ونعلم أن الليل والنهار آيتان واضحتان؛ والليل يناسبه القمر، والنهار تناسبه الشمس، وهم جميعاً متعلقون بفعل واحد، وهم نسق واحد، والتسخير يعني قَهْر مخلوق لمخلوق؛ لِيُؤدِّي كُلٌّ مهمته. وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر؛ كُلٌّ له مهمة، فالليل مُهِمته الراحة.
قال الحق سبحانه: { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [القصص: 73].
والنهار له مهمة أنْ تكدحَ في الأرض لتبتغي رِزْقاً من الله وفَضْلاً، والشمس جعلها مصدراً للطاقة والدِّفْء، وهي تعطيك دون أنْ تسألَ، ولا تستطيع هي أيضاً أن تمتنعَ عن عطاء قَدَّره الله.
وهي ليست مِلْكاً لأحد غير الله؛ بل هي من نظام الكون الذي لم يجعل الحق سبحانه لأحد قدرةً عليه، حتى لا يتحكَّم أحدٌ في أحدٍ، وكذلك القمر جعل له الحق مهمة أخرى.
وإياك أنْ تتوهَم أن هناك مهمة تعارض مهمة أخرى، بل هي مهام متكاملة. والحق سبحانه هو القائل: { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [الليل: 1-4].
أي: أن الليل والنهار وإنْ تقابلا فليسَا متعارضين؛ كما أن الذكر والأنثى يتقابلان لا لتتعارض مهمة كل منهما بل لتتكامل.
وأيُّ إنسان إنْ سهر يومين متتابعين لا يستطيع أنْ يقاومَ النوم؛ وإن أدَّى مهمة في هذين اليومين؛ فقد يحتاج لراحة من بعد ذلك تمتدُّ أسبوعاً؛ ولذلك قال الله: { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [النبأ: 10-11].
والإنسان إذا ما صلَّى العشاء وذهب إلى فراشه سيستيقظ حَتْماً قبل الفجر وهو في قِمّة النشاط؛ بعد أنْ قضى ليلاً مريحاً في سُبَاتٍ عميق؛ لا قلقَ فيه.
ولكن الإنسان في بلادنا استورد من الغرب حثالة الحضارة من أجهزة تجعله يقضي الليل ساهراً، ليتابع التليفزيون أو أفلام الفيديو أو القنوات الفضائية، فيقوم في الصباح مُنْهكاً، رغم أن أهل تلك البلاد التي قدَّمتْ تلك المخترعات؛ نجدهم وهم يستخدمون تلك المخترعات يضعونها في موضعها الصحيح، وفي وقتها المناسب؛ لذلك نجدهم ينامون مُبكِّرين، ليستيقظوا في الفجر بهمَّة ونشاط.
نلحظ أنه لم يَأْتِ بالنجوم معطوفةً على ما قبلها، بل خَصَّها الحق سبحانه بجملة جديدة على الرغم من أنها أقلُّ الأجرام، وقد لا نتبيَّنها لكثرتها وتعدُّد مواقعها ولكِنَّا نجد الحق يُقسِم بها فهو القائل: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة: 75-76].
فكلُّ نجم من تلك النجوم البعيدة له مُهمة، وإذا كنتَ أنت في حياتك اليومية حين ينطفيء النور تذهب لترى: ماذا حدث في صندوق الأكباس الذي في منزلك؛ ولكنك لا تعرف كيف تأتيك الكهرباء إلى منزلك، وكيف تقدَّم العلم ليصنعَ لك المصباح الكهربائي.وكيف مدَّتْ الدولة الكهرباء من مواقع توليدها إلى بيتك.
وإذا كنتَ تجهل ما خَلْف الأثر الواحد الذي يصلك في منزلك، فما بالك بقول الحق سبحانه: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } [الواقعة: 75].
وهو القائل: { وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [النحل: 16].
وقد خصَّها الحق سبحانه هنا بجملة جديدة مستقلة أعاد فيها خبر التسخير، ذلك أن لكلٍّ منها منازلَ، وهي كثيرة على العَدِّ والإحصاء، وبعضها بعيد لا يصلنا ضوؤه إلا بعد ملايين السنين.
وقد خصَّها الحق سبحانه بهذا الخبر من التسخير حتى نتبينَ أن لله سراً في كل ما خلق بين السماء والأرض.
ويريد لنا أن نلتفتَ إلى أن تركيبات الأشياء التي تنفعنا مواجهةً وراءها أشياء أخرى تخدمها.
ونعلم أن الآيات هي الأمورُ العجيبة التي يجب ألاَّ يمرَّ عليها الإنسان مراً مُعرِضاً؛ بل عليه أنْ يتأملَها، ففي هذا التأمل فائدة له؛ ويمكنه أنْ يستنبطَ منها المجاهيل التي تُنعِّم البشر وتُسعِدهم.
وكلمة { يَعْقِلُونَ } تعني إعمالَ العقل، ونعلم أن للعقل تركيبةً خاصة؛ وهو يستنبط من المُحسّات الأمورَ المعنوية، وبهذا يأخذ من الملوم نتيجةً كانت مجهولةً بالنسبة له؛ فيَسعد بها ويُسعد بها مَنْ حوله، ثم يجعل من هذا المجهول مقدمةً يصل بها إلى نتيجة جديدة.
وهكذا يستنبط الإنسان من أسرار الكون ما شاء له الله أنْ يستنبطَ ويكتشف من أسرار الكون.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
كلمة { ذَرَأَ } تعني أنه خلق خَلْقاً يتكاثر بذاته؛ إما بالحَمْل للأنثى من الذَّكَر؛ في الإنسان أو الحيوان والنبات؛ وإما بواسطة تفريخ البيض كما في الطيور.
وهكذا نفهم الذَّرْءَ بمعنى أنه ليس مطلقَ خَلْق؛ بل خلق بذاته في التكاثر بذاته، والحق سبحانه قد خلق آدم أولاً، ثم أخرج منه النسل ليتكاثر النسلُ بذاته حين يجتمع زوجان ونتجا مثيلاً لهما، ولذلك قال الحق سبحانه: { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14].
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يفيض على عباده بأن يُعطِيهم صفة أنهم يخلقون، ولكنهم لا يخلقون كخَلْقه؛ فهو قد خلق آدم ثم أوجدهم من نسله. والبشر قد يخلقون بعضاً من مُعِدات وأدوات حياتهم، لكنهم لا يخلقون كخَلْق الله؛ فهم لا يخلقون من معدوم؛ بل من موجود، والحق سبحانه يخلق من المعدوم مَنْ لا وجود له؛ وهو بذلك أحسَنُ الخالقين.
والمَثل الذي أضربه دائماً هو الحبة التي تُنبِت سبْعَ سنابل وفي كل سُنْبلة مائة حَبّة؛ وقد أوردها الحق سبحانه ليشوِّق للإنسان عملية الإنفاق في سبيل الله، وهذا هو الخَلْق الماديّ الملموس؛ فمن حَبَّة واحدة أنبت سبحانه كل ذلك.
أي: ما خلق لنا من خَلْق متكاثر بذاته تختلف ألوانه. واختلاف الألوان وتعدُّدها دليل على طلاقة قدرة الله في أن الكائنات لا تخلق على نَمَطٍ واحد.
ويعطينا الحق سبحانه الصورة على هذا الأمر في قوله سبحانه: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 27-28].
وأنت تمشي بين الجبال، فتجدها من ألوان مختلفة؛ وعلى الجبل الواحد تجد خطوطاً تفصل بين طبقاتٍ مُتعدّدة، وهكذا تختلف الألوان بين الجمادات وبعضها، وبين النباتات وبعضها البعض، وبين البشر أيضاً.
وإذا ما قال الحق سبحانه: { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ... } [فاطر: 28].
فلَنا أن نعرفَ أن العلماء هنا مقصودٌ بهم كُلّ عالم يقف على قضية كونية مَرْكوزة في الكون أو نزلتْ من المُكوِّن مباشرة.
ولم يقصد الحق سبحانه بهذا القول علماء الدين فقط، فالمقصود هو كل عالم يبحث بحثاً ليستنبط به معلوماً من مجهول، ويُجلّي أسرار الله في خلقه. وقد أراد صلى الله عليه وسلم أن يفرق فَرْقاً واضحاً في هذا الأمر، كي لا يتدخل علماء الدين في البحث العلميّ التجريبيّ الذي يفيد الناس، ووجد صلى الله عليه وسلم الناس تُؤبّر النخيل؛ بمعنى أنهم يأتون بطَلْع الذُّكورة؛ ويُلقِّحون النخيل التي تتصف بالأنوثة، وقال: لو لم تفعلوا لأثمرتْ.ولما لم تثمر النخيل، قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر؛ وأمر بإصلاحه وقال القولة الفصل " أنتم أعلم بشئون دنياكم ".
أي: أنتم أعلم بالأمور التجريبية المعملية، ونلحظ أن الذي حجز الحضارة والتطوُّر عن أوربا لقرون طويلة؛ هو محاولة رجال الدين أنْ يحجُروا على البحث العلمي؛ ويتهموا كُلَّ عالم تجريبيّ بالكفر.
ويتميز الإسلام بأنه الدين الذي لم يَحُلْ دون بَحْث أي آية من آيات الله في الكون، ومن حنان الله أنْ يُوضِّح لخَلْقه أهمية البحث في أسرار الكون، فهو القائل: { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف: 105].
أي: عليك أيُّها المؤمن ألاَّ تُعرِض عن أيِّ آية من آيات الله التي في الكون؛ بل على المؤمن أنْ يُعمِلَ عقله وفِكْره بالتأمُّل ليستفيد منها في اعتقاده وحياته. يقول الحق: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ.. } [فصلت: 53].
أما الأمور التي يتعلَّق بها حساب الآخرة؛ فهي من اختصاص العلماء الفقهاء.
ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
والتسخير كما علمنا من قَبْل هو إيجاد الكائن لمهمة لا يستطيع الكائن أنْ يتخلَّف عنها، ولا اختيارَ له في أنْ يؤدِّيها أو لا يُؤدِّيها. ونعلم أن الكون كله مُسخَّر للإنسان قبل أنْ يُوجدَ؛ ثم خلق الله الإنسان مُخْتاراً.
وقد يظن البعض أن الكائنات المُسخَّرة ليس لها اختيار، وهذا خطأ؛ لأن تلك الكائنات لها اختيار حَسمتْه في بداية وجودها، ولنقرأْ قوله الحق: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا... } [الأحزاب: 72].
وهكذا نفهم أن الحق سبحانه خيَّر خلقه بين التسخير وبين الاختيار، إلا أن الكائنات التي هي ما دون الإنسان أخذتْ اختيارها مرَّة واحدة؛ لذلك لا يجب أنْ يُقال: إن الحق سبحانه هو الذي قهرها، بل هي التي اختارتْ من أول الأمر؛ لأنها قدرتْ وقت الأداء، ولم تقدر فقط وقت التحمل كما فعل الإنسان، وكأنها قالت لنفسها: فلأخرج من باب الجَمال؛ قبل أن ينفتحَ أمامي باب ظلم النفس.
فقد ظلم الإنسانُ نفسَه حين اختار أنْ يحملَ الأمانة؛ لأنه قدر وقت التحمُّل ولم يقدر وقت الأداء. وهو جَهُول لأنه لم يعرف كيف يُفرِّق بين الأداء والتحمُّل، بينما منعت الكائنات الأخرى نفسها من أن تتحمَّل مسئولية الأمانة، فلم تظلم نفسها بذلك.
وهكذا نصل إلى تأكيد معنى التسخير وتوضيحه بشكل دقيق، ونعرف أنه إيجاد الكائن لمهمة لا يملك أن يتخلَّف عنها؛ أما الاختيار فهو إيجاد الكائن لِمُهِمة له أنْ يُؤدِّيها أو يتخلَّف عنها.
وأوضحنا أن المُسخَّرات كان لها أنْ تختارَ من البداية، فاختارتْ أن تُسخِّر وألاَّ تتحملَ الأمانة، بينما أخذ الإنسان المهمةَ، واعتمد على عقله وفِكْره، وقَبِل أن يُرتِّب أمور حياته على ضوء ذلك.
ومع ذلك أعطاه الله بعضاً من التسخير كي يجعل الكون كله فيه بعض من التسخير وبعض من الاختيار؛ ولذلك نجد بعضاً من الأحداث تجري على الإنسان ولا اختيارَ له فيها؛ كان يمرضَ أو تقع له حادثة أو يُفلس.
ولذلك أقول: إن الكافر مُغفّل لاختياره؛ لأنه ينكر وجود الله ويتمرَّد على الإيمان، رغم أنه لا يقدر أن يصُدَّ عن نفسه المرض أو الموت.
وفي الآية التي نحن بصددها الآن يقول الحق سبحانه:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ } [النحل: 14].
فهذا يعني أنه هو الذي خلق البحر، لأنه هو الذي خلق السماوات والأرض؛ وجعل اليابسة ربع مساحة الأرض؛ بينما البحار والمحيطات تحتل ثلاثة أرباع مساحة الأرض.
أي: أنه يُحدِّثنا هنا عن ثلاثة أرباع الأرض، وأوجد البحار والمحيطات على هيئة نستطيع أن نأخذَ منها بعضاً من الطعام فيقول:
ومن بعض عطاءات الحق سبحانه أن يأتي المَدُّ أحياناً ثم يَعْقبه الجَزْر؛ فيبقى بعض من السمك على الشاطيء، أو قد تحمل موجة عفيّة بعضاً من السمك وتلقيه على الشاطئ.
وهكذا يكون العطاء بلا جَهْد من الإنسان، بل إن وجودَ بعض من الأسماك على الشاطيء هو الذي نبَّه الإنسان إلى أهمية أنْ يحتالَ ويصنع السِّنارة؛ ويغزل الشبكة؛ ثم ينتقل من تلك الوسائل البدائية إلى التقنيّات الحديثة في صيد الأسماك.
لكن الحلية التي يتم استخراجها من البحر فهي اللؤلؤ، وهي تقتضي أن يغوصَ الإنسان في القاع ليلتقطها. ويلفتنا الحق سبحانه إلى أسرار كنوزه فيقول: { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ } [طه: 6].
وكل كنوز الأمم توجد تحت الثَّرى. ونحن إنْ قسمنا الكرة الأرضية كما نقسم البطيخة إلى قِطَع كالتي نُسمِّيها " شقة البطيخ " سنجد أن كنوز كل قطعة تتساوى مع كنوز القطعة الأخرى في القيمة النفعية؛ ولكن كُلّ عطاء يوجد بجزء من الأرض له ميعاد ميلاد يحدده الحق سبحانه.
فهناك مكان في الأرض جعل الله العطاء فيه من الزراعة؛ وهناك مكان آخر صحراوي يخاله الناس بلا أيِّ نفع؛ ثم تتفجَّر فيه آبار البترول، وهكذا.
وتسخير الحق سبحانه للبحر ليس بإيجاده فقط على الهيئة التي هو عليها؛ بل قد تجد له أشياء ومهام أخرى مثل انشقاق البحر بعصا موسى عليه السلام؛ وصار كل فِرْق كالطَّوْد العظيم.
ومن قبل ذلك حين حمل اليَمَّ موسى عليه السلام بعد أن ألقتْه أمه فيه بإلهام من الله: { فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ... } [طه: 39].
وهكذا نجد أن أمراً من الله قد صدر للبحر بأن يحملَ موسى إلى الشاطيء فَوْر أنْ تُلقيَه أمه فيه.
وهكذا يتضح لنا معنى التسخير للبحر في مهام أخرى، غير أنه يوجد به السمك ونستخرج منه الحُليّ. ونعلم أن ماءَ البحر مالح؛ عكس ماء النهر وماء المطر؛ فالمائيّة تنقسم إلى قِسْمين؛ مائية عَذْبة، ومائية مِلْحية.
ويسمُّونهم الاثنين على التغليب في قوله الحق: { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } [الرحمن: 19].
والمقصود هنا الماء العَذْب والماء المالح، وكيف يختلطان، ولكن الماء العَذْب يتسرَّب إلى بطن الأرض، وأنت لو حفرتَ في قاع البحر لوجدتَ ماء عَذْباً، فالحق سبحانه هو الذي شاء ذلك وبيَّنه في قوله: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ } [الزمر: 21].
واللحم إذا أُطلِق يكون المقصود به اللحم المأخوذ من الأنعام، أما إذا قُيّد بـ " لحم طري " فالمقصود هو السمك، وهذه مسألة من إعجازية التعبير القرآني؛ لأن السمك الصالح للأكل يكون طَرّياً دائماً.ونجد مَنْ يشتري السمك وهو يَثْني السمكة، فإنْ كانت طريَّة فتلك علامةٌ على أنها صالحةٌ للأكل، وإنْ كانت لا تنثني فهذا يعني أنها فاسدة، وأنت إنْ أخرجتَ سمكة من البحر تجد لحمها طَرِّياً؛ فإنْ ألقيتَها في الماء فهي تعود إلى السباحة والحركة تحت الماء؛ أما إن كانت ميتة فهي تنتفخ وتطفو.
لذلك " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل السمك الطَّافي لأنه المَيْتة " ، وتقييد اللحم هنا بأنه طريّ كي يخرجَ عن اللحم العادي وهو لَحْم الأنعام؛ ولذلك نجد العلماء يقولون: مَنْ حلفَ ألاَّ يأكل لَحْماً؛ ثم أكل سمكاً فهو لا يحنث؛ لأن العُرْف جرى على أن اللحم هو لَحْم الأنعام.
والأكْل أمر ضروري لذلك تكفّله الله وأعطى التسهيلات في صَيْده، أما الزينة فلكَ أنْ تتعبَ لتستخرجه، فهو تَرَفٌ. وضروريات الحياة مَجْزولة؛ أما تَرَف الحياة فيقتضي منك أنْ تغطسَ في الماء وتتعبَ من أجله.
وفي هذا إشارة إلى أن مَنْ يريد أنْ يرتقيَ في معيشته؛ فَلْيُكثِر من دخله ببذل عرقه؛ لا أنْ يُترِف معيشته من عرق غيره.
والحِ لْية كما نعلم تلبسها المرأة. والمَلْحظ الأدنى هنا أن زينةَ المرأة هي من أجلْ الرجل؛ فكأن الرجلَ هو الذي يستمتع بتلك الزينة، وكأنه هو الذي يتزّين. أو: أن هذه المُسْتخرجات من البحر ليست مُحرَّمة على الرجال مِثْل الذهب والحرير؛ فالذهب والحرير نَقْد؛ أما اللؤلؤ فليس نَقْداً.
واللبس هو الغالب الشائع، وقد يصِحّ أنْ تُصنعَ من تلك الحلية عَصاً أو أي شيء مما تستخدمه.
ولم تكُن هناك بواخر كبيرة كالتي في عصرنا هذا بل فُلُك صغيرة. ونعلم أن نوحاً عليه السلام هو أول مَنْ صنع الفُلْك، وسَخِر منه قومه؛ ولو كان ما يصنعه أمراً عادياً لَمَا سَخِروا منه.
وبطبيعة الحال لم يَكُنْ هناك مسامير لذلك ربطها بالحبال؛ ولذلك قال الحق سبحانه عنه: { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [القمر: 13].
وكان جَرْي مركب نوح بإرادة الله، ولم يكُنْ العلْم قد تقدَّم ليصنع البشر المراكب الضخمة التي تنبّأ بها القرآن في قوله الحق: { وَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [الرحمن: 24].
ونحن حين نقرؤها الآن نتعجَّب من قدرة القرآن على التنبؤ بما اخترعه البشر؛ فالقرآن عالم بما يَجِدّ؛ لا بقهريات الاقتدار فقط؛ بل باختيارات البشر أيضاً.
والمَاخِر هو الذي يشق حلزومه الماء، والحُلْزوم هو الصدر. ونجد مَنْ يصنعون المراكب يجعلون المقدمة حادةً لتكون رأس الحربة التي تشق المياه بخرير.
وفي هذه الآية امتنَّ الحق سبحانه على عباده بثلاثة أمور: صيد السمك، واستخراج الحُليّ، وسَيْر الفلْك في البحر؛ ثم يعطف عليهم ما يمكن أن يستجدّ؛ فيقول:
{ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ... } [النحل: 14].
وكأن البواخر وهي تشقّ الماء ويرى الإنسان الماءَ اللين، وهو يحمل الجسم الصَّلْب للباخرة فيجد فيه متعة، فضلاً عن أن هذه البواخر تحمل الإنسانَ من مكان إلى مكان.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله:
{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 14].
ولا يُقال ذلك إلا في سَرْد نعمة آثارُها واضحة ملحوظة تستحقّ الشكر من العقل العادي والفطرة العادية، وشاء سبحانه أنْ يتركَ الشُّكر للبشر على تلك النعم، ولم يُسخرهم شاكرين
وهكذا عَلِمنا أن جِرْم الأرض العام قد خُلِق أولاً؛ وهو مخلوق على هيئة الحركة؛ ولأن الحركة هي التي تأتي بالمَيدان ـ التأرجُّح يميناً وشمالاً ـ وعدم استقرار الجِرْم على وَضْع، لذلك شاء سبحانه أن يخلق في الأرض الرواسي لتجعلها تبدو ثابتة غير مُقلقة والرَّاسي هو الذي يَثبت.
ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة الاستقرار لما خلق الله الجبال، ولكنه خلقَ الأرض على هيئة الحركة، ومنع أنْ تميدَ بخَلْق الجبال ليجعلَ الجبال رواسيَ للأرض.
وفي آية أخرى يقول سبحانه: { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [النمل: 88]. وكلمة { وَأَلْقَىٰ } تدلُّ على أن الجبال شيء متماسك وُضِع ليستقر.
ثم يعطف سبحانه على الجبال:
{ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً } [النحل: 15].
ولم يَأْتِ الحق سبحانه فعل يناسب الأنهار، ومن العجيب أن الأسلوب يجمع جماداً في الجبال، وسيولة في الأنهار، وسبلاً أي طرقاً، وكُلُّ ذلك:
{ لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [النحل: 15].
أي: أن الجَعْل كلَّه لعلنا نهتدي.
ونعلم أن العرب كانوا يهتدوا بالجبال، ويجعلون منها علامات، والمثَل هو جبل " هرشا " الذي يقول فيه الشاعر: خُذُوا بَطْن هرشا أو قَفَاهَا فإنَّهُ كِلاَ جَانِبي هرشا لَهُنَّ طَريقُ وأيضاً جبل التوباد كان يُعتبر علامة.
وكذلك قَوْل الحق سبحانه: { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنِ }[مريم: 52].
وهكذا نجد من ضمن فوائد الجبال أنها علاماتٌ نهتدي بها إلى الطرق وإلى الأماكن، وتلك من المهام الجانبية للجبال.
أو: { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [النحل: 15].
باتعاظكم بالأشياء المخلوقة لكم، كي تهتدوا لِمَنْ أوجدها لكم.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: { وَعَلامَاتٍ وَبِٱلنَّجْمِ
المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 8 زائر/زوار
لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى