؤمنون }.جعل الله سبحانه وتعالى الأِياء كامنة في أضدادها، فمن أراد العز والنصر فليتحقق بالذل والمسكنة، ومن أراد الغنى فليتحقق بالفقر، ومن أراد الرفعة فليتحقق بالضعة وإسقاط المنزلة، ومن أراد القوة فليتحقق فالضعف، وهكذا: { تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه }. فاتقوا الله يا معشر المريدين، واطلبوا الأشياء في أضدادها لتظفروا بها، واشكروا الله على ما أولاكم يزدكم من فضله ونواله.كل من توجَّه لجهاد نفسه في الله، واشتغل بذكر مولاه، أمده الله في الباطن بالأنوار والأسرار، وفي الظاهر بالملائكة الأبرار، وقد شوهد ذلك في الفقراء أصحابنا، إذا كانوا ثلاثة رآهم العامة ثلاثين، وإذاكانوا ثلاثين رأوهم ثلاثمائة، وقد كنا في سَفْره سبعين، فرأونا سبعمائة على ما أخبرونا به، { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } [آل عِمرَان: 13].

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء نوفمبر 26, 2024 9:45 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2702

وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ ١٢٦ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ ١٢٧ لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ١٢٨ وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ١٢٩يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ أَضْعَٰفاً مُّضَٰعَفَةً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ١٣٠ -آل عمران



أجرى الله - سبحانه - سُنَّتَه مع أوليائه أنه إذا ضعفت نِيَّاتُهم، أو تناقصت إرادتهم أو أشْرفت قلوبهم على بعض فترة - أراهم من الألطاف، وفنون الكرامات ما يُقَوِّي به أسباب عِرْفانهم، وتتأكد به حقائق يقينهم.
فعلى هذه السُّنَّة أنزل هذا الخطاب. ثم قطع قلوبهم وأسرارهم عن الأغيار بالكلية فقال: { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ }.إنَّ الله لا يُشْمِتُ بأوليائه عدواً؛ فالمؤمن وإن أصابته نكبة، فعدوُّه لا محالة يكبه الله في الفتنة والعقوبة.الإله من له الأمر والنهي، فلمَّا لم يكن له في الإلهية نظير لم يكن له - (صلى الله عليه وسلم) - من الأمر والنهي شيء.
ويقال جرَّده - بما عرَّفه وخاطبه - عن كلِّ غيرٍ ونصيب ودعوى، حيث أخبر أنه ليس له من الأمر شيء، فإذا لم يَجُزْ أن يكون لسيِّد الأولين والآخرين شيء من الأمر فَمَنْ نزلت رتبتُه عن منزلته فمتى يكون له شيء من الأمر؟
ويقال استأثر (بِسَتْرِ عباده في حكمه) فقال أنا الذي أتوب على من أشاء من عبادي وأعذِّب من أشاء، والعواقب عليك مستورة، وإنك - يا محمد - لا تدري سرى فيهم.
ويقال أقامه في وقتٍ مقاماً فقالت: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال: 17] رمى بقبضة من التراب فأصاب جميع الوجوه، وقال له في وقت آخر: { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ } ثم زاد في البيان فقال: { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }. فإذا كان المُلْك ملكه، والأمر أمره، والحكم حكمه - فَمَنْ شاء عذَّبه، ومن شاء قرَّبه، ومن شاء هداه، ومن شاء أغواه.حرَّم الربا على العِباد ومنه إقراض الواحد باثنين تستردهما، وسأل منك القرض الواحد بسبعمائة إلى ما لا نهاية له، والإشارة فيه أن الكرم لا يليق بالخَلْق وإنما هو صفة الحق سبحانه.
{ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }: دليل الخطاب أنَّ المؤمن لا يُعذِّبُ بها، وإن عُذِّب بها مُدَّةٌ فلا يُخَلَّدُ فيها."لطائف الإشارات للقشيري"
الإشارة: وما جعل الله التأييد الذي ينزله على أهل التجريد، حين يقابلهم بالابتلاء والتشديد، إذا أراد أن يوصلهم لصفاء التوحيد، إلا بشارة لفتحهم، ولتطمئن بمعرفته قلوبهم، فإن الامتكان على قدر الامتحان، وكل محنة تزيد مكنة، وهذه سنة الله في أوليائه، يسلط عليهم الخلق في بدايتهم، ويشدد عليهم ابلاء، حتى إذا طهروا من البقايا، وكملت فيهم المزايا، كف عنهم الأذى، وانقلب الجلال جمالاً، وذلك اعتناء بهم، ونصراً لهم على أنفسهم، فإن النصر كله { من عند الله العزيز الحكيم }. وذلك ليقطع عنهم طرفاً من الشواغل والعلائق، التي تقبضهم عن العروج إلى سماء الحقائق، فإن الروح إذا رقدت في ظل العز والجاه صعب خروجها من هذا العالم، فإذا ضيق عليها، وعكس مرادها، رحلت إلى عالم الملكوت، والأمر كله بيد الله. ليس لك أيها الفقير من الأمر شيء، إنما أنت مأمور بتحريك الأسباب والله يفتح الباب. ليس لك أيها الشيخ من الأمر شيء، إنما أنت مذكر، وعلى الله البلاغ، فلا تأس على ما فاتك، ولا تفرح بما آتاك، فملكوت السماوات والأرض بيد الله، { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم }.
قال القشيري: جرَّده - أي: نبيه صلى الله عليه وسلم لما به عرفه عن كُلِّ غيْرٍ وسبب، حيث أخبره أنه ليس له من الأمر شيء، ثم قال: ويقال: أقامه في وقتٍ مقاماً؛ رمى بقبضة من التراب، فأصابت جميع الوجوه، وقال: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَ اللَّهَ رَمَى } [الأنفال: 17]، وقال في وقت آخر: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ } [آل عِمرَان: 128]. هـ.
يشير إلى أنهما مقامان: نيابة عن الله بالله، ونيابة الله عن عبده، والأول بقاء، والثاني فناء، قاله المحشي. قتل: الأول في مقام البسط، والثاني في مقام القبض، فقد قالوا: إذا بسط فلا فاقة، وإذا قبض فلا طاعة. والله تعالى أعلم.

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين ديسمبر 02, 2024 10:53 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2702

وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ١٣١ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٣٢ وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ١٣٣ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ١٣٤وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ١٣٥




حرَّم الربا على العِباد ومنه إقراض الواحد باثنين تستردهما، وسأل منك القرض الواحد بسبعمائة إلى ما لا نهاية له، والإشارة فيه أن الكرم لا يليق بالخَلْق وإنما هو صفة الحق سبحانه.
{ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }: دليل الخطاب أنَّ المؤمن لا يُعذِّبُ بها، وإن عُذِّب بها مُدَّةٌ فلا يُخَلَّدُ فيها.قَرَنَ طاعة الرسول صلوات الله عليه بطاعة نفسه تشريفاً لِقَدْرِه، وتخفيفاً على الأمة حيث ردَّهم إلى صحبة شخص من أنفسهم، فإنَّ الجنسَ إلى الجنسِ أسكنُ.معناه سارعوا إلى علمٍ يوجب لكم المغفرة، فتقسمت القلوب وتوهمت أن ذلك أمرٌ شديد فقال صلى الله عليه وسلم: "الندم توبة" وإنما توجب المغفرةَ التوبةُ لأن العاصي هو الذي يحتاج إلى الغفران.
والناس في المسارعة على أقسام: فالعابدون يسارعون بقَدَمِهم في الطاعات، والعارفون يسارعون بهممهم في القربات، والعاصون يسارعون بندمهم بتجرُّع الحسرات. فَمَنْ سارع بِقَدَمِه وجد مثوبته، ومن سارع بهممه وجد قربته، ومن سارع بندمه وجد رحمته.
ولمَّا ذكر الجنة وصفها بسعة العرض، وفيه تنبيه على طولها لأن الطول في مقابلة العَرْض، وحين ذكر المغفرة لم يذكر الطول والعرض، فقومٌ قالوا: المغفرة من صفات الذات وهي بمعنى الرحمة فعلى هذا فمغفرته حُكْمُه بالتجاوز عن العبد وهو كلامه، وصفة الذات تتقدس عن الطول والعرض.
ومن قال: مغفرته من صفات فِعْلِه قال لكثرة الذنوب لم يصف الغفران بالنهاية، إشارةً إلى استغراقه جميع الذنوب.
قوله جلّ ذكره: { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ }.
لا يدَّخِرون عن الله شيئاً، ويؤثِرونه على جميع الأشياء، ينفقون أبدانهم على الطاعات وفنون الأوراد والاجتهاد، وأموالهم في إفشاء الخيرات وابتغاء القربات بوجوه الصدقات، وقلوبهم في الطلب ثم دوام المراعاة، وأرواحهم على صفاء المحبَّات والوفاء على عموم الحالات، وينفقون أسرارهم على المشاهدات في جميع الأوقات؛ ينتظرون إشارات المطالبات، متشمرين للبدار إلى دقيق المطالعات.
قوله: { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ }: يتجاوزون عن الخَلْق لملاحظاتهم إياهم بعين النسبة، وأقوام يَحْلُمون على الخلق علماً بأن ذلك بسبب جُرْمِهم فيشهدونهم بعين التسلط، وآخرون يكظمون الغيظ تحققاً بأن الحق سبحانه يعلم ما يقاسون فيهون عليهم التحمل، وآخرون فنوا عن أحكام البشرية فوجدوا صافِيَ الدرجات في الذُّلِّ لأن نفوسهم ساقطة فانية، وآخرون لم يشهدوا ذرة من الأغيار في الإنشاء والإجراء؛ فعلموا أنَّ المنشئ الله؛ فزالت خصوماتهم ومنازعاتهم مع غير الله لأنهم لمَّا أفردوه بالإبداع انقادوا لحكمه؛ فلم يروا معه وجهاً غير التسليم لحكمه، فأكرمهم الحق سبحانه بِبَرْدِ الرضاء، فقاموا له بشرط الموافقة.
قوله: { وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ } فرضاً رأوه على أنفسهم لا فضلاً منهم على الناس، قال قائلهم:
رُبَّ رام لي بأحجار الأذى لم أجِدْ بُدَّاً من العطف عليه

{ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.. هذا في معاملة الحق، وأما في معاملة الخلق فالإحسان أن تَدَعَ جميع حقِّك بالكلية كم كان على من كان، وتقبل (...) منه ولا تقلده في ذلك مِنَّة.أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام "قل للظلمة حتى لا يذكروني فإني أوجبت أن أذكر من ذكرني وذكري للظلمة باللعنة". وقال لظَلَمَةِ هذه الأمة.
{ أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ } ثم قال في آخر الآية: { وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ }.
ويقال فاحشةُ كلِّ أحد على حسب حاله ومقامه، وكذلك ظلمهم وإن خطور المخالفات ببال الأكابر كفِعْلها من الأغيار، قال قائلهم:
أنت عيني وليس من حق عيني غضُّ أجفانها على الأقذاء

فليس الجُرْم على البساط كالذَّنب على الباب.
ويقال فعلوا فاحشة بركونهم إلى أفعالهم، أو ظلموا أنفسهم بملاحظة أحوالهم، فاستغفروا لذنوبهم بالتبري عن حركاتهم وسكناتهم علماً منهم بأنه لا وسيلة إليه إلا به، فخلصهم من ظلمات نفوسهم. وإن رؤية الأحوال والأفعال لَظُلُمَاتٌ عند ظهور الحقائق، ومَنْ طَهَّره الله بنور العناية صانه عن التورط في المغاليط البشرية.
{ أُوْلَـٰئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } بردِّهم إلى شهود الربوبية، وما سبق لهم من الحسنى في سابق القسمة.
{ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } مؤجلاً من الفراديس، ومُعَجلاً في روح المباحات وتمام الأُنْس."لطائف الإشارات للقشيري"

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 338 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 19, 20, 21, 22, 23

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 2 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
cron
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط