وأما من قال أن هذه الآية يفهم منها حسن التشاور، فلا شيء في هذا، ولكن يوجد فرق بين أن يستفاد منها حسن المشورة وبين أن يقال أن الله تعالى يشاور الملائكة مشورةً.
وقد عبر محمد عبده عن رأيه في الحوار المذكور في الآية فقال(1/254):
" وأما ذلك الحوار في الآيات فهو شأن من شؤون الله تعالى مع ملائكته صوره لنا في هذه القصة بالقول والمراجعة والسؤال والجواب، ونحن لا نعرف حقيقة ذلك القول، ولكنا نعلم أنه ليس كما يكون منا"اهـ.
وفي كلامه دلالة غير خافية على أنه يقول بأن الحوار تمثيل وإلا فلا حوار ولا سؤال ولا جواب ، وأما ما قال من أنا لانعلم حقيقة ذلك القول ، إن قصد بالقول الآيات المنزلة ، فحقيقة مادل عليه ، وهي معلومة إما قطعا أو ظنا، وإن قصد القول الذي هو كلام الله تعالى ما حقيقته في نفسه وكلام الملائكة ماحقيقته في نفسه ، فلا يتوقف فهم الآية على ذلك وليس هذا مقصودا منها ، بل محل لذكر هذه العبارة هنا خصوصا.
وقال الشيخ محمد عبده في تفسير المنار(1/255):
"فإذا كان الملأ الأعلى قد مُثِّلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لايعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين .."اهـ .
وهذا يعني أن الشيخ محمد عبده يزعم أن ظاهر الآية المفهوم منها أن الملائكة فعلوا هذه الأفعال من الاختصام ونحوه، ولا ريب في أن هذا خلاف الصحيح، كما بيناه عند العلماء.
والشيخ مصر على أن الآيات وردت مورد التمثيل فقد قال ( 1 / 255 ) :
" وأما الخلف فمنهم من تكلم في حقيقة الملائكة ووضع لهم تعريفا ومنهم من أمسك عن ذلك ، وقد اتفقوا على أنهم يدركون ويعلمون ، والقصة على مذهبهم وردت مورد التمثيل لتقرب من أفهام الخلق ماتفيدهم معرفته من حال النشأة الآدمية ..الخ"اهـ
ولا أدري لم يستحيل حمل الآية على ظاهرها عند الشيخ محمد عبده، وقد أبطلنا الحجج التي سند إليها في ذلك، فإن لم يبق عنده غيرها، فلا مصحح له لصرفها عند الظواهر.
ولا أدري لما يصر الشيخ محمد عبده فيما يزعم أنه من المتشابهات على أن يجري فيه مجرى السلف فيسكت عنه ولا يخوض فيه، ونراه قد تكلم وخاض هنا مع زعمه أن الآية من المتشابهات؟!
وقال في ( 1 / 264 ) :
" وقد علم مما تقدم أن كل هذه الأقوال والمراجعات والمناظرات يفوض السلف الأمر إلى الله تعالى في معرفة حقيقتها، ويكتفون بمعرفة فائدتها وحكمتها، وقد تقدم بيان ذلك، وأما الخلف فيلجأون إلى التأويل وأمثل طرقه في هذا المقام التمثيل، وقد مضت سنة الله في كتابه بأن يبرز لنا الأشياء المعنوية في قوالب العبارة اللفظية...الخ " اهـ
كذا قال، وقد مضى أنه لاحاجة إلى التأويل بهذه الصورة، وإن قصد بالتمثيل أن شيئاً من المحاورة والخطاب لم يكن، فهذا خلاف الظاهر ولا مسوغ له.