موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 301 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 6, 7, 8, 9, 10, 11, 12 ... 21  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يناير 30, 2023 11:26 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


مثل هؤلاء المنافقين من اليهود {كَمَثَلِ} رجل في ظلمة، تائه في الطريق، فاستوقد ناراً ليبصر طريق، فاستوقد ناراً ليبصر طريق القصد {فَلَمَّا} اشتغلت و {أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} فأبصر الطريق، وظهرت له معالم التحقيق، أطفأ الله تلك النار وأذهب نورها، ولم يبق إلا جمرها وحرّها. كذلك اليهود كانوا في ظلمة الكفر والمعاصي ينتظرون ظهور نور النبيّ صلى الله عليه وسلم ويطلبونه، فلما قدم عليهم، وأشرقت أنواره بين أيديهم كفروا به، فأذهب الله عنهم نوره، {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} الكفر والشك والنفاق، {لاَّ يُبْصِرُونَ} ولا يهتدون، {صُمٌّ} عن سماع الحق، {بُكْمٌ} عن النطق به {عُمْي} عن رؤية نوره، {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} عن غيّهم، ولا يقصرون عن ضلالتهم.
الإشارة: مَثَلُ مَنْ كان في ظلمات الحجاب قد أحاطت به الشكوك والارتياب، وهو يطلب من يأخذ بيده ويهديه إلى طريق رشده، فلما ظهرت أنوار العارفين، وأحدقت به أسرار المقربين، حتى أشرقت من نورهم أقطارُ البلاد، وحَيِيَ بهم جلّ العباد، أنكرهم وبعد منهم، فتصامم عن سماع وعظهم، وتباكَمَ عن تصديقهم، وعَمِيَ عن شهود خصوصيتهم، فلا رجوع له عن حظوظه وهواه، ولا انزجار له عن العكوف على متابعة دنياه، مثله كمن كان في ظلمات الليل ضالاً عن الطريق، فاستوقد ناراً لتظهر له الطريق، فلما اشتعلت وأضاءت ما حوله أذهب الله نورها، وبقي جمرها وحرّها، وهذه سنة ماضية: لا ينتفع بالولي إلا مَن كان بعيداً منه. وفي الحديث: "أزْهَدُ النَّاسِ في العَالِم جيرانُه" ، وقد مَثَّلُوا الولي بالنهر الجاري كلما بَعُدَ جَرْيُه عَمَّ الانتفاعُ به، ومثَّلوه أيضاً بالنخلة لا تُظِلُّ إلا عن بُعْد. والله تعالى أعلم.
أهل الخصوصية إذا ظهروا بين العموم بأحوال غريبة وعلوم وَهْبية، وأسرار ربانية وأذكار نورانية، دهشوا منهم وتحيّروا في أمرهم، وخافوا على أنفسهم، فإذا سمعوا منهم علوماً لدنية وأسراراً ربانية فرّوا منها، وجعلوا أصابعهم في آذانهم، خوفاً على نفسهم أن تفارق عوائدها وهواها، وإذا خاصمهم أحد من العموم ألجموه بالحجة، فتكاد تلك الحجة تخطفه إلى الحضرة، كلما لمع له شيء من الحق مشى إلى حضرته، وإذا كرّت عليه الخصوم والخواطر، وأظلم عليه الحال، وقف في الباب حيران، ولو شاء الله لذهب بعقله وسمعه وبصره، فيبصر به إلى حضرته. من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِراً } [الكهف: 45].
فالصِّيَّب الذي نزل من السماء كِنَايةٌ عن الواردات والأحوال التي ترد على قلوب العارفين، ويظهر أثرها على جوارحهم، والظلمات التي فيها كناية عن اختفاء بعضها عن أهل الشريعة فينكرونها، والرعد كناية عن اللهج بذكر الله جهراً في المحافل والحلق، والبرق كناية عن العلوم الغريبة التي ينطقون بها والحجج التي يحتجون بها على الخصوم، فإذا سمعها العوام اشمأزت قلوبهم عن قبولها، فإذا وقع منهم إنصاف تحققوا صحتها فمالوا إلى جهتها، ومَشَوْا إلى ناحيتها، فإذا كَرَّت عليهم الخصوم قاموا منكرين، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [هُود: 118].
ولما ذكر الحق من تخلق بالإيمان ظاهراً وباطناً، ومن تحلّى به كذلك، ومن أخفى الكفر وأظهر الإيمان، دعا الكل إلى توحيده وعبادته.
----
البحر المديد لإبن عجيبة الحسيني

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء فبراير 01, 2023 4:04 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


إنهم لما شبهوا في نفوسهم دين الإسلام بالصيب المذكور في ظهوره من غير ترقب، واشتمال في زعمهم على ظلمات التكاليف المتفاوتة المتنوعة، ورعود الوعيدات الهائلة وبروق الأحكام الخاطفة، وجب عليهم الاحتراز عن غوائله فمالوا عنه وأعرضوا، وجعلوا أصابع عقولهم في آذان قبولهم؛ خوفاً من الصواعق النازلة المصفية المفنية ذواتهم في ذات الله حذر الموت الإداري، وهم بسبب هذا الميل والإعراض يعتقدون أنهم خلصوا عن الفناء في ذاته {وَ} لم يعلموا أنهم مستهلكون فيها إذ {ٱللَّهُ} المتجلي في ذاته لذاته {مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ} [البقرة: 19] الساترين بذواتهم في زعمهم الفاسد ذات الله، غافلين عن تجلياته، وكيف يغفلون عنها؟.
{يَكَادُ ٱلْبَرْقُ} أي: برق التجلي اللطفي {يَخْطَفُ} يعمي {أَبْصَٰرَهُمْ} التي يرون بها أنفسهم ذوات موجودات فاضلات به {كُلَّمَا أَضَآءَ} وأشرق {لَهُمْ} التجلي اللطفي {مَّشَوْاْ} ساروا {فِيهِ} باقين ببقائه {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} بالتجلي القهري {قَامُواْ} سكنوا على ما هم عليه من عدم الصرف {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ} التجلي عليهم بالقهر دائماً {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ} أي: بتعيناتهم التي ظنوا أنهم موجودات حقيقية بسببها، وصيرهم فانين معدومين لا وجود لهم أصلاً، كما هم عليه دائماً، قل لهم يا أكمل الرسل بلسان الجمع: {إِنَّ ٱللَّهَ} المتجلي بالتجلي اللطفي {عَلَىٰ} إبقاء {كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] على إفنائه بالتجلي القهري؛ إذ لا يجري في ملكه إلا ما يشاء.
-----
تفسير الجيلاني/ الجيلاني

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة فبراير 03, 2023 6:49 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


يعطينا الحق سبحانه وتعالى صفة أخرى من صفات المنافقين، فيصفهم بأنهم الذين اشتروا الضلالة بالهدى. وما دام هناك شراء، فهناك صفقة، والصفقة تتطلب مشترياً وبائعاً، وقد كانت السلعة في الماضي تشترى بسلعة أخرى، أما الآن فإن كل شيء يشترى بالمال، ماذا اشتروا؟
إن هؤلاء المنافقين اشتروا الضلالة، واشتروها بأي ثمن؟! .. اشتروها بالهدى! الباء في اللغة تدخل على المتروك، عندما تشتري شيئا تترك ثمنه، إذن: كأن هؤلاء قد تركوا الهدى واشتروا الضلالة، ولكن هل كان معهم هدى ساعة الصفقة؟!
إن الحال يقتضي أن يكون معهم هدى، كأن يهتدي إنسان ثم يجد أن الهدى لا يحقق له النفع الدنيوي الذي يطلبه فيتركه ليشتري به الضلال ليحقق به ما يريد، والهدى الذي كان معهم، قد يكون هدى الفطرة، فكأن هؤلاء كان يمكنهم أن يختاروا الهدى فاختاروا الضلالة.
والله سبحانه وتعالى يهدي كل الناس، هدى دلالة، فمَنْ اختار الهدى يزيده هُدًى واقرأ قوله تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ .. } [فصلت: 17].
وقول الحق {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} التجارة بيع وشراء، الشاري مستهلك، والبائع قد يكون منتجاً، أو وسيطاً بين المنتج والمستهلك. ما حظ البائع من البيع والشراء؟ أن يكسب فإذا ما كسب قيل ربحت تجارته. وإذا لم يكسب ولم يخسر، أو إذا خسر ولم يكسب، ففي الحالين لا يحقق ربحاً، ونقول: ما ربحت تجارته.
فقوله تعالى {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] يدل على أنهم خسروا كل شيء لأنهم لم يربحوا، فكأنهم لم يحققوا شيئاً له فائدة، وخسروا الهدى، أي: خسروا الربح ورأس المال. ما ربحت تجارتهم، ربما يكونون لم يكسبوا ولم يخسروا، ولكن هم قدموا الهدى ثمناً للضلال فلم يربحوا وضاع منهم الهدى، أي: رأس مالهم.
ونفسية المنافق إذا أردت أن تحددها، فهو إنسان بلا كرامة، بلا رجولة لا يستطيع المواجهة، بلا قوة، يحاول أن يمكر في الخفاء، ولذلك تكون صورته حقيرة أمام نفسه، حتى لو استطاع أن يخفي عيوبه عن الناس، فيكفي أنه كاذب أمام نفسه لتكون صورته حقيرة أمام نفسه، وفي ذلك يقول الشاعر:
إذا أنا لـــمْ آتِ الدنيّةَ خشــيةً مِن الناسِ كان الناسُ أكرمَ من نفسِي
كفى المرءُ عاراً أن يرى عيبَ نفسه وإن كان في كِنٍّ عن الجـنَ والأنـسِ

فالمهم رأيك في نفسك .. والتمزق الذي عند المنافق أنه يريد أن يخفي عيوبه عن الناس.
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقرب صفات التمزق في المنافقين إلى فهمنا، ولذلك فهو يضرب لنا الأمثال، والأمثال جمع مثل وهو الشبيه الذي يقرب لنا المعنى ويعطينا الحكمة، والأمثال باب من الأبواب العريقة في الأدب العربي.
فالمثل أن تأتي بالشيء الذي حدث وقيل فيه قولة موجزة ومعبرة، رأى الناس أن يأخذوا هذه المقولة لكل حالة مشابهة.
ولنضرب مثلاً لذلك، ملك - من الملوك - أراد أن يخطب فتاة من فتيات العرب، فأرسل خاطبة اسمها "عصام" لِترى هذه العروس وتسأل عنها وتخبره، فلما عادت قال لها: ما وراءك يا عصام؟ أي بماذا جئت من أخبار، قالت له: أبدي المخض عن الزبد. المخض هو أن تأتي باللبن الحليب وتخضُّه في القربة حتى ينفصل الزبد عن اللبن، فصار الاثنان ـ السؤال والجواب ـ يُضربان مثلا. تأتي لمَنْ يجيئك تنتظر منه أخباراً فتقول له: ما وراءك يا عصام.
ولا يكون اسمه "عصام" .. ولم ترسله لاستطلاع أخبار، بينما تريد أن تسمع ما عنده من أخبار.
وحينما تريد مثلاً .. أن تصور تنافر القلوب .. وكيف أنها إذا تنافرت لا تلتئم أبداً .. ويريد الشاعر أن يقرب هذا المعنى فيقول:
إنّ القلوبَ إذا تَنَافَرَ وُدُّها مثل الزجاجةِ كَسْرها لا يشعبُ

(أي: لا يُجْبَر)
وساعة تنكسر الزجاجة لا تستطيع إصلاحها، ولكي يسهل هذا المعنى عليك وتفهمه في يسر وسهولة .. فإنك لا تستطيع أن تصور أو تشاهد معركة بين قلبين .. لأن هذه مسألة غيبية، فتأتي بشيء مُشاهَد وتضرب به المثل، وبذلك يكون المعنى قد قرب، لأنك شبهته بشيء محسوس، تستطيع أن تفهمه وتشاهده.
ولقد استخدم الله سبحانه وتعالى الأمثال في القرآن الكريم في أكثر من موضع .. ليُقَرِّبَ من أذهاننا معنى الغيبيات التي لا نعرفها ولا نشاهدها .. ولذلك ضرب لنا الأمثال في قمة الإيمان .. وحدانية الله سبحانه وتعالى، وضرب لنا المثل بنوره جل جلاله، الذي لا نشهده وهو غيب عنا، وضرب لنا الأمثال بالنسبة للكفار والمنافقين .. لنعرف فساد عقيدتهم ونتنبه لها، وضرب لنا الأمثال فيما يمكن أن يفعله الكفر بالنعمة .. والطغيان في الحق، وغير ذلك من الأمثال .. قال الله تعالى: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } [الإسراء: 89].
وقد ضرب الله جل جلاله لنا الأمثال في الدنيا وفي الآخرة، وفي دقة الخلق، وقمة الإيمان، ومع ذلك فإن الناس منصرفون عن حكمة هذه الأمثال .. كافرون بها، مع أن الحق تبارك وتعالى ضربها لنا لتقرِّبَ لنا المعنى .. تشبيهاً بماديات نراها في حياتنا الدنيا .. وكان المفروض أن تزيد هذه الأمثال الناس إيماناً؛ لأنها تقرب لهم معاني غائبة عنهم، ولكنهم بدلاً من ذلك ازدادوا كفراً!!
ولا بد قبل أن نتعرض للآية الكريمة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] .. أن نتحدث عن بعض الأمثال التي ضُربت في القرآن الكريم، لنرى كيف أن الله سبحانه وتعالى حدثنا عن قضايا غيبية بمحسات دنيوية:
ضرب الله - تبارك وتعالى - لنا مثلاً بالقمة الإيمانية .. وهي أنه: لا إله إلا الله، وكيف أن هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى يجب أن نسجد له شكراً عليها .. لأن فيها وقاية لنا من شقاء، ومع ذلك فإن الله تبارك وتعالى يريد بعباده الرحمة، ولكن بعض الناس يريد أن يُشقي نفسه فيشرك بالله جل جلاله، وبدلاً من أن يأخذ طريق الإيمان الميسَّر .. يأخذ طريق الكفر والنفاق والشرك بالله الذي يملك كل شيء في الدنيا والآخرة .. يقول الحق جل جلاله: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 29].
بهذه الصورة المحسة التي نراها، ولا يختلف فيها اثنان .. يريد الله تبارك وتعالى أن يقرب إلى أذهاننا صورة العابد لله وحده، وصورة المشرك بالله، ويعطينا المثل في عبد مملوك لشركاء .. رجل مملوك لعشرة مثلاً .. وليس هؤلاء الشركاء العشرة متفقين .. بل هم متشاكسون أي: أنهم مختلفون، ورجل آخر مملوك لسيد واحد .. أيهما يكون مستريحاً يعيش في رحمة؟ .. طبعاً المملوك لسيد واحد في نعمة ورحمة .. لأنه يتبع أمراً واحداً ونهياً واحداً، ويطيع رباً واحداً، ويطلب رضا سيد واحد .. أما ذلك الذي يملكه شركاء حتى لو كانوا متفقين، سيكون لكل واحد منهم أمر ونهي .. ولكل واحد منهم طلب .. فما بالك إذا كانوا مختلفين؟ أحد الشركاء يقول له تعال .. والآخر يقول له لا تأت، وأحد الشركاء يأمره بأمر، والآخر يأمره بأمر مناقض، ويحتار أيهما يرضى وأيهما يغضب؟ .. وهكذا تكون حياته شقاء وتناقضاً.
إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يُقرِّبَ لنا الصورة في قضية هي قمة اليقين، وهي الإيمان بالواحد الأحد .. يريدنا أن نلمس هذه الصورة، بمثل نراه ونشهده، وأن نرى فيض الله برحمته على عباده، ويمضي الحق سبحانه ليلفتنا إلى أن نفكر قليلاً في مثل يضربه لنا في القرآن الكريم: { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النحل: 76].
فالحق تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة، يطلب منا أن نفكر في مثل مادي محسوس .. أيهما خير؟ .. أذلك الصنم الذي يعبده الكفار وهو لا يأتي لهم بخير أبداً .. لأنه لا يستطيع أن ينفع نفسه فكيف يأتي بالخير لغيره؟! بل هو عبء على مَنْ يتخذونه إلهاً، فإنهم يجب أن يضعوه وأن يحملوه من مكان إلى آخر إذا أرادوا تغيير المعبد أو الرحيل، وإذا سقط فتهشمت أجزاء منه، فإنه يجب أن يصلحوها.
إذن: فزيادة على أنه لا يأتي لهم بخير، فإنه عبء عليهم يكلفهم مشقة، ويحتاج منهم إلى عناية ورعاية.
أعبادة مثل هذا الصنم خير؟ أم عبادة الله سبحانه الذي منه كل الخير وكل النعم .. والذي يأمر بالعدل .. فلا يُفضِّل أحداً من عباده على أحد، والذي يعطي لعباده الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، والمُوَصِّل إلى الجنة في الآخرة .. إن الله سبحانه وتعالى يُبَيَّنُ بهذا المثل غباء فكر المشركين الذين يعبدون الأصنام ويتركون عبادة الله تبارك وتعالى.
وهكذا يعطينا الحق سبحانه هذين المثلان توضيحاً لقضية الوحدانية والألوهية .. ثم يأتي الله سبحانه وتعالى بمثل آخر .. يضرب لنا مثلاً لنوره .. هذا النور الإلهي الذي يضيء الدنيا والآخرة، فيضيء القلوب المؤمنة .. إنه يريد أن يضرب لنا مثلاً لهذا النور بشيء مادي محس .. فيقول جل جلاله: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } [النور: 35].
كأن الله سبحانه وتعالى .. يريدنا أن نعرف بتشبيه محس .. أن مثل نوره كمشكاة، والمشكاة هي (الطاقة) .. وهي فجوة في الحائط بالبيت الريفي، ونحن نضع المصباح في هذه الطاقة .. إذن: المصباح ليس في الحجرة كلها، ولكن نوره مركز في هذه الطاقة فيكون قوياً في هذا الحيز الضيق، ولكن المصباح في زجاجة .. تحفظه من الهواء من كل جانب .. فيكون الضوء أقوى .. صافياً لا دخان فيه .. كما أن الزجاج يعكس الأشعة فيزيد تركيزه، والزجاجة غير عادية ولكنها: "كوكب دري" .. أي: هي مضيئة بذاتها وكأنها كوكب، ووقودها من شجرة مباركة يملؤها النور لا شرقية ولا غربية .. أي يملؤها النور من الوسط ويخرج صافياً، والزيت مضيء بذاته دون أن تَمَسَّهُ النار .. فهي نور على نور .. أيكون جزء من هذه المشكاة ذات المساحة الصغيرة مظلماً، أم تكون كلها مليئة بالنور القوي؟.
وهذا ليس نور الله تبارك وتعالى عن التشبيه والوصف، ولكنه مثل فقط للتقريب إلى الأذهان، فكأن نور الله يضيء كل ركن وكل بقعة، ولا يترك مكاناً مظلماً .. فهو نور على نور.
ولقد أراد أحد الشعراء أن يمدح الخليفة وكانت العادة أن يشبه الخليفة بالأشخاص البارزين ذوي الصفات الحسنة .. فقال:
إقدامُ عمرٍو في سماحة حاتمٍ في حِلْمِ أحنفَ في ذكاءِ إياسِ

وكل هؤلاء الذين ضرب بهم الشاعر المثل كانوا مشهورين بهذه الصفات، فعمرو كان مشهوراً بالإقدام والشجاعة، وحاتم كان مشهوراً بالسماحة، وأحنف يُضرب به المثل في الحلم، وإياس شعلة في الذكاء .. وهنا قام أحد الحاضرين وقال: الأمير أكبر من كل شيء ممن شبهته بهم .. فقال أبو تمام على الفور:
لا تنكروا ضَرْبي لَه مَنْ دُونَهُ مثلاً شَرُوداً في النَّدَى والباسِ
فاللهُ قَدْ ضَربَ الأقلَّ لنـوره مثلاً من المِشْـكَاةِ والنّبْراسِ

فأُعْجِب أحمد بن المعتصم والحاضرون من ذكائه وأمر بأن تُضَاعَفَ جائزته. والله سبحانه وتعالى يضرب لنا المثل بما سيشهده المؤمنون في الجنة .. فيقول جل جلاله: { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [محمد: 15].
هذه ليست الجنة .. ولكن هذا مثل يُقَرِّبُ الله سبحانه وتعالى لنا به الصورة بأشياء موجودة في حياتنا .. لأنه لا يمكن لعقول البشر أن تستوعب أكثر من هذا، والجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. ومن هنا فإنه لا توجد أسماء في الحياة تعبر عما في الجنة .. واقرأ قوله تعالى: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17].
فإذا كانت النفس لا تعلم، فلا توجد ألفاظ تعبر عما يوجد في الجنة، والمثل متى شاع استعماله بين الناس سمي مثلاً .. فأنت إذا رأيت شخصاً مغتراً بقوته، وتريد أن تُفْهِمه أنك أقوى منه تقول له: "إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً"، ولا توجد ريح ولا إعصار فيما يحدث بينكما، وإنما المراد المعنى دون التقيد بمدلول الألفاظ.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عما في داخل قلوب المنافقين، من اضطراب وذبذبة وتردد في استقبال منهج الله، وفي الوقت نفسه ما يجري في القلوب غيب عنا، وأراد الله أن يُقَرِّبَ هذا المعنى إلينا .. فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة: 17] .. أي حاول أن يوقد ناراً، والذي يحاول أن يوقد ناراً .. لابد أن له هدفاً، والهدف قد يكون الدفء وقد يكون الطهي .. وقد يكون الضوء وقد يكون غير ذلك .. المهم أن يكون هناك هدف لإيقاد النار..
يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] .. ذلك أنهم في الحيرة التي تملأ قلوبهم .. كانوا قد سمعوا من اليهود أن زمن نبي جديد قد: أتى، فقرروا أن يؤمنوا به، ولكن إيمانهم لم يكن عن رغبة في الإيمان، ولكنه كان عن محاولة للحصول على أمان دنيوي .. لأن اليهود كانوا يتوعدونهم ويقولون أتى زمن نبي سنؤمن به ونقتلكم به قتل عاد وإرم .. فأراد هؤلاء المنافقون أن يتقوا هذا القتل الذي يتوعدهم به اليهود، فتصوروا أنهم إذا أعلنوا أنهم آمنوا بهذا النبي نفاقاً أن يحصلوا على الأمن.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة .. إنهم أوقدوا هذه النار .. لتعطيهم نوراً يريهم طريق الإيمان .. وعندما جاء هذا النور بدلاً من أن يأخذوا نور الإيمان انصرفوا عنه، وعندما حدث ذلك ذهب الله بنورهم .. فلم يبق في قلوبهم شيء من نور الإيمان .. فهم الذين طلبوا نور الإيمان أولاً .. فلما استجاب الله لهم انصرفوا عنه .. فكأن الفساد في ذاتهم .. وكأنهم هم الذين بدأوا بالفساد، وساعة فعلوا ذلك ذهب الله بنور الإيمان من قلوبهم.
ونلاحظ هنا دقة التعبير القرآني في قوله تعالى: {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ولم يقل ذهب الله بضوئهم مع أنهم أوقدوا النار ليحصلوا على الضوء .. ما هو الفرق بين الضوء والنور؟ .. إذا قرأنا قول الحق سبحانه وتعالى: { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً .. } [يونس: 5].
نجد أن الضوء أقوى من النور، والضوء لا يأتي إلا من إشعاع ذاتي .. فالشمس ذاتية الإضاءة .. ولكن القمر يستقبل الضوء ويعكس النور، وقبل أن تشرق الشمس تجد في الكون نوراً، ولكن الضوء يأتي بعد شروق الشمس .. فلو أن الحق تبارك وتعالى قال: ذهب الله بضوئهم .. لكان المعنى أنه سبحانه ذهب بما يعكس النور، ولكنه أبقى لهم النور، ولكن قوله تعالى: {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ..} [البقرة: 17] .. معناها أنه لم يُبْقِ لهم ضوءاً ولا نوراً .. فكأن قلوبهم يملؤها الظلام، ولذلك قال الله بعدها؛ {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] .. لنعلم أنه لا يوجد في قلوبهم أي نور ولا ضوء إيماني .. كل هذا حدث بظلمهم هم وانصرافهم عن نور الله.
ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى .. لم يقل وتركهم في ظلام، بل قال: {فِي ظُلُمَاتٍ ..} [البقرة: 17] .. أي أنها ظلمات متراكمة .. ظلمات مركبة لا يستطيعون الخروج منها أبداً.
من أين جاءت هذه الظلمات؟ .. جاءت لأنهم طلبوا الدنيا ولم يطلبوا الآخرة، وعندما جاءهم نور الإيمان انصرفوا عنه فصرف الله قلوبهم.
مثلاً إذا أخذنا قصة زعيم المنافقين "عبد الله بن أُبَيِّ" نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المدينة وأهلها يستعدون لتتويج "عبد الله بن أُبَيِّ" ملكاً عليها، وعندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف الناس عن "عبد الله بن أُبَيِّ" إلى استقبال الرسول عليه الصلاة والسلام .. فوصول الرسول عليه الصلاة والسلام ضَيَّعَ على عبد الله بن أُبَيِّ الْمُلْك، ولقد كان من الممكن أن يؤمن، وأن يلتمس النور من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولو آمن حينئذ ربما أُعطِي في الآخرة مُلْكاً دائماً .. يفوق المِلك الذي كان سيحصل عليه في الدنيا، ولكن لأن في قلبه الدنيا وليس الدين، ولأنه يريد رفعة في الدنيا، ولا يريد جنة في الآخرة، فقد ملأ الحقد قلبه فكان ظُلْمَة، وملأ الحسد قلبه فكان ظلمة .. وملأت الحسرة قلبه فكانت ظلمة .. وملأت الكراهية والبغضاء قلبه فكانت ظلمة .. إذن هي ظلمات متعددة.
وهكذا في قلب كل منافق ظلمات متعددة .. ظلمة الحقد على المؤمنين وظلمة الكراهية لهم، وظلمة تمني هزيمة الإيمان، وظلمة تمني أن يصيبهم سوء وشر، وظلمة التمزق والألم من الجهد الذي يبذله للتظاهر بالإيمان وفي قلوبهم الكفر .. كل هذه ظلمات، ولكن لا تحاول أن تأخذها بمقاييس عقلك، والمفروض أن المثل هنا لتقريب المعنى .. لأنك إذا قرأت قول الحق سبحانه وتعالى: { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [الإسراء: 45].
كيف يكون الحجاب مستوراً؟ .. مع أن الحجاب هو الساتر الذي يستر شيئاً عن شيء .. ولكن الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم .. أنه برغم أن الحجاب يستر شيئاً عن شيء، فإن الحجاب نفسه مستور لا نراه، وبعض العلماء يقولون: إن مستوراً اسم مفعول، وهو في معنى اسم الفاعل ساتر .. نقول: لا .. واقرأ قوله تبارك وتعالى: { جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [مريم: 61].
مَأْتِيّاً اسم مفعول واسم الفاعل "آتٍ"، ويقول البعض: وضع اسم المفعول مكان اسم الفاعل .. نقول إنك لم تفهم .. هل وعد الله يلح في طلب العبد .. أم أن العبد يلح في طلبه بعمله فكأنه ذاهب إليه .. والموعود هو المستفيد وليس الوعد .. إذن من دقة القرآن الكريم .. أنه يريد أن ينبهنا إلى أن الموعود هو الذي يسعى للقاء الوعد، وليس الوعد هو الذي يطلب لقاء الموعود فيستخدم اسم الفاعل.
فحين يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] .. نفى النور عنهم، والنور لا علاقة له بالسمع ولا بالشم ولا باللمس، ولكنه قانون البصر.
وانظر إلى دقة التعبير القرآني .. إذا امتنع النور امتنع البصر .. أي: أن العين لا تُبْصِر بذاتها، ولكنها تبصر بانعكاس النور على الأشياء ثم انعكاسه على العين..
واقرأ قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً .. } [الإسراء: 12].
فكأن الذي يجعل العين تبصر هو الضوء أو النور .. فإذا ضاع النور ضاع الإبصار، ولذلك فأنت لا تبصر الأشياء في الظلام، وهذه معجزة قرآنية اكتشفها العلم بعد نزول القرآن .
----
خواطر الشيخ الشعراوي


_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت فبراير 04, 2023 1:46 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


فالحق سبحانه وتعالى .. بعد أن أخبرنا أنه بظلم هؤلاء المنافقين لأنفسهم .. ذهب بنور الإيمان من قلوبهم فهم لا يبصرون آيات الله .. أراد أن يلفتنا إلى أنه ليس البصر وحده هو الذي ذهب، ولكن كل حواسهم تعطلت .. فالسمع تعطل فهم صُمٌّ، والنطق تعطل فهم بُكْمٌّ، والبصر تعطل فهم عُمْيٌّ، وهذه هي آلات الإدراك في الإنسان .. واقرأ قوله تبارك وتعالى: { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 78].
إذن: كونهم في ظلمات لا يبصرون .. فقد تعطلت وسائل الإدراك الأخرى؛ فآذانهم صُمَّتْ فهي لا تسمع منهج الحق، وألسنتهم تعطلت عن نقل ما في قلوبهم .. وأبصارهم لا ترى آيات الله في الكون .. إذن: فآلات إدراكهم لهدى الله معطلة عندهم.
وقوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] .. أي: لن تعود إليهم هذه الوسائل ليدركوا نور الله في كونه .. الإدراك غير موجود عندهم، ولذلك فلا تطمعوا أن يرجعوا إلى منهج الإيمان أبداً .. لقد فسدت في قلوبهم العقيدة .. فلم يُفرِّقوا بين ما هو ضُرٌّ عاجل وما هو نفع آجل .. نور الهداية كان سيجعلهم يبصرون الطريق إلى الله .. حتى يسيروا على بينة ولا يتعثروا، ولكنهم حينما جاءهم النور رفضوه وانصرفوا عنه .. فكأنهم انصرفوا عن كل ما يهديهم إلى طريق الله!!.
فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة .. أعطانا وصفاً آخر من صفات المنافقين هو أن أدوات الإدراك التي خلقها الله جل جلاله معطلة عندهم .. ولذلك فإن الإصرار على هدايتهم وبذل الجهد معهم لن يأتي بنتيجة .. لأن الله تبارك وتعالى بنفاقهم وظلمهم عطل وسائل الهداية التي كان من الممكن أن يعودوا بها إلى طريق الحق .وقول الحق سبحانه وتعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ} [البقرة: 19] .. الصيب هو المطر .. والله تبارك وتعالى ينزل الماء فتقوم به الحياة .. مصداقاً لقوله جل جلاله: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ .. } [الأنبياء: 30].
ومن البديهي أننا نعرف أن إنزال المطر .. هو من قدرة الله سبحانه وتعالى وحده .. ذلك أن عملية المطر فيها خلق بحساب، وفيها عمليات تتم كل يوم بحساب أيضاً، وفيها عوامل لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى .. فمسألة المطر أعِدَّت الأرض لها حين الخلق .. فكانت ثلاثة أرباع الأرض من الماء والربع من اليابسة .. لماذا؟ من حِكَمِ الله في هذا الخلق أن تكون عملية البخر سهلة وممكنة .. ذلك أنه كلما اتسع سطح الماء يكون البخر أسهل، وإذا ضاق السطح تكون عملية البخر أصعب .. فإذا جئنا بكوب مملوء بالماء ووضعناه في حجرة مغلقة يوماً .. ثم عدنا إليه نجد أن حجم الماء نقص بمقدار سنتيمتر أو أقل، فإذا أخذنا الماء الذي في هذا الكوب وقذفناه في الحجرة .. فإنه يختفي في فترة قصيرة .. لماذا؟ لأن سطح الماء أصبح واسعاً فتمت عملية البخر بسرعة.
والله سبحانه وتعالى حين خلق الأرض .. وضع في الخلق حكمة المطر في أن تكون مساحة الماء واسعة لتتم عملية البخر بسهولة، وجعل أشعة الشمس هي التي تقوم بعملية البخر من سطح الماء .. وتم ذلك بحساب دقيق، حتى لا تُغرق الأمطار الأرض أو يحدث فيها جفاف .. ثم سخَّر الريح لتدفع السحاب إلى حيث يريد الله أن ينزل المطر، وقمم الجبال الباردة ليصطدم بها السحاب فينزل المطر .. كل هذا بحساب دقيق في الخلق وفي كل مراحل المطر..
وما دام الماء هو الذي به الحياة على الأرض، فقد ضرب الله لنا به المثل كما ضرب لنا المثل بالنار وضوئها .. فكلها أمثلة مادية لتقرِّب إلى عقولنا ما هو غيب عنا، فالماء يعطينا الحياة.
لكن هؤلاء المنافقين لم يلتفتوا إلى هذا الخير، الذي ينزل عليهم من السماء من غير تعب أو جهد منهم. بل التفتوا إلى أشياء ثانوية، كان من المفروض أن يرحبوا بها لأنها مقدمات خير لهم. فالمطر قبل أن ينزل من السماء لا بد أن يكون هناك شيء من الظلمة في السحاب الذي يأتي بالمطر، فيحجب أشعة الشمس إن كنا نهاراً، ويخفي نور القمر والنجوم إن كنا ليلاً. هذه الظلمة مقدمات الخير والماء.
إنهم لم يلتفتوا إلى الخير الذي ملأ الله به سبحانه وتعالى الأرض. بل التفتوا إلى الظلمة فنفروا من الخير .. كذلك صوت الرعد ونور البرق. الرعد يستقبله الإنسان بالأذن وهي آلة السمع، والبرق تستقبله العين، وصوت الرعد قوي، أقوى من طاقة الأذن. ولذلك عندما يسمعه الإنسان يفزع، ويحاول أن يمنع استقبال الأذن له، بأن يضع أنامله في أذنيه.
وهؤلاء المنافقون لم يضعوا الأنامل، ولكن كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم ..} [البقرة: 19] ولم يقل أناملهم. وذلك مبالغة في تصوير تأثير الرعد عليهم. فكأنهم من خوفهم وذعرهم يحاول كل واحد منهم أن يدخل كل أصبعه في أذنه؛ ليحمي نفسه من هذا الصوت المخيف، فكأنهم يبالغون في خوفهم من الرعد.
ونلاحظ هنا أن الحديث ليس عن فرد واحد، ولكن عن كثيرين .. لأنه سبحانه وتعالى يقول {أَصَابِعَهُمْ ..} [البقرة: 19] نقول: إن الأمر لجماعة يعني أمراً لكل فرد فيها، فإذا قال المدرس للتلاميذ: أخرجوا أقلامكم، فمعنى ذلك أن كل تلميذ يخرج قلمه .. وإذا قال رئيس الجماعة اركبوا سياراتكم، فمعنى ذلك أن كل واحد يركب سيارته .. لذلك فإن معنى {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم ..} [البقرة: 19] أن كل واحد منهم يضع أصبعه في أذنيه ..
لماذا يفعلون ذلك؟! إنهم يفعلونه خوفاً من الموت؛ لأن الرعد والبرق يصاحبهما الصواعق أحياناً، ولذلك فإنهم من مبالغتهم في الخوف يحس كل واحد منهم بأن صاعقة ستقتله .. فكأنهم يستقبلون نعمة الله سبحانه وتعالى بغير حقيقتها .. وهم لا يرون النعمة الحقيقية في أن هذا المطر يأتي لهم بعوامل استمرار الحياة. ولكنهم يأخذون الظاهر في البرق والرعد. وكذلك المنافقون لا يستطيع الواحد منهم أن يصبر على شهوات نفسه ونزواتها .. إنه يريد ذلك العاجل ولا ينظر إلى الخير الحقيقي الذي وعد الله به عباده المؤمنين في الآخرة .. وهو ينظر إلى التكاليف كأنها شدة ومسألة تحمل النفس بعض المشاق. ويغفل عن حقيقة جزاء التكاليف في الآخرة، وكيف أنها ستوفر لهم النعيم الدائم .. تماماً كما ينظر الإنسان إلى المطر على أنه ظلمة ورعد وبرق، وينسى أنه بدون هذا المطر من المستحيل أن تستمر حياته.
هم يأخذون هذه الظواهر على أنها كل شيء. بينما هي في الحقيقة تأتي لوقت قصير وتختفي، فهي قصيرة كالحياة الدنيا، وقتية. ولكن نظرتهم إليها وقتية ومادية لأنهم لا يؤمنون إلا بالدنيا وغفلوا عن الآخرة .. غفلوا عن ذلك الماء التي يبقى فترة طويلة، وتنبهوا إلى تلك الظواهر الوقتية التي تأتي مع المطر فخافوا منها، وكان خوفهم منها يجعلهم لا يحسون بما في المطر من خير. والمنافقون يريدون أن يأخذوا خير الإسلام دون أن يقوموا بواجبات هذا الدين!!
ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى قضية مهمة، وهي أن خوفهم من زوال متع الدنيا ونفوذها لن يفعل لهم شيئاً. لأن الله محيط بالكافرين .. والإحاطة معناها السيطرة التامة على الشيء بحيث لا يكون أمامه وسيلة للإفلات، وقدرة الله سبحانه وتعالى محيطة بالكافرين وغير الكافرين.
إذن عدم التفاتهم للنفع الحقيقي، وهو منهج الله، لا يعطيهم قدرة الإفلات من قدرة الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.
----
خواطر الشيخ الشعراوي


_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد فبراير 05, 2023 12:03 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358
يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٢١ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٢٢وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ ٢٣ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ ٢٤ وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ٢٥ -البقرة



قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً}[22] قال سهل: أي أضداداً. فأكبر الأضداد النفس الأمّارة بالسوء المتطلعة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله.
وسئل عن قوله: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ}[25] فقال: ليس في الجنة شيء من فرش ولا آنية ولا لباس ولا طيب ولا طير، ولا شيء من النبات، ولا شيء من الفواكه كلها، فما في الدنيا يشبه ذلك إلاَّ اتفاق الأسماء فقط، وذلك أن رمان الجنة لا يشبه رمان الدنيا قط إلاَّ باتفاق الأسماء فقط، وكذلك التمر والعناب وأشباه ذلك، وإنما أراد بقوله: "متشابهاً" أي في اللون، مختلفاً في الطعم، وذلك أن الملائكة تأتي الأولياء في الجنة بالتفاح في الغداء، ثم يأتون به في العشاء، فيقول الأولياء: هذا ذلك. فيقال لهم: ذوقوه. فإذا ذاقوه أصابوا له غير طعم الأول، فلا يجوز أن تدفع قدرة الله تعالى أن يؤدي طعم التفاح طعم الرمان واللوز والسفرجل قال سهل: وإني لأعرف رجلاً من الأولياء رأى في الدنيا رمانة كبيرة كأكبر ما كان بين يدي رجل على شاطئ البحر، فقال له الولي: ما هذا بين يديك؟ فقال: رمانة رأيتها في الجنة فاشتهيتها، فأتاني الله بها، فلما وضعتها بين يدي ندمت على استعجالي ذلك في الدنيا. قال له ذلك الرجل: أفآكل منها؟ قال له الرجل: إن قدرت أن تأكل منها فكل، فضرب بيده إليها فأكل أكثرها، فلما رآه يأكل منها أعظمه ذلك، فقال: أبشر بالجنة، فإني لم أعرف منزلتك قبل أكلك منها، وذلك أنه لا يأكل من طعام الجنة في الدنيا إلاَّ من هو من أهل الجنة. قال أبو بكر: فقلت لسهل: هل أخبرك الآكل من تلك الرمانة ما كان طعمها؟ قال: نعم، فيها طعم يجمع طعوم الفواكه، ويزيد على ذلك في طعمه لين وبرد ليس هو في شيء من طعوم الدنيا. قال أبو بكر: فلم أشك ولا مَنْ سمع هذه الحكاية من سهل إلاَّ أنه هو صاحب الرمانة والآكل منها.
----
تفسير القرآن/ التستري (ت 283 هـ)

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد فبراير 05, 2023 12:44 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ}.
قال بعضهم: وحدوا ربكم.
وقال بعضهم: أخلصوا عبادة ربكم من غير اتخاذ الشريك فيه، فتوصلكم الوحدانية والإخلاص إلى التقوى.
قوله تعالى: {ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً}.
أعلمكم فى هذه الآية سبيل الفقر بأن يجعل الأرض وطئًا والسماء غطاءً والماء طيبًا والكلأ طعامًا ولا تعبد أحدًا من الخلق بسبب الدنيا، فإن الله قد أباح لك ما لا بُدَّ لك منه من غير مِنَّة لأحد عليك.
----
حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين فبراير 06, 2023 11:16 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


العبادة موافقة الأمر، وهي استفراغ الطاقة في مطالبات تحقيق الغيب، ويدخل فيه التوحيد بالقلب، والتجريد بالسر، والتفريد بالقصد، والخضوع بالنفس، والاستسلام للحكم.
ويقال اعبدوه بالتجرد عن المحظورات، والتجلد في أداء الطاعات، ومقابلة الواجبات بالخشوع والاستكانة، والتجافي عن التعريج في منازل الكسل والاستهانة.
قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: تقريب الأمر عليهم وتسهيله، ولقد وقفهم بهذه الكلمة - أعني لعلَّ - على حد الخوف والرجاء.
وحقيقة التقوى التحرز والوفاء (بالطاعة) عن متوعدات العقاب.تعرَّف إليهم بذكر ما مَنَّ به عليهم من خَلْقِ السماء لهم سقفاً مرفوعاً، وإنشاء الأرض لهم فرشاً موضوعاً، وإخراج النبات لهم بالمطر رزقاً مجموعاً. ويقال أعتقهم عن مِنَّة الأمثال بما أزاح لهم من العلة فيما لا بُدَّ منه، فكافيهم السماء لهم غطاءً، والأرض وطاءً، والمباحات رزقاً، والطاعة حرفةً، والعبادة شغلاً، والذكر مؤنساً، والرب وكيلاً - فلا تجعلوا لله أنداداً، ولا تُعلِّقوا قلوبكم بالأغيار في طلب ما تحتاجون إليه؛ فإن الحق سبحانه وتعالى مُتَوَحدِّ بالإبداع، لا مُحْدِثَ سواه، فإذا توهمتم أن شيئاً من الحادثات من نفع أو ضرر، أو خيرٍ أو شر يحدث من مخلوق كان ذلك - في التحقيق شِرْكاً.
وقوله عز وجل: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أن من له حاجة في نفسه لا يَصْلُحُ أن تَرفَع حاجتك إليه. وتعلُّقُ المحتاج بالمحتاج، واعتماد الضعيف على الضعيف يزيد في الفقر، ولا يزيل هو أجم الضُر.لبَّس على بصائر الأجانب حتى لم يشهدوا حبيبه صلوات الله عليه، فتاهوا في أدوية الظنون لما فقدوا نور العناية، فلم يزدد الرسول عليهم إتياناً بالآيات، وإظهاراً من المعجزات إلا ازدادوا ريباً على ريب وشَكًّا على شك، وهكذا سبيل من أعرض عن الحق سبحانه، لا يزيده ضياء الحجج إلا عمًى عن الحقيقة؛ قال الله تعالى: { وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [يونس: 101]، وليبلغ عليهم في إلزام الحجة عرّفهم عجزهم عن معارضة ما آتاهم من معجزة القرآن الذي قهر الأنام من أولهم إلى آخرهم، وقدَّر عليهم أنهم لو تظاهروا فيما بينهم، واعتضدوا بأشكالهم، واستفرغوا كُنْه طاقتهم واحتيالهم لم يقدروا على الإتيان بسورة مثل سورة القرآن. ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا} وأخبر أنهم قطعاً لا يقدرون على ذلك ولا يفعلون فقال: {وَلَن تَفْعَلُوا} فكان كما قال - فانظروا لأنفسكم، واحذروا الشِّرْكَ الذي يوجب لكم عقوبة النار التي من سطوتها بحيث وقودها الناس والحجارة، فإذا كانت تلك النار التي لا تثبت لها الحجارة مع صلابتها ( ) فكيف يطيقها الناس مع ضعفهم، وحين أشرفت قلوب المؤمنين على غاية الإشفاق من سماع ذكر النار تداركها بحكم التثبيت فقال: {أُعِدَّتْ للكَافِرِينَ} ففي ذلك بشارة للمؤمنين. وهذه سُنَّةٌ من الحق سبحانه: إذا خوَّف أعداءه بَشَّر مع ذلك أولياءه.قوله جلّ ذكره: {وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ}.
هذه البشارة بالجنان تتضمن تعريفاً بِنعِم مؤجلة لعموم المؤمِنين على الوصف الذي يُشْرَح بلسان التفسير. ويشير إلى البشارة للخواص بنعم مُعَجَّلة مضافة إلى تلك النعم يتيحـ (ـها) الله لهم على التخصيص، فتلك المؤجلة جنان المثوبة وهذه جنان القُربَة، وتلك رياض النزهة وهذه رياض الزُّلفة، بل تلك حدائق الأفضال وهذه حقائق الوِصال، وتلك رفع الدرجات وهذه رَوْح المناجاة، وتلك قضية جوده، هذه الاشتعال بوجوده، وتلك راحة الأبشار وهذه نزهة الأسرار، وتلك لطف العَطاء للظواهر وهذه كشف الغِطاء عن السرائر، وتلك لطف نواله وأفضاله وهذه كشف جماله وجلاله.
قوله جلّ ذكره: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ}.
كما أن أهل الجنة تتجدد عليهم النعم في كل وقت، فالثاني عندهم - على ما يظنون - كالأول، فإِذا ذاقوه وجدوه فوق ما تقدّم - فكذلك أهل الحقائق: أحوالهم في السرائر أبداً في الترقي، فإِذا رُقيِّ أحدهم عن محلِّه توهَّم أن الذي سيلقاه في هذا النَّفَس مثل ما تقدم فإِذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم:
ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحيَّرُ الألباب دون نزوله
----
لطائف الإشارات للقشيري

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء فبراير 07, 2023 12:48 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


{يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} اي شَرّفوا انفسكم بعبادة ربّكم وايضاً اشكروا نعمة معرفتي بعبادي وقي وَحِدُوا ربّكم وقال جعفر الصّادق بينوا ربوبيته ثم اعبدوه على حدا الهَيَةِ والاجلال وعاينوا اوّل تربيتكم لتعلموا خصوصيته ايّاكُم من بين سائر خالقه.{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً} من اشار بهذا الى ترك المرتع والمنظر ما دام الارض لغرماء الحق وما ان السّماء غطاءً {وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ} بين للعباد وامر رزقهم انه ليس من عند غير الله حتى يشغلوا عن عبادة ربه باهتمام الرزق {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} اي فلا تجعلوا لله شريكاً في طلب رزقكم منه بعبادة ربّكم لا تبيعوا عبادة الله بمال الدنيا {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ان الله تعالى رازقكم وخالقكم اي لاتكونوا مرائين للطاعة بائعين وللدنيا وقبلوها مشترين قال سهل اي لا تجعلوا لله اضدادا واكبر الاضداد النفسُ الامارة بالسوء.{وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ} ان لاهل المعرفة جنان حنّة العبودية وجنّة البربوبيّة وجنة المعرفة وجنة المحبة وجنّة المقربة وجنة المشاهدة وجنة المداناة وجنّة الوصلة وجنّة التوحيد وجنة البقاء وجنّة البسط وجنّة الرجاء وجنّة الانبساط وجنّة السّكر وجنّة الصَحو وجنّة المكلوت وجنّة المكاشفة وجنّة الحقيقة وجنّة العلم ولك جنّة منا نهر تجرى من تحتها فجنة العبودية الكرامات ونهرها حقائق الحكمة وجنة الربوبية مشاهدة صرف القدرة ونهرها روية تجلى الحق في مراة الايات وجنة المعرفة ادراك نوادر الالوهية ونهره ونهرها صفاء الاخلاص وجنة المحبة مشاهدة الالاء نهرها الرّضا بمراد المحبوب وجنّة القربة مباشرة انوار الصفة ونهرها خاصية المحبّة وجنّة المشاهدة الدهشة في جمال الحق ونهرها الطائف الاشارة وجنة المداناة الاستيناس بروية الوصال والتبرى من الحَدَثان ونهرها كشف غرائب تجلى الصفات وجنة لاوصلة اللذة في العشق ونهرها المحقبة وجنة التوحيد التلب بلباس الرّبَاني ونهرها الانسلاخ عن لباس الانسانى وجنة البقاء والتمكين ونهرها السّكينة وجنة البسط الفرج بالمشاهدة ونهرها الطّمانية وجنة الرجاء الشوق ونهرها الانس وجنة الانبساط الاتحاد ونهرها الفريدة والحكمة في الحضرة وجنة السكر حلاوة الفناء ونهرها صفاء عيش الرُّوح في المشاهدة وجنّة الصّحو المعجزات وتقلب الاعَيْان ونهرها العملُ اللَّدنى وجنة الملكوت رؤية تصاوير اشخاص الارواح ونهرها مزيدة اليقين وجنة المكاشفة المراقبة بنعت وجان صفاء المعرفة ونهرها اسرار الفراسات وجنة الحقيقة وجدان الروح في مقام الجمع والتفرقة ونهرها تلتوين والتمكينُ وجنة المجهول الراحة في الشطحّيات ونهرا غوص الروح في بحر الحقيقة {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} اَهْلُ جنان الوُصلةِ اذا كشف لهم اَسْرار الغيب رأوا مشاهداتٍ انوار الصفات في مقامامت الارواح جميعها يدل بعضهم بعضاً يحصل لهم من نور الكبرياء ما يحصل لهم من نور العظمة ومن نور القدم ما يحصل من نور البقاء هذكا جميع الصفات وايضاً اذا تمكن اهل المشاهدة في الجنة غذاء ورأوا ربّهم تعالى وجدوه على صفة التي اظهر نفسه جل وعَزّ لاهل المكاشفة في دار الدّنيا يقولون هذا الذي رزقنا من قبلُ اي ما نحن كنّا فيه من مشاهدته في الاجل يجدها بتلك الصفات في الاجل لانّ وجوده تعالى لا يتغَيّر بتغير الزمان في المكان اوله في الربويّة اخره في الالوهيّة واخره في الصمدية اوّله في الازلية وقال السر في قوله وبشّر الذين أمنوا وعملوا الصالحات خلِصَ سرّه وعبادته لى ان هلم جنّات تجرى اي نورا في اسرارهم وقلوبهم في الدنيا يستريحون اليه للتوكل والاتلقاء ونوراً في الاخرة بدخولهم الجنان ومجاروتهم الرّحمن.
---
عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس فبراير 09, 2023 12:14 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


{يا ايها الناس} الآية مسوقة لاثبات التوحيد وتحقيق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام اللذين هما اصل الايمان.
والناس يصلح اسماء للمؤمنين والكافرين والمنافقين. والنداء تنبيه الغافلين او احضار الغائبين وتحريك الساكنين وتعريف الجاهلين وتفريغ المشغولين وتوجيه المعرضين وتهييج المحبين وتشويف المريدين.
قال بعض العارفين اقبل عليهم بالخطاب جبرا فما فى العبادة من الكلفة بلذة الخطاب اى يا مؤنس لا تنس انسك بى قبل الولادة او يا ابن النسيان تنبيه ولا تنس حيث كنت نسياً منسيا ولم تك شيأ مذكورا فخلقتك وخمرتك طينا ثم نطفة ثم دما ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ولحوما وعروقا وجلودا واعصابا ثم جنينا ثم طفلا ثم صبيا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا وانت فيما بين ذلك تتمرغ فى نعمتى وتسعى فى خدمة غيرى تعبد النفس والهوى وتبيع الدين بالدنيا لا تنس من خلقك وجعلك من لا شئ شيأ مذكورا كريما مشكورا علمك وقواك واكرمك واعطاك ما اعطاك فهذا خطاب للنفس والبدن.
قال فى التيسير واذا كان الانسان من النسيان ففيه عتاب وتلقين اما العتاب فكانه يقول ايها الناس قابلتم نعمنا بالكفران واوامرنا بالعصيان واما التلقين للعذر فكانه يقول ايها المخالف لنا ناسيا لا عامدا وساهيا لا قاصدا عذرناك لنسيانك وعفونا عنك لايمانك {اعبدوا ربكم} يقول للكفار وحدوا ربكم ويقول للعاصيين اطيعوا ربكم ويقول للمنافقين اخلصوا بالتوحيد معرفة ربكم ويقول للمطيعين اثبتوا على طاعة ربكم واللفظ يحتمل لهذا الوجوه كلها وهو من جوامع الكلم كما فى تفسير ابى الليث. والعبادة استفراغ الطاقة فى استكمال الطاعة واستشعار الخشية فى استبعاد المعصية {الذى خلقكم} صفة جرت عنه للتعظيم والتعليل معناه أطيعوا ربكم الذى خلقكم لخلقكم ولم تكونوا شيأ.
والخلق اختراع الشئ على غير مثال سبق {و} خلق {الذين من قبلكم} اى من زمن قبل زمانكم من الامم فمن ابتدائية متعلقة بمحذوف وفى الوصف به ايماء الى سبب وجوب عبادته تعالى فان خلق اصولهم من موجبات العبادة كخلق انفسهم وفيه دلالة على شمول القدرة وتنبيه من سنة الغفلة اى انهم كانوا فمضوا وجاءوا وانقضوا فلا تنسوا مصيركم ولا تستجيزوا تقصيركم {لعلكم تتقون} حال من ضمير اعبدوا اى راجين ان تدخلوا فى سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين لجوار الله تعالى. ولعل للترجى والاطماع وهى من الله تعالى واجب لان الكريم لا يطمع الا فيما يفعل والاولون والآخرون مخاطبون بالامر بالتقوى وخص المخاطبين بالذكر تغليبا لهم على الغائبين كما فى الكواشى. وفيه تنبيه على ان التقوى منتهى درجة الساكلين وهو التبرى من كل شئ سوى الله تعالى وان العابد ينبغى ان لا يغتر بعبادته ويكون ذا خوف ورجاء كما قال تعالى { يدعون ربهم خوفا وطمعا } [السجدة: 16] { ويرجون رحمته } [الإسراء: 57].وح البيان في تفسير القرآن
{الذى جعل لكم الارض} صفة ثانية لربكم.
قال اهل اللغة الارض بساط العالم وبسيطها من حيث يحيط بها البحر الذى هو البحر المحيط اربعة وعشرون الف فرسخ كل فرسخ ثلاثة اميال وهو اثنا عشر الف ذراع بالذراع المرسلة وكل ذراع ست وثلاثون اصبعا كل اصبع ست حبات شعير مصفوفة بطون بعضها الى بعض فللسودان اثنا عشر الف فرسخ وللبيضان ثمانية وللفرس ثلاثة وللعرب الف كذا فى كتاب الملكوت وسمت وسط الارض المسكونة حضرة الكعبة واما وسط الارض كلها عامرها وخرابها فهو الموضع الذى يسمى قبة الارض وهو مكان يعتدل فيه الازمان فى الحر والبرد ويستوى الليل والنهار ابدا لا يزيد احدهما على الآخر كما فى الملكوت وروى عن على كرم الله وجهه انه قال انما سميت الارض ارضا لانها تتأرض ما فى بطنها يعنى تأكل ما فيها وقال بعضهم لانها تتأرض بالحوافر والاقدام {فراشا} ومعنى جعلها فراشا جعل بعضها بارزا من الماء مع اقتضاءطبعها الرسوب وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين صالحة للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش وليس من ضرورة ذلك كونها سطحا حقيقيا وهو الذى له طول وعرض فان كرية شكلها مع عظم جرمها مصححة لافتراشها {و} جعل {السماء} وهو ما علاك واظلك {بناء} قبة مضروبة عليكم وكل سماء مطبقة على الاخرى مثل القبة والسماء الدنيا ملتزقة اطرافها على الارض كما فى تفسير ابى الليث {وانزل من السماء ماء} اى مطرا ينحدر منها على السحاب ومنه على الارض وهو رد لزعم انه يأخذه من البحر {فاخرج به} اى انبت الله بسبب الماء الذى انزل من السماء {من الثمرات} هى ههنا المأكولات كلها من الحبوب والفواكه وغيرها مما يخرج من الارض والشجر كما فى التيسير{رزقا لكم} وذلك بان اودع فى الماء قوة فاعلية وفى الارض قوة منفعلة فتولد من تفاعلهما اصناف الثمار فبين المظلة والمقلة شبه عقد النكاح بانزال الماء منها عليها والاخراج به من بطنها اشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقا لبنى آدم ومن للبيان ورزقا اى طعاما وعلفا لكم ولدوابكم والمعنى ان الله تعالى انعم عليكم بذلك كله لتعرفوه بالخالقية والرازقية فتوحدوه {فلا تجعلوا لله اندادا} جمع ند وهو المثل اى امثالا تعبدونهم كعبادة الله يعنى لا تقولوا له شركاء تعبد معه.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما لا تقولوا لولا فلان لاصابنى كذا ولولا كلبنا يصيح على الباب لسرق متاعنا.
وعن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال "اياكم ولو فانه من كلام المنافقين قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا"
{وانتم تعلمون} ان الله هو الذى خلقكم ومن قبلكم وخلق السماء والارض وخلق الارزاق دون الاصنام فانها لا تضر ولا تنفع والوعظ الكلى انه قال فى الآية {جعل لكم} وقال {رزقا لكم} فلو قال لك فى القيامة فعلت كذا كله لكم فما فعلتم لى فما تقول.
وعن الشبلى رحمه الله انه وعظ يوما الناس فابكاهم لما ذكر من القيامة واهوالها فمر بهم ابو الحسين النورى قال لا تفزعهم فان حساب يومئذ ليس بهذا الطول انما هو كلمتان "من ترا بودم تو كرا بودى" وافادت الآية انه ينبغى الاخلاص فى العبادة بترك ملاحظة الاغيار وبشهود خالق الليل والنهار: قال السعدى

وفى توصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ "يا معاذ انى محدثك بحديث ان انت حفظته نفعك وإن انت ضيعته انقطعت حجتك عند الله تعالى يا معاذ ان الله تبارك وتعالى خلق سبع املاك قبل ان يخلق السماوات والارض فجعل لكل سماء من السبعة ملكا بوابا فيصعد عليه الحفظة بعمل العبد من حين اصبح الى حين امسى له نور كنور الشمس حتى اذا طلعت به الملائكة الى السماء الدنيا زكته وكثرته فيقول الملك الموكل للحفظة قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا صاحب الغيبة امرنى ربى ان لا ادع عمل من اغتاب الناس يتجاوزنى انه كان يغتاب الناس" .
قال عليه السلام "ثم يأتى الحفظة بعمل صالح من اعمال العبد فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به الى السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بالسماء الثانية قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا ملك الفخر انه اراد بعمله هذا عرض الدنيا امرنى ربى ان ادع عمله يتجاوز الى غيرى انه كان يفتخر على الناس فى مجالسهم" .
قال عليه السلام "ويصعد الحفظة بعمل عبد يبتهج نورا من صدقة وصيام وصلاة قد اعجب الحفظة فيتجاوزون به الى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا ملك الكبر امرنى ربى ان لا ادع عمله يجاوزنى انه كان يتكبر على الناس فى مجالسهم" .
قال عليه السلام "ويصعد الحفظة بعمل عبد يزهو كما يزهو الكوكب الدرى من صلاة وتسبيح وحج وعمرة حتى يجاوزون به الى الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا صاحب العجب امرنى ربى ان لا ادع عمله يجاوزنى انه كان اذا عمل عملا ادخل العجب فيه" .
قال عليه السلام "ويصعد الحفظة بعمل عبد حتى يجاوزون به الى السماء الخامسة كانه العروس المزفوفة الى اهلها فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انا ملك الحسد انه كان يحسد من يتعلم العلم ويعمل لله وكل من يأخذ بنصيب من العبادة كان يحسدهم ويعيبهم امرنى ربى ان لا ادع عمله يجاوزنى" .
قال عليه السلام "ويصعد الحفظة بعمل عبد من صيام وصلاة وزكاة وحج وعمرة فيجاوزون به الى السماء السادسة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه انه كان لا يرحم انسانا من عباد الله قط واذا أصابهم بلاء وضر كان يشمت فيهم انا ملك موكل بالرحمة امرنى ربى ان لا ادع عمله يجاوزنى" .
قال عليه السلام "ويصعد الحفظة بعمل عبد من زكاة وصوم وصلاة وحج وعمرة وخلق حسن وذكر لله ويشيعه ملائكة السموات حتى يقطعون الحجب كلها الى الله عز وجل فيقفون بين يديه ليشهدوا له بالعمل الصالح المخلص لله فيقول الله عز وجل انتم الحفظة على عمل عبدى وانا الرقيب على قلبه انه لم يردنى بهذا العمل واراد به غيرى فعليه لعنتى فتقول الملائكة كلهم عليه لعنتك ولعنتنا فتلعنه السموات السبع ومن فيهن" .
قال معاذ قلت يا رسول الله كيف لى بالنجاة والخلوص قال "اقتد بى وعليك باليقين وان كان فى عملك تقصير وحافظ على لسانك من الوقيعة" اى الغيبة "فى اخوانك من حملة القرآن ولا تزك نفسك عليهم ولا تدخل عمل الدنيا بعمل الآخرة ولا تمزق الناس فيمزقك كلاب النار يوم القيامه فى النار ولا تراء بعملك الناس"

وعن ابى يزيد البسطامى قدس سره قال كابدت العبادة اى اتعبت نفسى فيها ثلاثين سنة فرأيت قائلا يقول يا ابا يزيد خزائنه مملوة بالعبادة ان اردت الوصول اليه فعليك بالذلة والاحتقار والاخلاص فى العمل
-----
روح البيان لإسماعيل حقي

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة فبراير 10, 2023 4:13 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ ٢٣ودلت الآية على ان الاستعانة بالخلق لا تغنى شيأ وما يغنى رجوع العاجز عن العاجز فلا ترفع حوائجك الا الى من لا يشق عليه قضاؤها ولا تسأل الا من لا تفنى خزائنه ولا تعتمد الا على من لا يعجز عن شئ ينصرك من غير معين ويحفظك من كل جانب ومن غير صاحب ويغنيك من غير مال فيقل اعداد الاعداء الكثيرة اذا حماك ويكثر عدد المال القليل اذا كفاك {ان كنتم صادقين} فى ان محمدا تقوله من تلقاء نفسه وان آلهتكم شهداؤكم وهو شرط جوابه محذوف تقديره فافعلوا اى فائتوا بسورة من مثله.وعن ابن مسعود رضى الله عنه انه قال يرجع أتباع بليس كل عشية الى سيدهم فيقول كل واحد منهم بين يديه فعلت كذا وغررت فلانا الزاهد حتى يقول اصغرهم انا منعت صبيا من الكتاب فيقوم ابليس بين يديه ويقعده الى جنبه فرحا بما فعل وقالت الحكماء حق الولد على ابويه ثلاثة ان يسمياه باسم حسن عند الولادة وان يعلماه القرآن والادب والعلم وان يختناه ثم ان المقصد الاصلى هو العمل بالقرآن والتخلق بآدابه كما قيل "مراد ار نزول قرآن تحصيل سيرت خوبست" * نه ترتيل سوره مكتوب" وللقرآن ظهر وبطن ولبطنه بطن الى سبعة ابطنقال الشيخ نجم دايه فظاهره يدل على ما فسره العلماء وباطنه يدل على ما حققه اهل التحقيق بشرط ان يكون موافقا للكتاب والسنة ويشهدا عليه بالحق فان كل حقيقة لا يشهد عليها الكتاب والسنة فهى الحاد وزندقة لقوله تعالى { ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب مبين } [الأَنعام: 59].
وقال ايضا فى تأويل الآية { وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا } [البقرة: 23].
جعل الله اعراض المعرضين قباب غيرته لحبيبه المرسل لئلا يشاهدوا من الله حبيبه وجعل اعتراض المعترضين سرادقات عزته لئلا يطلعوا على الله وكتابه وسماه عليه السلام بالعبد المطلق ولم يسم غيره الا بالعبد المقيد باسمه كما قال { واذكر عبدنا أيوب } [ص: 41] }{ { واذكر عبدنا داوود } [ص: 17].
وغيرهما وذلك لان كمال العبودية ما تهيأ لاحد من العالمين الا لحبيبه عليه السلام وكمال العبودية فى كمال الحرية عما سوى الله وهو مختص بهذه الكرامة كما اثنى عليه بقوله { ما زاغ البصر وما طغى } [النجم: 17] { فأْتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله } [البقرة: 23].
اى الحاضرين معكم يوم الميثاق لانكم وانهم ومحمدا كنتم جميعا مستمعين خطاب ألست بربكم مجتمعين فى جواب بلى فلو كان محمد قادرا على اتيان القرآن من تلقاء نفسه فهو وانتم فى الاستعداد الانسانى الفطرى سواء فائتوا بالقرآن من تلقاء انفسكم ايضا {إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التى} هى القهر وصورة غضب الحق كما قال الله للنار "انما انت عذابى اعذب بك من اشاء من عبادى" .
{وقودها الناس} انانية الانسان التى نسيان الله من خصوصيتها {والحجارة} اى الذهب لانه به يحصل مرادات النفس وشهواتها وما يميل اليه الهوى فعبر عما يعبده انانية الانسان بالحجارة لان اكثر الاصنام كان من الحجارة وعن انانية الانسان بالناس لانها انما طلبت غير الله وعبدته لنسيان الحق ومعاهدة يوم الميثاق ثم جعلها وقود النار لقوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [الأَنبياء: 98].
{اعدت للكافرين} خاصة ولكن يطهر المذنبون بها بتبعية الكافرين كما ان الجنة خلقت واعدت للمتقين ولكن يدخلها المذنبون من أهل الايمان بعد تطهيرهم بورود النار والعبور عليها بتبعية المتقين يدل عليه قول النبى صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى "خلقت الجنة وخلقت لها اهلها وبعمل اهل الجنة يعملون وخلقت النار وخلقت لها اهلها وبعمل اهل النار يعمُلون" .
----
روح البيان لإسماعيل حقي

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين فبراير 20, 2023 11:37 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


يقول الحقّ جلّ جلاله: يا عبادي اعبدوني بقلوبكم بالتوحيد والإيمان، وبجوارحكم بالطاعة والإذعان، وبأرواحكم بالشهود والعيان، فأنا الذي أظهرتكم من العدم - أنتم ومَن كان قبلكم - وأسبلت عليهم سوابغ النعم، الأرض تقلكم والسماء تظلكم، والجهات تكتنفكم، وأنزلت من السماء ماء فأخرجت به أصنافاً {من الثمرات رزقاً لكم}، فأنتم جوهرة الصدق، تنطوي عليكم أصداف مكنوناتي، وأنتم الذين أطلعتكم على أسرار مكنوناتي، فكيف يمكنكم أن تتوجهوا إلى غيري؟ وقد أغنيتكم بلطائف إحساني وبري، أنعمت عليكم أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد، خصصتكم بنور العقل والفهم، وأشرقت عليكم نبذة من أنوار القِدم، فبي عرفتموني، وبقدرتي عبدتموني، فلا شريك معي ولا ظهير، ولا احتياج إلى معين ولا وزير.
الإشارة: توجه الخطاب إلى العارفين الكاملين في الإنسانية الذي يعبدون الله تعظيماً لحق الربوبية، وقياماً بوظائف العبودية، وفيهم قال صاحب العينية:
هُم الناسُ فالزمْ إنْ عَرفْتَ جَنَابَهُمْ فَفِيهِم لِضُرِّ العالمين مَنَافعُ

وقال قبل ذلك:
همُ الْقَصْدُ للملهوفِ والكنزُ والرجَا ومنهم يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طامعُ
بهِم يَهْتَدي للعينِ مَن ضَلَّ في العَمَى بهِم يُجذَبُ العُشَّاقُ، والرَّبْعُ شاسعُ
هم القَصْدُ والمطلوبُ والسؤلُ والمنَى واسْمُهُم لِلصَّبِّ في الحبِّ شَافعُ

فعبادة العارفين: بالله ومن الله وإلى الله، وعبادة الجاهلين: بأنفسهم ومن أنفسهم ولأنفسهم، عبادة العارفين حمد وشكر، وعبادة الغافلين اقتضاء حظ وأجر، عبادة العارفين قلبية باطنية، وعبادة الغافلين حسية ظاهرية، يا أيها الناس المخصوصون بالأنس والقرب دوموا على عبادة القريب، ومشاهدة الحبيب، فقد رَفَعْتُ بيني وبينكم الحجب والأستار، وأشهدتكم عجائب الألطاف والأسرار، أبرزتكم إلى الوجود، وأدخلتكم من باب الكرم والجود، ومنحتكم بفضلي غاية الشهود، لعلكم تتقون الإنكار والجحود، وتعرفونني في كل شاهد ومشهود.
فقد جعلت أرض نفوسكم مهاداً لعلوم الشرعية، وسماء قلوبكم سقفاً لأسرار الحقيقة، وأنزلت من سماء الملوكت ماء غيبياً تحيا به أرض النفوس، وتهتز بواردات حضرة القدوس، فتخرج من ثمرات العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، والأحوال المرضية، ما تتقوت به عائلة المستمعين، وتنتعش به أسرار السائرين، فلا تشهدوا معي غيري، ولا تميلوا لغير إحساني وبري، فقد علمتم أني منفرد بالوجود، ومختص بالكرم والجود، فكيف يرجى غيري وأنا ما قطعت الإحسان؟! وكيف يلتفت إلى ما سواي وأنا بذلت عادة الأمتنان؟! مني كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد، فثقوا بي كفيلاً، واتخذوني وكيلاً، أعطكم عطاء جزيلاً، وأمنحكم فخراً جليلاً.
ولما أمر عباده بعبادته وتوحيده، أمرهم بتصديق كلامه والإيمان برسوله.
----
البحر المديد لإبن عجيبة الحسيني

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء فبراير 22, 2023 11:55 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ ٢٣ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ ٢٤ وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ٢٥
الإشارة: وإن كنتم يا معشر العوام في شك مما خصصنا به ولينا من الأنوار، وما أنزلنا على قلبه من المعارف والأسرار، وما ظهر عليه من البهجة والأنوار، وما اهتدى على يديه من الصالحين والأبرار، فأتوا أنتم بشيء من ذلك، وانتصروا بما قدرتم من دون الله إن كنتم صادقين في المعارضة، قال القشيري: وكما أن كيد الكافرين يَضْمَحِلُّ في مقابلة معجزات الرسول، فكذلك دعاوى المُلْبِسين تتلاشى عند ظهور أنوار الصديقين. هـ.
فإن لم تفعلوا ما ذكرنا من المعارضة، ولن تقدروا على ذلك أبداً، فأَذْعنوا، واخْضعوا، واتقوا نار القطيعة والحظوظ، والطمع والهلع، التي مادتها النفوس والفلوس؛ إذ بهما هلك مَن هلك وفاز مَن فاز؛ أُعدت تلك النار للمنكرين الخصوصية، الجاحدين لوجود التربية النبوية.
وبَشِّر الصديقين بوجود الخصوصية، المنقادين لأهلها، أن لهم جنات المعارف في الدنيا، وجنات الزخارف في الآخرة، تجري من تحت قلوب أهلها أنوار العلوم والمعارف، فإذا كشف لهم يوم القيامة عن أسرار ذاته، قالوا: هذا الذي عرفناه من قبل في دار الدنيا، إذ الوجود واحد والمعرفة متفاوتة، وأتُوا بأرزاق المعارف متشابهة؛ لأن مَنْ عَرَفه في الدنيا عرفه في الآخرة، ومَن أنكره هنا أنكره يوم القيامة، إلا في وقت مخصوص على وجه مخصوص، ولهم في جنات المعارف عرائس المعارف والكشوفات، مطهرات من أدناس الحس وعبث الهوى والشهوات، وهم بعد تمكنهم من شهود الذات، خالدون في عُشّ الحضرة، فيها يسكنون وإليها يأوون.
وقال القشيري: كما أن أهل الجنة يجدد لهم النعيم في وقت، فالثاني عندهم على ما يظنون كالأول، فإذا ذاقوه وجدوه غير ما تقدم، كذلك أهل الحقائق: أحوالهم في الزيادة أبداً، فإذا رقي أحدهم عن محله، توهم أن الذي سيلقاه في هذا النَّفس مثل ما تقدم، فإذا ذاقه وجده فوق ذلك بأضعاف، كما قال قائلهم:
ما زِلتُ أنزلُ مِنْ وِدادِكَ مَنْزِلاً تَتحَيرُ الألبابُ عِندَ نُزُولهِ

ولما ضرب الله الأمثال في القرآن للمنافقين وغيرهم تكلم في ذلك بعض الكفار والملحدين
-----
البحر المديد لإبن عجيبة الحسيني


_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس فبراير 23, 2023 11:45 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


{يَكَادُ ٱلْبَرْقُ} أي: برق التجلي اللطفي {يَخْطَفُ} يعمي {أَبْصَٰرَهُمْ} التي يرون بها أنفسهم ذوات موجودات فاضلات به {كُلَّمَا أَضَآءَ} وأشرق {لَهُمْ} التجلي اللطفي {مَّشَوْاْ} ساروا {فِيهِ} باقين ببقائه {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} بالتجلي القهري {قَامُواْ} سكنوا على ما هم عليه من عدم الصرف {وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ} التجلي عليهم بالقهر دائماً {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ} أي: بتعيناتهم التي ظنوا أنهم موجودات حقيقية بسببها، وصيرهم فانين معدومين لا وجود لهم أصلاً، كما هم عليه دائماً، قل لهم يا أكمل الرسل بلسان الجمع: {إِنَّ ٱللَّهَ} المتجلي بالتجلي اللطفي {عَلَىٰ} إبقاء {كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] على إفنائه بالتجلي القهري؛ إذ لا يجري في ملكه إلا ما يشاء، ثم نبه تعالى على كيفية رجوعهم إليه وتنبههم على تجلياته، فناداهم إشفاقاً لهم وامتناناً عليهم ليقبلوا إليه فقال:
{يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ} الذين نسوا حقوق الله بمتابعة آبائكم {ٱعْبُدُواْ} تذللوا وتفزعوا وانقادوا {رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ} أخرجكم وأظهركم من كتم العدم بإشراق تجلياته اللطيفة إلى فضاء الوجود {وَ} أيضاً أخرج آباءكم {ٱلَّذِينَ} مضوا {مِن قَبْلِكُمْ} إن عبدتم كما ذكر {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] تحذرون من تجلياته القهرية، فهو في بدء الوجود في المعاني اعبدوا ربكم:
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً} مبسوطاً؛ لتستقروا عليها وتسترزقوا منها {وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً} مرفوعاً؛ لترتقي الأبخرة والأدخنة والمتصاعدة إليهم وتتراكم السحب فيها {وَ} بعد وجود هذه الأسباب {أَنزَلَ} بمحض فضله وفيضه {مِنَ} جانب {ٱلسَّمَآءِ مَآءً} منبتاً لكم الزروع والأثمار المقومة لمزاجكم وإذا أنزل {فَأَخْرَجَ بِهِ} سبحانه؛ أي: بسبب الماء {مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ} أي: أخرج رزقاً لكم من الثمرات والطعوم؛ لتعيشوا بها وتقدروا إلى التوجه إلى توحيده وتفريده الذي هو غاية إيجادكم وخلقكم وما يترتب على وجودكم، وإذا كان كذلك {فَلاَ تَجْعَلُواْ} أيها المنعمون بانتزاع النعم {للَّهِ} الواحد القهار لجميع الأغيار {أَندَاداً} أمثالاً في استحقاق العبادة والإيجاد والتكوين والترزيق والإنبات والإضاء وغير ذلك مما يتعلق بالألوهية {وَأَنْتُمْ} إن وصلتم إلى مرتبة التوحيد الذي {تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] أن سلسلة الأسباب منتهية إليه سبحانه، ولا موجود إلا هو، بل لا موجود إلا هو { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأنعام: 59] والتحقيق بهذا المقام والوصول إلى هذا المرام لا يحصل إلا بعد التخلق بأخلاق الله، والتخلق بأخلاقه لا يتيسر إلا بمتابعة المتخلق الكامل، وأكمل المتخلفين نبينا صلى الله عليه وسلم، والمتخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم إنما يكون بالكتاب الجامع لجميع أخلاق الله، المنزل على مرتبته، الجامع جميع مراتب المظان، وفي نسخة أخرى: المظاهر.
{وَإِن كُنْتُمْ} أيها المحجوبون بالأديان الباطلة {فِي رَيْبٍ} شكٍ وارتيابٍ {مِّمَّا نَزَّلْنَا} من مقام كما ترتيبنا وإرشادنا {عَلَىٰ عَبْدِنَا} الذي هو خليفتنا ومرآنا ومظهر جميع أوصافنا، وحامل وحينا المنزل عليه، المشتمل على جميع الأخلاق الإلهية {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} جملة قصيرة {مِّن مِّثْلِهِ} إذ من خواص هذا الكتاب أن مجموعة مشتمل على جميع الأخلاق الإلهية، وكل سورة منه تشتمل على ما اشتمل عليه المجموع، تأمل.
{وَ} إن عجزتم أنتم عن إتيانه {ٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم} حضراءكم الذين أنتم تشهدون بألوهيتهم وترجعون في الخطاب إليهم {مِّن دُونِ ٱللَّهِ} المحيط بكم وبهم، فأمروهم بإتيان كل سورةٍ جامعة جميع أوصاف المعبود بالحق {إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ} [البقرة: 23] أنهم آلهة غير الله، سبحان الله وتعالى عما يقولون.
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} فإن لم تفعلوا الإتيان أنتم في حين التحدي والمعارضة {وَلَن تَفْعَلُواْ} أيضاً بعدما رجعتم إليهم، فلا تكابروا ولا تنازعوا، بل انقادوا وامتثلوا بأوامر الكتاب المنزل على عبدنا، واجتنبوا عن نواهيه {فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي} أخبر فيه بأنه {وَقُودُهَا} أي: ما يتقد به النار {ٱلنَّاسُ} الذين يعبدون غير الله {وَٱلْحِجَارَةُ} التي هي معبوداتهم التي نحتوها بأيديهم وما {أُعِدَّتْ} هذه النار إلا {لِلْكَٰفِرِينَ} [البقرة: 24] الجاهلين طريق توحيد الحق، والمكذبين كتاب الله ورسوله المنزل عليه.
{وَبَشِّرِ} المؤمنين الموقنين الموحدين {ٱلَّذِين آمَنُواْ} بالكتاب المنزل على عبدنا {وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ} المؤمنون فيه، واجتنبوا عن الفاسدات المنهي عنها {أَنَّ} أي: حق وثبت {لَهُمْ} بعد رفع القيود {جَنَّٰتٍ} متنزهاتٍ من العلم والعين والحق التي هي المعارف الكلية المخلصة عن جميع القيود المنافية للتوحيد {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ} أنهار المعارف الجزئية المترتبة على تلك المعارف الكلية {كُلَّمَا رُزِقُواْ} حظوا منها؛ أي من تلك المعارف الكلية {مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ} حاصلةٍ من شجرة اليقين {رِّزْقاً} حظاً كاملاً يخصلهم من رتبة الإمكان {قَالُواْ} متذكرين العهود السابقة: {هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} من الأعيان الثابتة، أو في عالم الأسماء والصفات، أو في اللوح المحفوظ، أو في عالم الأرواح إلى غير ذلك من العبارات، ومن غايات التلذاذهم ونهاية شوقهم والتذاذهم بالثمرة المحظوظ بها {وَأُتُواْ بِهِ} متماثلاً {مُتَشَٰبِهاً} متجدداً بتجدد الأمثال {وَلَهُمْ فِيهَآ} في تلك المرتبة الكلية {أَزْوَٰجٌ} أعمال صالحة ونيات خالصة {مُّطَهَّرَةٌ} عن شوائب الأغيار المانعة عن الوصول إلى دار القرار {وَهُمْ فِيهَا} في تلك المراتب {خَٰلِدُونَ} [البقرة: 25] دائمون يداومه، باقون ببقائه، مستغرقون بمشاهدة لقائه سبحانه. أرزقنا بلطفك حلاوة التحقيق وبرد اليقين.
----
تفسير الجيلاني

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة فبراير 24, 2023 5:10 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358

إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ ٢٦ -البقرة


قوله جلّ ذكره: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}.
الاستحياء من الله تعالى بمعنى التَرْك، فإِذا وصف نفسه بأنه يستحي من شيء فمعناه أنه لا يفعل ذلك وإذا قيل لا يستحي فمعناه لا يبالي بفعل ذلك.
والخَلْقُ في التحقيق - بالإضافة إلى وجود الحق - أقلُّ من ذرةٍ من الهباء في الهواء، لأن هذا استهلاك محدود في محدود، فسِيَّان - في قدرته - العرش والبعوضة، فلا خَلْقٌ العرش أشق وأعسر، ولا خَلْق البعوضة أخف عليه وأيسر، فإِنه سبحانه مُتَقَدِّسٌ عن لحوق العُسْر واليُسْر.
فإذا كان الأمر بذلك الوصف، فلا يستحي أن يضرب بالبعوضة مثلاً كما لا يستحي أن يضرب بالعرش - فما دونه - مثلاً.
وقيل إن جهة ضرب المثل بالبعوضة أنها إذا جاعت فَرَّتْ وطارت، وإذا شبعت تشققت فَتَلِفَتْ - كذلك { إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى } [العلق: 6].
وقيل ما فوقها يعني الذباب، وجهة الإشارة فيه إلى وقاحته، حتى أنه ليعود عند البلاغ في الذب، ولو كان ذلك في الأسد لم ينجُ منه أحد من الخَلْق، ولكنه لمَّا خَلَق القوة في الأسد خلق فيه تنافراً من الناس، ولما خلق الوقاحة في الذباب خلق فيه الضعف، تنبيهاً منه سبحانه على كمال حكمته، ونفاذ قدرته.
قوله جلّ ذكره: {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً}.
فأمّا من فتحت أبصار سرائره فلا ينظر إلى الأغيار والآثار إلا بنظر الاعتبار، ولا يزداد إلا نفاذ الاستبصار، وأمَّا الذين سكرت أبصارهم بحكم الغفلة فلا يزيدهم ضربُ الأمثال إلا زيادة الجهل والإشكال والأنكال.
قوله جلّ ذكره: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ}.
هذا الكتاب لقومٍ شفاءٌ ورحمة، ولآخرين شقاء وفتنة. فمن تعرَّف إليه يوم الميثاق بأنوار العناية حين سمعوا قوله: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172] تذكَّروا عند ورود الواسطة - صلوات الله عليه وعلى آله - قديم عهده، وسابقَ وُدِّه فازدادوا بصيرة على بصيرة، ومَنْ رَسَمَهُ بِذُلِّ القطيعة، وأنطقه ذلك اليوم عن الحسبان والرهبة ما ازدادوا عند حصول الدعوة النبوية إلا جُحداً على جُحد، وما خفي عليهم اليوم صادق الدلالة، إلا لِمَا تقدم لهم سابقُ الضلالة. لذلك قال الله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ}.
-----
لطائف الإشارات للقشيري


_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت فبراير 25, 2023 8:52 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2358


{فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} امّا الذين شاهدوا بنعت الاصطفاء في مشاهد الازل وأوا جمال مشاهدة الحق وسَمِعوا كلامه فيعلمون ان القرأن حقّ من ربّهم لانهم صادقوا حقيقة مقام التصديق بنعت الارواح قبل كونِ صورتهم وبعد كونها قابلوا الاخر بالاوّل والاول بالاخر وجدوا صرفا صدقا فاستقاموا في الصدق والاخلاص حين سَمِعُوا خطاب الحق {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} الَّذين لم يبلغوا مقام المشاهدة وَقَفوا في بحر الاشكال ولم يهتدوا بضرب الامثال قوله تعالى {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} القرأن بحر عجائب الربوبية واخبار غرائب اَسرار صفة القدسية فمن كمله الله بكمل نور الحقيقة يرَىَ بعين السّر عرائس مشاهدات الصفات ويَعشق بها ويَبْقى في طلب مزيد حقيقة علمها ويندرج بهجته تحت احكامها برسم العبوديّة ومتابعة المخاطبة ومن اعمى الله قبله عن مشاهدة تجلى كتابه طريق النكرة ويغرق في بحر الضلالة وقبل بين العبد وبين الله بحران الهلاك وبحر النجاة وقد يهلك في بحر النجاة خلق كثير كما قال يضل بهي كثيرا ويهدى به كثير.
-----
عرائس البيان في حقائق القرآن للبقلي

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 301 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 6, 7, 8, 9, 10, 11, 12 ... 21  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 9 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط