ومن الدليل على أن كلام الله قديم أزلي : ما يُروى عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه حين أنكر عليه الخوارج التحكيم ، فقال :" والله ما حكّمت مخلوقاً ، وإنما حكّمت القرآن ؛ قال الله تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها } ، وقال عز وجل : { يحكم به ذوا عدلٍ منكم } " ، فإذا كان في شقاق يقع بين الزوجين أُمر بالتحكيم ، وفي أرنب قيمته نصف درهم يقتله المحرم أمْر بذلك ، ففي شقاق يقع بين طائفتين من المسلمين التحكيم أولى وأحرى ، وجميع الصحابة يسمعون قوله ولم ينكر عليه منكر ، وسكتوا عنه كسكوتهم عند حرق عثمان المصاحف ، ففعل عثمان حجة لنا بأن الكتابة مخلوقة ، وقول علي كرّم وجهه حجة لنا : بأن المكتوب قديم ، والاقتداء بعلي وعثمان رضي الله عنهما أولى وأحرى من الاقتداء بالقدرية والمشبِّهة.
ومن الدليل على أن كلام الله تعالى قديم أزلي : أنه لو كان مخلوقاً لكان لا يخلو : إما أن يكون قد خلقه في ذاته ، أو خلقه في غيره ، أو خلق الكلام قائماً بذاته لا في محل ، بطل أن يُقال خلقه في ذاته ؛ لأنه تعالى ليس بمحل للحوادث ، وبطل أن يقال خلقه في غيره ؛ لأنه يكون كلام ذلك الغير.
وكما لا يجوز أن يقال أنه يخلق علمه وقدرته في غيره ، فكذلك أيضاً لا يخلق كلامه في غيره لأنه يكون كلام ذلك الغير ، ولا يجوز أن يقال أنه خلقه لا في محل ؛ لأن الكلام صفته ، والصفة لا تقوم إلا بموصوف.
وإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة دلّ على أنه قديم أزلي ،فإن قيل : المتكلم إنما يتكلم ليسمع غيره، أو يتكلم ليستأنس ، أو يتكلم ليحفظ ، وإذا كان المتكلم خالياً من هذه الثلاثة أقسام يكون كلامه هذياناً ولغواً ، والرب عز وجل لم يكن معه في الأزل أحد يسمع كلامه ، ولا يجوز أن يقال أنه تكلم ليحفظ ، أو تكلم ليستأنس.
وإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة دلّ على أنه ليس متكلماً في الأزل ؟!
يُقال لهم : مقصودكم وغرضكم أن تثبتوا لصفاته الذاتية علّة وغرضاً ، إذا كانت أفعاله لا لعلة ولا لغرض ؛ لأنه لو فعل فعلاً لعلة كانت تلك العلة لا يخلو : إما أن تكون قديمة ، أو محدثة : فإن كانت محدثة افتقرت إلى علة قبلها ، وكذلك ما قبلها ، ويؤدي ذلك إلى التسلسل وعدم التناهي ، ويؤدي ذلك إلى عدم المعلول ، وهذا محال أيضاً.
فدل على أن الله عز وجل يفعل ما يفعله لا لعلة وغرض ، بل يفعل ما شاء بما شاء لا لعلة ، وإذا ثبت أن صفات فعله لا لعلة وغرض ، فصفات ذاته أولى وأحرى أن لا تكون لعلة وغرض ، وبطل ما قالوه.
فإن قيل : قد قال الله تعالى : { إنّا جعلناه قرآناً عربياً } , والجعل بمعنى الخلق ؟!
يقال لهم : الجعل هاهنا بمعنى التسمية ؛ والدليل عليه : قوله عز وجل : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } ، ومعلوم على أنهم لم يخلقوا الملائكة ، فدل على أن المراد بالجعل هاهنا : التسمية ، وكذلك قوله عز وجل : { الذين جعلوا القرآن عضين } لم يرد به الخلق فدل على ما قلناه.
فإن قيل : قد قال الله عز وجل : { وكان أمر الله مفعولاً } , { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } , فدل على أن أمر الله مقدور مفعول ، وهذا دليل الحدث ؟!
يقال لهم : الأمر على ضربيْن : فتارة يقتضي الكلام ، وهو قوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ، وقوله عز وجل : { لله الأمر من قبل } ، أي : من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء ، وهذا دليل واضح على قدمه ، وتارة يقتضي الفعل ، وهو قوله : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها }.
فهذا الأمر يقتضي الفعل ؛ جاء في التفسير : أن الأمر هاهنا بمعنى كثّرنا ؛ لأن الرب عز وجل لا يأمر بالفحشاء ، وإذا كان الأمر كذلك بطل ما قالوه ، ويكون المراد بقوله : { وكان أمر الله مفعولاً } ، {وكان أمر الله قدراً مقدوراً } : فعله.
فإن قيل : الدليل على خلق القرآن : أنه معجز النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحدى الأمة به ، فالتحدي إنما يكون بما للمتحدي عليه قدرة ، كإلقاء العصا ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والقديم لا يكون للمخلوق عليه قدرة ، ولا يكون له في التحدي به حجة ، فدل على ما قلناه ؟!
يقال لهم : التحدي إنما كان بالقراءة لا المقروء ، وقد بينا الفرق بينهما ، فإن قيل : فقد قال اله تعالى : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } ، يقال لهم : الذكر قد يكون بمعنى القرآن ؛ فقال عز وجل : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ، ويكون الذكر بمعنى الرسول ؛ قال عز وجل : { ويقولون إنه لمجنون وما هو إلاّ ذكر للعالمين} ، وقال عز وجل : { ذكراً رسولاً } ، فالذكر المحدث هاهنا : النبي صلى الله عليه وسلم ؛ والدليل عليه : آخر الآية : قوله عز وجل : { هل هذا إلا بشر مثلكم }.
ومعلوم أن الكلام ليس ببشر ، ويحتمل أن المراد بالذكر المحدث : هذه القراءة لا المقروء.