حتى لا تحرم من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام
درة من درر مولانا الدكتور محمود صبيح حفظه الله و زاده نورا و بركة و علما و قربا من سيدنا النبى صلى الله على حضرته و آله الكرام الطيبين و سلم تسليما كثيرا
الخلط بين عدم ثبوت الأحكام الشرعية بمجرد الرؤيا وبين العمل بالمنام
بعد أن استعرضنا تناول أصحاب النبى صلى الله عليه وآله وسلّم للرؤيا وعملهم بها ما لم تخالف الشرع مخالفة واضحة فى أمر متفق عليه نستعرض آراء بعض الفقهاء . تكلم الفقهاء كثيرا على مشروعية العمل بالرؤيا ، معظم كلامهم على موضوع محدد وهو " هل يثبت أمر شرعى - لم يكن موجودا أو مشرعا من قبل- برؤيا بعد انتقال النبى صلى الله عليه وآله وسلّم إلى الرفيق الأعلى " ؟ مع ضعف الإيمان وغربة الدين وقول النبى صلى الله عليه وآله وسلّم " إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون , ويشهـدون ولا يستشهـدون , وينذرون ولا يفون , ويظهر فيهم السِّمَن ". خاف العلماء على دين الله من غلو الغالين ، ومن خطورة المحرفين بعدما ثبت أن كل طائفة من الطوائف كانت تضع أحاديثا موضوعة وتنسبها إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلّم تقوية لأمر وشأن هذه الطوائف . فالكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قد حدث ، والأحاديث الموضوعة الباطلة خير شاهد على ذلك ، وقد حذر النبى صلى الله عليه وآله وسلّم من الكذب عليه . قرر الفقهاء أن " الأحكام الشرعية لا تثبت بالمنامات " ، وهذا هو قول جمهور العلماء ، منعا لحدوث فوضى - كأن يقول إنسان لقاض : أكلت مال اليتيم بسبب رؤيا رأيتها ، ويأتى آخر ويقول : رأيت رؤيا أن يؤذن المسلمون كذا مرة عند صلاة الفجر وكذا مرة عند صلاة الظهر ، أو يؤذنوا بكيفية معينة , وهنا نقول له أن الأحكام الشرعية قد ثبتت ، وأن رؤياك لابد لها من تأويل - . وكذلك منعا للكذب على النبى صلى الله عليه وآله وسلّم ، وخوفا من أن يؤصل بعض الناس الرؤيا كنوع من أنواع التشريع وقد قال الله عز وجل : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة 3) - بالرغم من الأحاديث التى ذكرناها من قبل فى أهمية الرؤيا -. بعض الناس فهم المقالة السابقة - الأحكام الشرعية لا تثبت بالمنامات - ونقلها بمعنى آخر وهو عدم العمل بالمنام ، وشتان بين ثبوت أمر شرعى وبين العمل بالمنام . فالأمر الشرعى يستدل عليه بالكتاب والسنة والأجماع والقياس ، وغير ذلك من مصادر التشريع التى ينبنى عليها ثبوت الأحكام . العلماء الأفاضل كلامهم واضح فى أن الرؤيا فى حد ذاتها لا تثبت حكما شرعيا لم يكن موجودا أو معروفا من قبل إلا للأنبياء ، إذ أن رؤيا الأنبياء وحى ، ويذكرون الرؤى استئناسا للحكم الشرعى لا أنها حكم شرعى . أما العمل بالمنام فهو أحد مقاصد أن يرى العبد الرؤيا ، وإلا لم يكن لذلك معنى إلا قصر فوائد الرؤيا فى مجرد الإخبار ، وقد عمل بالرؤيا الصحابة والتابعون والسلف الصالح ، ولم ينقل إلينا فى كتب أهل السنة والجماعة حتى سنة ألف من الهجرة (1000 هجريا ) أن أحدا من الأكابر من العلماء أو الصالحين أو الأولياء حكى منامه ولم يعمل بمنامه ، وهذا حتى عامنا هذا ( 1426 هـ ) ومن وجد ذلك فليبعثه لنا مشكورا ، ولن يجد ذلك بإذن الله . وسيأتى بمشيئة الله فى فصل " ذكر من رأى " باب " من رأى النبى من الفقهاء " وستجد نماذج كثيرة جدا وواضحة من أفعال وأقوال العلماء فى العمل بالرؤيا . مناقشة بعض العلماء فيما ذهبوا إليه من عدم العمل بالرؤيا أسباب اضطراب واختلاف بعض العلماء فى العمل بالرؤيا 1- اختلاف تقريرات وألفاظ وتعبيرات العلماء الذين حظوا برؤية النبى صلى الله عليه وآله وسلّم عن العلماء الذين لم يروه صلى الله عليه وآله وسلّم ، فمن يرى النبى صلى الله عليه وآله وسلّم يشعر بيقين وبقوة معينة ، فقد عاين بنفسه ، واطمأن قلبه وسكن فؤاده ، وأحس بمعنى وفائدة أن يرى المرء النبى صلى الله عليه وآله وسلّم فى المنام ، مثال ذلك : 1- أبو إسحاق الشيرازى - شيخ الشافعية فى زمانه - لما أفتى بشرعية العمل بالرؤيا المنامية فى إحدى قوليه ، وهو من العلماء الذين رأوا النبى صلى الله عليه وآله وسلّم فى منامهم . 2- الإمام القاضى أبى بكر بن الطيب فى إقراره أن رؤيته فى كل حالة ليست باطلة ولا أضغاثا بل هى حق فى نفسها ، ولو رؤى صورته فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان بل هو من قبل الله . القاضى أبو الطيب من كبار أئمة الشافعية ، وقد رأى النبى صلى الله عليه وآله وسلّم على ما سنذكره فيما بعد . 3- الإمام الكبير الحافظ ابن عساكر ملأ كتابه " تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام أبى الحسن الأشعرى " برؤى لكثير من الأئمة للنبى صلى الله عليه وآله وسلّم يأمرهم أو يدلهم لاعتقاد الإمام أبى الحسن الأشعرى . 4- الإمام ابن أبى جمرة الذى كثيرا ما يدعو ابن حجر فى فتح البارى بقوله عنه " نفع الله به " له كتاب المرائى الحسان، حكى فيه رؤياه للنبى صلى الله عليه وآله وسلّم 5- الإمام السيوطى الذى كان يرى النبى صلى الله عليه وآله وسلّم يقظة ومناما. تجد العلماء من فقهاء وحفاظ ومفسرين ونحاة وغيرهم ممن يرى النبى صلى الله عليه وآله وسلّم تختلف ألفاظهم وتعبيراتهم وشروحهم لحديث " من رآنى فى المنام فقد رآنى، فإن الشيطان لا يتخيل بى ، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " بألفاظه المختلفة عن العلماء الذين لم يحظوا برؤية النبى صلى الله عليه وآله وسلّم . الذين دققوا فى الأمر ممن لم يروه صلى الله عليه وآله وسلّم خافوا من تلاعب الناس بالشريعة ، أما الذين كانوا يرونه صلى الله عليه وآله وسلّم فكانوا على علم بأن لهذا الدين رب يحميه ، وعلى علم بأن الكاذبين فى رؤياهم للنبى صلى الله عليه وآله وسلّم سرعان ما يفتضحون. وأنت ترى الأمر واضحا جليا فيما سقناه ، وفيما سنسوقه خلال هذا الكتاب. 2- خطورة وأهمية الأحاديث التى تتكلم عن رؤية النبى صلى الله عليه وآله وسلّم فى المنام ، ولا يخفى شرف من حظى برؤية النبى صلى الله عليه وآله وسلّم فى المنام ، وقلق من لم يحظ . 3- اختلاف فهم وتعبيرات العلماء لعالم الحقيقة والمثال والصور، ومن ذلك اختلافهم فيمن يرى النبى صلى الله عليه وآله وسلّم فى المنام ، هل رآه بذاته الشريفة أم أن هذه الرؤيا مثال له صلى الله عليه وآله وسلّم . 4- اختلاف مفهوم ومنظور العلماء لسبب رؤية المرء للنبى صلى الله عليه وآله وسلّم ، فكثير منهم عندهم انحسار الرؤيا فى الإخبار بالبشارة أو النذارة . 5- اختلاف الفقهاء وخاصة فى منظورهم للبدعة والتبديع . مثال ذلك : استعراض الإمام الشاطبى لرؤية الكتانى رحمه الله . قال الإمام الشاطبى فى كتابه الاعتصام (2/260-261) : وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصـة ، وأما استفادة الأحكام فلا كما يحكى عن الكتانى رحمه الله قال : رأيت النبى صلى الله عليه وآله وسلّم فى المنام فقلت ادع الله أن لا يميت قلبى فقال : " قل كل يوم أربعين مرة يا حى يا قيوم لا إله إلا أنت " ، فهذا كلام حسن لا إشكال فى صحته ، وكون الذكر يحيى القلب صحيح شرعا ، وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير وهو من ناحية البشارة ، وإنما يبقى الكلام فى التحديد بالأربعين وإذا لم يوجد على اللزوم استقام . وعن أبى يزيد البسطامى رحمه الله قال : رأيت ربى فى المنام فقلت : كيف الطريق إليك فقال : اترك نفسك وتعال . وشأن هذا الكلام من الشرع موجود فالعمل بمقتضاها صحيح لأنه كالتنبيه لموضع الدليل ، لأن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلاق والوقوف على قدم العبودية ، والآيات تدل على هذا المعنى كقوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى( 41)فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (النازعات 40-41). انتهى كلام الإمام الشاطبى . قلت : وفى كلام الإمام الشاطبى أدب مع أبى يزيد البسطامى ، وكذلك كان الإمام النووى ، الذى يكفره متشددو آخر الزمان ، هذا أولا . ثانيا : الذى اعترض عليه الإمام الشاطبى نقطتين : 1 - التحديد بالأربعين. 2 - وإذا لم يوجد على اللزوم استقام. ونسى نقطة ثالثة وهى : 3- تعيين وتوقيت الذكر وذلك بين صلاة السنة والفرض فى الفجر. قال الإمام الشاطبى أيضا : الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعا على حال إلا أن تعرض على ما فى أيدينا من الأحكام الشرعية ، فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعراض عنها. وقال أيضا (ص262) : وأما الرؤيا التى يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الرائى بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضا ، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته فالحكم بما استقر وإن أخبر بمخالف فمحال لأنه صلى الله عليه وآله وسلّم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائى النومية لأن ذلك باطل بالإجماع " قلت : فات الإمام الشاطبى أن الموافق للشريعة عنده ، قد يكون غير موافق للشريعة عندغيره والعكس أيضا . الإمام الكتانى رأى النبى صلى الله عليه وآله وسلّم ما يقرب من ثمانمائة مرة ( 800 ) ، فلو قال له الشاطبى ما قاله ألف مرة فلن يسمع له. الإشكال عند الإمام الشاطبى إشكال فقهى ، أى أنه طبق ما يفهمه فى الشرع فى موضوع خلافى على الرؤيا وحكم عليها ، بالتالى الأئمة الذين لا يجدون حرجا فى الذكر بالعدد وفى أوقات معينة وفى استمرارية معينة ، ولا يرون فى ذلك بدعة ، ومعهم فى ذلك دليلهم لن يكون كلامهم على الرؤيا وتعقيبهم كتعقيب الشاطبى . لذلك تجد كثيرا من الأئمة لهم ورد " يا حى يا قيوم لا إله إلا أنت " أربعين مرة بين سنة الفجر والفرض ، منهم مثلا : الإمام أبو عمر المقدسى ، الذى قال عنه الحنابلة أنه قطب ، وممن قال عنه ذلك ابن تيمية . وأبو عمر المقدسى حج لما رأى النبى صلى الله عليه وآله وسلّم فى المنام يدعوه للحج ، على ما سيأتى فى باب " ذكر من رأى النبى صلى الله عليه وآله وسلّم من الفقهاء ". الصلاة بأعداد معينة وفى أوقات معينة كصلاة سيدنا ومولانا على زين العابدين ألف ركعة فى اليوم والليلة - لذلك سمى " زين العابدين ". وصلاة الإمام أحمد ثلاثمائة ركعة فى اليوم والليلة أمر معروف. الذكر بعدد وبغير ما ورد ، والصلاة بأعداد معينة غير منصوص عليها فى القرآن والسنة سنتكلم عنها بمشيئة الله فى فصل " أسباب الحجب " . إذاً المنظور الفقهى للفقيه وقواعده من ضمن أسباب نظرته لهذا الموضوع الخطير مع عدم انتباه الفقيه أن نفس رأيه الفقهى مختلف فيه .
حدود العمل بالرؤيا المنامية يتبع
_________________
مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم
|