هكذا هو فكر وعقل وريث أو ثمرة ما يعرف بالمدرسة العقلانية .
فبعد موت محمد رشيد رضا أسندت رئاسة تحرير مجلة المنار لسان حال هذه المدرسة إلى حسن البنا ، فتولى هو وجماعته شئونها .
إقرأ أخي في الله ما يلي من كلام حسن البنا ، وللفقير بعد ذلك تعقيب صغير .
عدد مجلة المنار رجب - 1358هـ أغسطس - 1939م
المجلد (35) صـ (504)
الكاتب : حسن البنا
(4) استحضار الأرواح
جاءنا من الدكتور محمد سليمان المدرس بكلية الطب ما يأتي : حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير المنار الغراء :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وبعد , فقد أكثر الناس القول في موضوع الأرواح ما بين نافٍ له ومثبت إياه ، فما القول الحق في ذلك ؟
وهل الأرواح التي ستحضر هي أرواح الموتى أنفسهم ؟
وهل يصدق ما يأتي على لسانها من أقوال , أفيدونا مشكورين , والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
المخلص دكتور ... محمد أحمد سليمان ... القاهرة .
الجواب .
يتطلب الجواب على ما تقدم الكلام في عدة مباحث نلخصها فيما يلي :
أولاً - كيف نشأت مباحث الاستحضار في الغرب :
حدث في سنة 1846 الميلادية في قرية هيد سفيل من ولاية نيويورك بأمريكا أن أسرة رجل اسمه جون فوكس أزعجتها عدة طرقات كانت تحدث في البيت الذي تسكنه ، فتجرأت مدام فوكس ذات يوم وسألت ذلك الفاعل المستتر قائلة هل أنت روح ؟
واتفقت معه على أن يكون علامة الإيجاب طرقتين ، وعلامة السلب طرقة واحدة ، فأجابها بطرقتين ثم مازالت تسأله ، وهو يجيب بواسطة الطرق ، حتى علمت منه أنه روح ساكن كان بهذا البيت , فقام جار له ، ودفنه فيه , ثم سلبه ماله , ولم تهتد الحكومة إليه , فأسرعت المرأة إلى إنذار البوليس والنيابة , فحضر رجالها وأخذوا كل حيطة , وتسمعوا الطرقات على طريقة صاحبة البيت , وفهموا منها ما فهمته , وعمدوا إلى الحفر في المكان الذي دلت عليه الروح فوجدوا جثة القتيل ، وكان من أثر ذلك اهتداؤهم إلى القاتل.
وظلت الروح بعد ذلك تزور بنتي جون فوكس هذا حتى أنستا بها , وحضرت أرواح أخرى ادعت أنها أرواح موتى آخرون , وتحسنت طريقة التفاهم بينهما وبين هذه الكائنات فصارت بالحروف الهجائية , وذلك بأن تقرأ إحدى الفتاتين الحروف الهجائية فتطرق الروح عند الحرف المراد كتابته طرقة فتكتب الفتاة الأخرى ذلك الحرف وهكذا , ثم تجمع الحروف المكتوبة وتقرأ .
وقد رجت الروح الأختين في أن تعلنا أنها على استعداد لإشهاد الناس خوارق تثبت لهم وجود الأرواح في أكبر مكان للمحاضرات في نيويورك , فأبت البنتان ذلك خشية سوء القالة والاتهام بالشعوذة , وأصرت الروح على ذلك ؛ لأنها تريد أن تنتهز هذه الفرصة لتثبت للناس صحة خلود النفس , وقالت إنها ما تجشمت الاستئناس بهما إلى هذا الحد إلا لهذه الغاية , وأنذرتهما بأنها لن تعود إليهما إن بقيتا على إصرارهما , فلم يسعهما أخيرًا إلا القبول , ولكنهما اشترطا أن يكون بدء العمل في الصالونات الكبيرة لبعض البيوت , ثم تتدرجان من ذلك إلى قاعة المحاضرات الكبرى , وتم ذلك فأخذت البنتان تحضران في بعض تلك الصالونات أمام جمهور من العلماء والمفكرين فتحدث خوارق عديدة رغمًا عن كل ما يتخذ من الاحتياطات , ثم أعلنتا التحضير في قاعة المحاضرات الكبرى , فشهد هذه الخوارق جم غفير من الناس , وكثر التحدث بها في كل مكان .
وكان القاضي أدموندس رئيس مجلس الأعيان بأمريكا من أسرع الناس إلى بحث هذه الخوارق , فاعتقد صحتها وكتب فيها بحثًا مستفيضًا , فحملت عليه الجرائد حملة عنيفة , ففضل أن يستقيل ويخدم البحث على أن يبقى في وظيفته مقيدًا بتقاليدها , وكان من أكبر العاملين على نشر هذه المباحث .
وتلاه الأستاذ ( مابس ) معلم علم الكيمياء بالمجمع العلمي , فانتهى أمره بتصديقها ونشر مباحثه على رءوس الأشهاد , وحذا حذوه الأستاذ (روبيرت هير) وأطال البحث والتنقيب , فظهر له صدق صاحبيه المتقدمين , فوضع كتابًا حافلاً أسماه (الأبحاث التجريبية على الظواهر النفسية) , وكان من أثر هذه الكتابات أن انتشرت الفكرة وتعدت أمريكا إلى غيرها من بلدان العالم الغربي .
ثانياً - اختلاف الآراء في صحة هذه البحوث :
كان طبيعيًّا أن تختلف آراء الناس في نتائج هذه البحوث , وأن يكون هناك المصدقون المتشيعون والمنكرون المتشككون ، وكان طبيعيًّا أن تثير هذه الناحية حربًا كتابية وعلمية وذلك ما حدث فعلاً , وكان من المصدقين بصحة هذه البحوث وصدق نتائجها كثير من أعلام العلم الكوني في بلدان أمريكا و أوروبا المختلفة , وكثير منهم كتب كتابات في غاية من القوة والدقة التحليلية ، مما يدل على اقتناع تام بما يقول , وكثير منهم ألف فيها الرسالات والكتب القيمة ولم يبالوا بما يتعرضون له من هزء المتقدمين وسخريتهم , وكثيرًا منهم كان ملحدًا صميمًا فعاد مؤمنًا بالحياة الروحية كل الإيمان ، وهذه نماذج من كتابات هذا الفريق :
(1) العالم الكيماوي (وليم كروكس) ، وقد ألف كتابًا دعاه (مباحث على الظواهر النفسانية) ، قال فيه :
(بما أني متحقق من صحة هذه الحوادث ، فمن الجبن الأدبي أن أرفض شهادتي لها بحجة أن كتاباتي قد استهزأ بها المنتقدون وغيرهم ممن لا يعلمون شيئًا في هذا الشأن ، ولا يستطيعون بما علق بهم من الأوهام أن يحكموا عليها بأنفسهم ، أما أنا فسأسرد بغاية الصراحة ما رأيته بعيني وحققته بالتجارب المتكررة) .