(مسألة) : الباري تعالى باق : والدليل على أنه باق ما قدمناه من الدليل على أنه تعالى قديم ، فإن القديم يستحيل عدمه وإذا ثبت ذلك وجب وصفه بالبقاء لأن البقاء استمرار الوجود.
والدليل عليه من الشرع قوله تعالى : ( ويبقى وجه ربك ) وغير ذلك من الآيات.
(مسألة) : إذا ثبت أن الباري تعالى قادرٌ عالمٌ حيٌّ ، فعندنا الباري عالمٌ بعلم ، قادرٌ بقدرة ، وحيٌّ بحياة ، وعلمه قديم ، وقدرته قديمة ، وحياته قديمة ، والمعتزلة وافقونا على وصفه بأنه عالم قادر حي إلا أنهم نفوا العلم والقدرة والحياة ثم اختلفوا في العبارات عن وصفه بهذه الأوصاف.
فقال بعضهم هو عالم لنفسه ،وقوم قالوا عالم لا لنفسه ولا لعلة ، وقوم قالوا هذه الأحكام ثابتة بأنفسها ، ولابد في إثبات الصفات الأزلية من أصل تقدم ذكره ، وهو أن يعلم أن طريق إثبات الصفات اعتبار الغائب بالشاهد بجامع يجمع بينهما والجامع أربعة أشياء :
أحدها : العلة ،وذلك إذا رأينا حكماً ثابتاً في الشاهد بعلة ، وجب تعلق المعلول بتلك العلة في الغائب ، مثاله أن يكون العالم عالما في الشاهد مقيدا بالعلم فوجب أن يكون في الغائب مثل ذلك.
والثاني : الشرط ،فإذا ثبت في الشاهد حكمي تعلق بشرط وثبت مثل ذلك الحكم غائبا فيجب أن يكون مشروطا بذلك الشرط ، ومثاله أنشرط العالم في الشاهد أن يكون حيا فيشرط مثل ذلك في الغائب.
الثالث : الحقيقة والحد ، مثل قولنا حقيقة العالم من قام به علم فيقتضي في الغائب مثل ذلك.
الرابع : الدليل ، فإذا دل الدليل على مدلول عقلا لا يوجد الدليل إلا وهو دال عليه غائبا وشاهدا وذلك مثل دلالة الصنع على الصانع ، فالطريق في اعتبار الغائب بالشاهد بهذا الطريق ، ولا يعتبر مجرد الصورة حتى تضاهي مذهب الدهرية ويلزم من ذلك إثبات جسم محدود اعتبارا للغائب بالشاهد ،إذا عرفت هذه المقدمة :
فالدليل على إثبات الصفات لله تعالى أنه قد ثبت وتقرر أن وصفنا الحي في الشاهد بأنه عالم معلل بالعلم ، وقد وصفنا الحق سبحانه بكونه عالما.
فلا بد وأن يكون معللا بالعلم ، إذ لو جاز عالم لا علم له جاز تقدير علم لا يتصف محله بكونه عالما ، فلما استحال إثبات علم لا يتصف محله بكونه عالما شاهدا أو غائبا استحال إثبات عالم لا يتصف بالعلم شاهدا أو غائبا.
فإن قيل : بم أنكرتم على من قال لكم أن وصف الشاهد بكونه عالما إنما كان معللا بالعلم لأنه حكم جائز فافتقر إلى مقتضى أو مخصص ، فأما كونه تعالى عالما صفة واجبة وكونه واجبا يستقل بوجوبه عن مقتضى يقتضيه ، وصار هذا كما أن وجود الباري سبحانه وتعالى لما كان واجبا لم يتعلق بموجب ومقتضي ، ووجود المحدثات لما كان جائزا افتقر إلى مقتض يقتضيه ومخصص يخصصه.
قلنا : بم أنكرتم على من يقول لكم أن الحكم الجائز يتعلق بعلة جائزة ،والحكم الواجب يتعلق بعلة واجبة ، فكونه عالما لما كان وصفا واجبا يتعلق بعلة واجبة وهو علمه القديم وليس كما استشهدوا به من الوجود ، لأنا لم نعول على ما ادّعوه من الواجب والجائز ولكن وجوده سبحانه ليس له مقتضٍ لأنه لا أول له ، وما لا أول له لايتعلق بفاعل ، لأن الفعل لا بد أن يكون له أول ، على أن هذا الكلام يبطل عليهم بالشرط فإنهم زعموا أن كونه سبحانه وتعالى عالما مشروط بكونه حيا كما كون العالم في الشاهد مشروط بالحياة.
فإذا لم يفصلوا بين الجائز والواجب في الشرط امتنع الفصل بينهما في العلة.
طريقة أخرى ، أنه يقال لهم قد ثبت وتقرر أن الذي يحيط بالمعلوم ويتعلق به هو العلم لاستحالة أن يكون للعلوم قدرة أو حياة ، وقد ثبت أن المعلومات كلها معلومة لله تعالى وقد أحاط بها ويشهد لها قوله تعالى : ( وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) فوجب وصفه بالعلم.
ومن الدليل على ما ذكرناه أنا قد علمنا أن الحق تعالى موصوف بكونه عالما كما أنه موصوف بكونه مريدا ، ثم المعتزلة البصريون ساعدونا على أن كونه مريدا ليس لنفسه ، فكذا وصفه بكونه عالما وجب أن لا يكون للنفس ، والدليل عليه من الكتاب قوله : (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ).