وأما ما اعتمد عليه كدليل قياسي، مؤيد لما ذكره، و حاصله أن ما يقال في السمع والبصر من صفات المعاني يقال في الرحمة، فإذا كانت تلك الصفات معان فالرحمة كذلك.
فهو دال على ضعف تعقله لمباحث علم التوحيد وتخبطه فضلا عن تقليده الأعمى لمقولات ابن تيمية وانجرافه خلفه بلا تأمل، وهو دال أيضا على نفوره الواضح من طريقة السادة الأشاعرة في تقرير العلوم.
ويتضح ذلك كله من كلامه الآتي، فقد قال مباشرة بعد ما مضى:
" فقاعدة السلف في جميع الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، أن نثبتها له ونمرها كما جاءت مع التنزيه عن صفات الخلق الثابت عقلا ونقلا بقوله عز وجل( ليس كمثله شيء) فنقول: إن لله علما حقيقيا هو وصف له ولكن لا يشبه علمنا، وإن له سمعا حقيقيا هو وصف له لايشبه سمعنا، وإن له رحمة حقيقية هي صفة له لا تشبه رحمتنا التي هي انفعال في النفس، وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى، فجمع بذلك بين النقل والعقل.
وأما التحكم بتأويل بعض الصفات وجعل إطلاقها من المجاز المرسل أو الاستعارة التمثيلية كما قالوا في الرحمة والغضب وأمثالهما دون العلم والسمع والبصر وأمثالهما، فهو تحكم في صفات الله وإلحاد فيها. فإما أن تجعل كلها من باب الحقيقة مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه هذه الحقيقة والاكتفاء بالإيمان بمعنى الصفة العام مع التنزيه عن التشبيه، وإما أن تجعل كلها من باب المجاز اللغوي باعتبار أن واضع اللغة وضع هذه الألفاظ لصفات المخلوقين، فاستعملها الشرع في الصفات الإلهية المناسبة لها مع العلم بعدم شبهها بها من باب التجوُّز"اهـ.
هذا ما قاله رشيد رضا، ولا بد من أن نقرر أولا أنه مع تأثره الظاهر بابن تيمية في مناهجه الاستدلالية، وفي العديد من المسائل، إلا أنه لم يوافقه على التشبيه وما يتعلق به من مسائل كإثبات الحد والجهة والحركة ونحو ذلك. مع تخابط ظاهر في تقعيد ما يذهب إليه ومنشأه عدم قدرته ومكنته على الاطراد التام في تأسيس المذهب الذي يراه، وتردده بين أقوال مختلفة متخالفة، وتنقله بتدرج من واحد منها لغيره كما ذكرنا ذلك.
فنحن نراه هنا استعار من ابن تيمية طريقة استدلاله التي ذكرها في الرسالة التدمرية وفي غيرها من الكتب، وهي إن القول في صفة من صفات الله كالقول في غيرها، إلا أن رشيد رضا لم أره يقول بقيام الحوادث مثلا، وبالحركة والحد والجهة ونحو ذلك، خلافا لابن تيمية.
واشترك معه في مخالفة الأشاعرة في تأويلهم لظاهر لفظ الرحمة مثلا والغضب ونحوهما.
فرشيد رضا يقول إن القول في الغضب والرحمة كالقول بالعلم، فنثبتها جميعها مع عدم التشبيه، ونعترف بالعجز عن إدراك كنه الصفات.
وإطلاق هذه الصفات على الله تعالى إطلاق حقيقي، وليس من باب المجاز، وأنا مع مخالفتي له في ذلك، أقول إنه أقرب من ابن تيمية إلى قول الأشاعرة مع استنكاره عليهم ورده لقولهم كما رأيت.
لكن ما معنى الإطلاق الحقيقي عنده، والإطلاق الحقيقي هو استعمال اللفظ فيما وضع له، فما هو المعنى الذي وضع له لفظ العلم مثلا، إنه يقول :
"معنى الصفة العام" ولم يبين ماهو؟ وهذا ضعف ظاهر في كلامه، مع استحضار ما زعمه سابقا أن العلم وضع للمعنى الذي ساقه وحللنا قوله فيه وبينا تهافته!
فلا معنى إذن لقوله بالإطلاق الحقيقي هنا، ونحن نعتقد أنه يحوم حول المعنى الصحيح لكن لم يظفر به.
وأما الاحتمال الثاني الذي يقترحه، فهو مانسبنا إليه سابقا من زعمه أن نحو هذه الألفاظ وضعت أصلا لصفات المخلوقين، فهو قد قصرها على بعض مصاديقها فيكون استعمال اللفظ في حق الخالق بعد ذلك بضرب من التجوز.
وكان عليه أن يبين وجه التجوز، أما أن يطلق هكذا فلا يقبل منه، إلا أن الدافع الذي دفعه إلى مثل هذا التشتت هو حيرته بين المذاهب والناهج المتعددة مع عدم أهليته للخوض في المسائل العظيمة بحسب ما نراه فيه.
وفي كلامه إيهامات لا بد من التنبيه عليها:
- منها ما يوهمه كلامه من أن أهل السنة يزعمون أنهم يعلمون حقيقة هذه الصفات وأن الاشتراك فيها بين الخالق والمخلوق حقيقي فهذا زعم باطل من رشيد رضا وإيهام لا قيمة له.
- ومنها زعمه تناقض أهل السنة الأشاعرة حينما أولو بعض الصفات ولم يؤولوا بعضها الآخر، فادعاؤه تناقضهم مبني على عدم دركه للمبنى الذي بنوا عليه قولهم، وهو في هذا مقلد أسير لابن تيمية لا لشيخه محمد عبده.
- وأيضا أوهم في قوله أن هذا هو قول ابن تيمية ومدعي السلف من الوهابية، وقد عرفنا نحن بطلان ذلك، فابن تيمية لا يقول بهذا القول بل يخالفه مخالفة صريحة، وذلك لأنه يثبت قيام الحوادث بالذات الإلهية والحركة والتصرف بالذات ونحو ذلك من الحدود للذات، ويبدو من محمد رشيد رضا أنه لا يرضى بذلك كله.
وقد خلط رشيد رضا خلطا واضحا بين مذهب طائفة من المفوضة من أهل السنة، وهم الذين أثبتوا اليد والعين والوجه صفة لله تعالى ليست بجزء ولا عضو ولا جارحة، وبين مذهب ابن تيمية فظن أن ابن تيمية قائل بهذا القول، وظن أيضا أن هذا القول يرفضه الأشاعرة قاطبة.
ومن جهة أخرى، فإنه عمم هذا القول في سائر الصفات كالرحمة وغيرها، وهذا لم يوافقه عليه هؤلاء القائلون بالتفويض مع إثبات أصل المعنى من أهل السنة، وبهذا يظهر مدى تخابطه بين المذاهب والأقوال وعدم قدرته على طرد المذاهب ولا الإلتزام بواحد منها بعينه!!
وسوف يزداد هذا الحال لك اتضاحا فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
والحقيقة الواضحة عند من يعلم مذهب الأشاعرة أنهم يقولون بعدم التساوي بين حقيقة الصفات الإلهية وحقيقة الصفات البشرية وغيرهم من المخلوقات، وإن اشتركت بينهما الأسماء، ولكنهم يجيزون إطلاق نفس الاسم لاشتراكهما في عوارض خارجة عن الحقيقة أو بعض الأحكام، وبهذا صرح بعضهم بأن الاشتراك بين الصفات الإلهية وبين صفات البشر في الأسماء نفسها هو اشتراك لفظي محض، وبعضهم نص على أن قولنا في علم الله أنه صفة تتميز بها الواجبات والجائزات والمستحيلات، ليس تعريفا حقيقيا بل هو رسم، وقولنا (صفة) في التعريف ليس جنسا حقيقيا بل هو كالجنس لعدم وجود اشتراك حقيقي بين صفات البشر وصفات الله تعالى.