إن هذه الرقعة الشطرنجية الأوراسية الغربية الشكل، والتي تمتد من لشبونة إلى فلاديفستوك، تقدم مكان وزمان "اللعبة".
وهكذا، فإذا أمكن توسيع هذه المساحة المركزية على نحو متزايد إلى الدائرة أو المحيط الممتد إلى الغرب (حيث تتفوق أميركا)، وإذا لم تخضع المنطقة الجنوبية لسيطرة لاعب واحد، أو إذا لم يوحد الشرق بطريقة تدفع إلى طرد أميركا من القواعد الساحلية، فإن أميركا تستطيع، عندئذ، أن تسود.
ولكن إذا عملت المنطقة الوسطى على صد المنطقة الغربية، فستصبح كيانا مفردًا حاسمًا، وبالتالي فإما ستسيطر على المنطقة الجنوبية أو تشكل تحالفا مع لاعب شرقي رئيس، وعندئذ فإن السيادة الأميركية في أوراسيا سوف تتقلص على نحو درامي(حاد). وسيحدث الشيء ذاته إذا توحد لاعبان شرقيان رئيسان بشكل أو بآخر.
وأخيرا فًإذا طرد الشركاء الغربيون أميركا من قاعدتها في المحيط (الدائرة) الغربية سوف ينهي أوتوماتيكيًا المشاركة الأميركية في اللعب على رقعة الشطرنج الأوراسية، حتى ولو كان ذلك
يعني غالبًا التبعية الفعلية للمنطقة الغربية إلى لاعب بعث من جديد وشغل المنطقة الوسطى.
إن أبعاد الهيمنة العالمية لأميركا كبيرة على نحو معترف به، ولكن عمقها قليل، ومحدد بتقييدات داخلية وخارجية على حد سواء. فالهيمنة الأميركية تتضمن ممارسة نفوذ حاسم، وإن لم يكن هذا النفوذ عمومًا، نوعًا من السيطرة المباشرة، على غرار ما كان عليه الأمر في الإمبراطوريات السابقة.
فالحجم الكبير والتنوع في أوراسيا، وإلى جانب قوة بعض دولها، يحدان من عمق النفوذ الأميركي، ومن حجم السيطرة الأميركية على مجرى الأحداث.
فهذه القارة الكبيرة جدًا، والكثيرة السكان، والمتنوعة الثقافات، والمؤلفة من عدد كبير من الدول
الطموحة تاريخيًا، والنشيطة سياسيًا لا يمكنها أن تذعن حتى لقوة عالمية مهما كانت ناجحة
اقتصاديًا أو بارزة ومتفوقة سياسيًا.
وإن هذا الشرط يشجع على المهارة الجيواستراتيجية، وعلى النشر المعتنى به، والانتقائي، والمدروس جيدًا لموارد أميركا على رقعة الشطرنج الأوراسية الكبيرة جدًا.
وإنه لصحيح أيضًا أن أميركا التي تمارس الديمقراطية في الداخل لا يمكنها أن تكون مستبدة في الخارج. فإن ذلك يحد من استخدام القوة الأميركية، ولا سيما قدرتها على الترويع العسكري.
ولم يحدث قط من قبل أن استطاعت ديمقراطية شعبية أن تحقق سيادة دولية.
ولكن السعي إلى اكتساب القوة ليس هدفًا يستقطب العواطف الشعبية إلا في شروط الخطر المفاجئ أو التحدي لمشاعر الناس إزاء الرفاه الداخلي.
فنكران الذات اقتصاديًا (أي الانفاق الدفاعي) والتضحيات البشرية (الإصابات حتى بين الجنود المحترفين) التي يحتاج إليها الجهد المبذول في هذا المجال ليست متناغمة مع الغرائز الديمقراطية.فالديمقراطية بحد ذاتها هي غير ملائمة للتعبئة الإمبريالية.
وفضلا عن ذلك، فإن الكثير من الأميركيين لا يجندون ولايشعرون بالتعاطف مع وضع بلادهم الجديد بوصفها القوة العظمى العالمية الوحيدة.
وإن "الفرحة" السياسية المتعلقة بانتصار أميركا في الحرب البارجة تلقى استقبا ً لا باردًا، وقد كانت أيضًا مدعاة لشيء من السخرية من قبل المعلقين ذوي التفكير اللبيرالي.
وفي الواقع، فثمة وجهتا نظر محتلفتان إزاء مضامين الموقف الأميركي الراهن ونجاح اميركا في التنافس مع الاتحاد السوفييتي السابق وهما، أي وجهتا النظر هاتان تثيران عواصف على الصعيد السياسي:
فمن ناحية نجد وجهة النظر القائلة إن انتهاء الحرب الباردة هو مبرر هام لخفض الاشتباك العالمي لأميركا مع الأحداث، وبغض النظر عن النتائج على هذا الموقف العالمي لأميركا؛ ومن ناحية ثانية، نجد وجهة النظر الأخرى القائلة إنه حان الوقت لتعددية دولية حقيقية، والتي يحب فيها على أميركا أن تتخلى عن بعضى سيادتها.
وقد استقطبت كلا هاتين المدرستين ولاء وتأييد نخبة أو جمهور ملتزم .
إن ما يعقد الأزمات التي تواجه القيادة الأميركية هو التغيرات في طبيعة الوضع الدولي ذاته:
فالاستخدام المباشر للقوة يميل الآن إلى أن يكون مقيدًا بدرجة أكبر مما كان عليه في الماضي.
وقد عملت الأسلحة النووية على الإقلال بشكل حاد من فائدة الحرب كأداة للسياسة أو حتى بوصفها تهديدًا وخطرًا.
وهكذا، فإن الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول يجعل الاستغلال السياسي للتهديد الاقتصادي أقل إلحاحًا.
وبالتالي، فإن المناورة والديبلوماسية، وإقامة التحالف، واختيار الحلفاء، والنشر المتعمد للمؤثرات السياسية لدولة ما، أصبحت كلها عناصر رئيسة في الممارسة (الاستخدام) الناجحة للقوة الجيواستراتيجية على رقعة الشطرنج الاوراسية .
يتبع إن شاء الله.