موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ مشاركة واحده ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس نوفمبر 27, 2014 1:41 am 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء سبتمبر 27, 2011 3:10 pm
مشاركات: 2286
مكان: مصر المحروسة


بسم الله الرحمن الرحيم , الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أفضل المخلوقين , و أشرف المرسلين , وخاتم النبيين , ورحمة الله للعالمين , سيدنا ومولانا محمد الأمين , وعلى آله الطيبين الطاهرين أجمعين .


رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في قوله تعالى ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى? [البقرة: 260]
وفيه فوائد كثيرة متعلقة بالسيد إبراهيم صلاة الله وسلامه عليه .
«وقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام ?وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي?»

مقصود البخاري بهذه الآية الاستدلال أيضاً على مذهبه من زيادة الإيمان ونقصانه، وهي دليل ظاهر على قبول الزيادة، وفصل هذه الآية عن الآيات التي استدل بها على زيادة الإيمان ونقصانه لأن تلك دلت على الزيادة بالصريح، وهذا بطريق اللزوم، ففصل ليشعر بالتفاوت،

ووجه الاستدلال أن السيد إبراهيم سئل أن يريه إحياء المولي فقال: ?رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى?، وإنما سأل ليزداد يقيناً وبصيرة، فإنه إذا انضم عين اليقين إلى علم اليقين لا شك أن الإيمان يكون أقوى

فلما سأل ذلك قال الله تبارك وتعالى ?أَوَلَمْ تُؤْمِن? ألم تصدق بأني أحي الموتى، وهو سبحانه عالم بأن إبراهيم يصدق بذلك ولكن قال له ذلك ليظهر إيمانه لكل سامع فقال إبراهيم في جواب ربه: بلى ومن بأنك تحي الموتى ولكن سألتك ?وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? أي: ليزداد يقيني إذ ليس سمع كمن رأى

وليس الخبر كالعيان ولله در القائل:
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المشاهدة الخليل

فطلب -صلوات الله وسلامه عليه- رؤية إحياء الموتى ليصير علم اليقين عنده بالاستدلال عين اليقين بالمشاهدة، فإنه ليس ما يصل إلى القلب بالخبر كالدي يصل إليه بالنظر لأن الكذب في الخبر ممكن وفي العيان غير ممكن.
وذهب بعض أهل التصوف إلى أن السيد إبراهيم - عليه السلام - إنما قصد بالسؤال رؤية الباري جل وعلا، وجعل السؤال عن كيفية إحياء الموتى وسيلة إلى ذلك فكأنه قال: رب أرني ذاتك وأنت تحي الموتى، فلما سأل من ربه أن يريه كيف يحي الموتى ليزداد يقينه


قال الله تعالى ?فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ? قيل: خذ الطاووس والديك والغراب والنسر، قيل: الحمامة بدل النسر والبطة بدل الطاووس.

?فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ? أي: ضمهن إليك ولتبرهن واعرف هيئتهن ثم قطعهن ثم اخلط لحمهن ورشهن ودمهن بعضه ببعض، ثم أمسك رؤوسهن عندك، ثم جزئهن ثم اجعل على كل جبل من جبال أرضك وكانت سبعة، وقيل: أربعة أجزاء.

?ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً? أي: قل لهم تعالين بإذن الله يأتينك ساعيات

مسرعات في طيرهن أو مشيهن على رجلهن، ففعل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كما أمره الله تعالى أخذ هذه الطيور الأربعة وذبحها وقطع رؤوسها ووضع الرأس عنده ثم قطع لحمها قطعاً قطعاً، وخلط الجميع وقسمه سبعة أقسام على عدد الجبال، ووضع على كل جبل منها جزءاً كما أمره الله تعالى، ثم قال لهذه الأجزاء تعالين بإذن الله فعاد كل جزء إلى جسده، وأتى كل جسد إلى رأسه الذي معه وقيل: قال: أيتها الطيور المنقطعة والأعضاء المتفرقة عودي كما كنت بإذن الله تعالى، فعادت أجنحة هذا إلى مكانها ورأس هذا إلى بقيته وأعضائه والتأم هذا إلى هذا، وإبراهيم ينظر إليها وأقبلت أربعتها تسعي بإذن الله تعالى

فعندها قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، فقال: له عند ذلك ربه ?أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ? [البقرة: 131] .

وقال بعضهم: لما قال السيد إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قيل: له أنت شاك في قدرتنا حتى تقف في حقيقتنا وتقول: أرني فقال: يا رب أنت أريتني بعين بصيرتي فأرني بعين بصري لأجمع بين النظريين، فأمره الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحها ويفرق أجزائها ويجعل على كل جبل منهن جزء وأمره أن يأخذ رؤؤس الأربعة فيجعلها بين أصابعه، ويدعوها ففعل ذلك، فهب بنسيم من جانب القدرة، وجمع تلك الأجزاء المتفرقة وأتوا نحوه واختطف كل منها رأسه من بين أصابعه، وطار حياً بقدرة الله سبحانه وتعالى فعكفوا على رأس إبراهيم، ونادوه بلسان فصيح وقلب جريح: يا إبراهيم أي شيء أردت بنا حتى سفكت دمنا، يا إبراهيم تأدب فربما باسطك ربك بمثل ما باسطته، ففي تلك الليلة رأى إبراهيم ربه في المنام يقول له: اذبح ولدك كأنه يقال له إبراهيم نحن أريناك أحياء الموتى فأرنا أنت إماتة الأحياء.


فائدة: قال ابن العماد في الذريعة لم يتعرض المفسرون لوجه الحكمة في كونها أربعة، وظهر لي والله اعلم أن العناصر لما كانت أربعة ناسب الحصر في الأربعة، ويؤيد ذلك ما قاله أن الله أوحى إليه أن يأخذ بطة خضراء وغراباً أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمراً، فإن الأخضر بمثابة الصفراء أو الأسود بمنزلة السود والأبيض كالبلغم والأحمر الدم والله أعلم.


والحكمة في أمره بالأخذ من الطير دون غيره من الحيوانات: أن الطير أقرب إلى الإنسان، وأجمع لخواص الحيوان.


قال بعض العلماء: وإنما أخذ هذه الطيور الأربعة دون غيرها من الطيور لنكتة لطيفة وهي: أن أعداء الآدمي أربعة: الدنيا والهوى والنفس والشيطان كما أشار إليه بعضهم بقوله:
إني بليت بأربع ما سلطوا ... إلا لعظم بليتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... كيف السبيل وكلهم أعدائي


فكأنه أشار بأخذه لهذه الطيور ووضعها على الجبال أن ينفي عنه ما أتصف كل واحد منها من هذه الأعداء الأربعة، فأشار بالطاووس إلى نفي نية الدنيا لأنه أكثر الطيور زينة، وأشار الغراب إلى نفي الحرص لأنه أكثر الطيور روضاً، وأشار بالديك إلى نفي الشهوة لأنه أكثر الطيور شهوة، وأشار بالنسر إلى نفي العجب لأنه أكثر الطيور عجباً، فكأنه تعالى بقوله: خذ هذه الأربعة واجعل كل منها على جبل، فالحرص على جبل الترك، والزينة على جبل الزهد، والعجب على جبل التواضع، والشهوة على جبل الإخلاص.


فائدة في أحكام هذه الطيور: أما الطاووس فهو طائر معروف في طبعه العفة وحب الزهو والخيلاء والإعجاب بريشة، يلقي ريشة في الخريف كما يلقي الشجر ورقة، فإذا بدأ طلوع الأوراق من الشجر طلع ريشة، ومع حسنة يتشأم به ونكره الناس إقامته في البيت.


وسببه: أنه لما كان سبباً لدخول إبليس الجنة وخروج آدم منها، وسبباً لخلو تلك الدار من آدم مدة دوام الدنيا كرهت أقامته في الدور، وكان غير مبارك فيها، ويحرم أكله لخبث لحمه، ويصح بيعه للتفرج على لونه.


وأما الديك فكنيته أبو اليقظان ويسمى الأنيس والموأنس، وقد ذكر العلماء أنه يجوز الاعتماد على الديك المجرب في أوقات الصلوات، وكانت الصحابة يسافرون معهم بالديك تعرفهم أوقات الصلاة.


ويحل أكله ويكره سبه كما روى أحمد وأبو داود وابن ماجة عن زيد بن خالد الجهني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة»

قال الحليمي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه يوقظ للصلاة» على أن كل ما استفيد منه خير لا ينبغي أن يسب، بل حقه أن يكرم ويشكر ويتلقى بالإحسان.

ويروى في حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الديك الأبيض حبيبي وحبيب حبيبي جبريل - عليه السلام - يحرس بيته وستة عشر بيتاً أبيض» .

وأما الغراب فهو من الفواسق الخمس يستحب قتله في الحل والحرم، ويحرم أكل الغراب الأبقع والغراب الأسود الكبير الجبلي، وأما غراب الزرع فإن أكله حلال ويسمى غراب الزيتون لأنه يأكله.


وأما النسر فهو عريف الطيور يقول: في صياحه ابن آدم عش ما شئت فإن الموت ملأ قلبك كذا قاله الحسن بن على.


وفي هذا مناسبة لما خص به النسر من العمر الطويل فقد قيل: يعيش ثمانين سنة وهو سيد الطيور لحديث ورد في ذلك ذكره الدميري في النسر وسنذكره في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى ويحرم أكله لاستنجاسه بأكله الجيف.
وأما الحمام فإنه يصدق على الذكر والأنثى من الفواخت والقمارى والقطا والوراشين واليمام والقلاب والمنسوب وأشباه ذلك، ويحل أكله بجميع أنواعه لأنه من الطيبات، وتربية الحمام لأجل البيض والإفراخ والأنس وحمل الكتب جائز بلا كراهة، وأما اللعب بها والتطير والمسابقة فقيل: يجوز لأنه يحتاج في الحرب لنقل الأحبار، والأصح كراهته فقد روي عن سفيان الثوري أنه قال: كان اللعب بالحمام من عمل قوم لوط.

وقال النخعي: من لعب بالحمام الطيارة لم يمت حتى يذوق ألم الفقر.


وروى ابن وهب أن حمام مكة أظلت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة فدعا لها بالبركة.

ومما يدل على كراهة اللعب بالحمام الطيارة ما في سنن أبي داود وابن ماجة والطبراني وابن حبان بإسناد جيد عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يتبع حمامة فقال: «شيطان يتبع شيطانة»
.
وهو محمول على إدمان صاحب الحمام على طيرانه والاشتغال به، والارتقاء بسببه إلى السطوح التي يشرف منها على بيوت الجيران وحرمتهم لأجله، وسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحمام شيطاناً لأنه لا يكاد يخلو من عصيان العاصي يقال له: شيطان قال تعالى ?شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ? [الأنعام: 112] وأطلق على الحمامة شيطان مجاورة، ولا ترد الشهادة بمجرد اللعب عندنا بها، خلافاً لأبي حنيفة ومالك فإن انضم إليه قماراً ونحوه ردت الشهادة.


واستشكل العلماء سؤال السيد إبراهيم إحياء الموتى ليزداد يقينه وإيمانه يقول سيدنا علي: لو كشف الغطاء ما ازدادت يقيناً أي: لو كشف لي الغطاء عن الأمور المغيبة، من الحشر والنشر والحساب وكيفية إحياء الموتى ونحوها بأن شدتها واقعة ما ازددت بسبب وقوعها يقيناً بها.

ووجه الإشكال أن قول سيدنا علي يقتضي أنه لا يزداد يقينه عند رؤية إحياء الموتى ولا عند جميع الأمور المغيبة، والسيد إبراهيم طلب ذلك لأجل يقينه وإيمانه فيلزم أن يكون مقام سيدنا علي أعلى من مقام السيد إبراهيم مع أن مقام إبراهيم أعلى بالإجماع للقطع بأنه لا يصل ولي إلى درجة الأنبياء، وقد جمع العلماء بين القولين بما لا نطول بذكره.


«وإبراهيم» سرياني معناه بالعربية «أب راحم» ، وقيل: «رحيم» ذكره الله تعالى في القرآن في إحدى وسبعين موضعاً، وفيه سبع لغات أشهرها إبراهيم، ويقال: «إبراهام» وبها قرئ في السبعة، وكان مولده -صلوات الله وسلامه عليه- ببابل من أرض السواد بناحية يقال لها: «كوش» كما صححه ابن الملقن في زمان النمروذ بن كنعان .


وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف مائة سنة ومائتان وثلاث وستون سنة، وبينه وبين آدم ثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وسبع وثلاثون سنة، والنمروذ عليه اللعنة كان جباراً عنيداً دعا الناس إلى عبادته وهو أحد الملوك الأربعة الذين ملكوا الأرض كلها ورد في الحديث: «ملك الأرض أربعة: مؤمنان وكافران أما المؤمنان فسليمان بن داود والإسكندر ذو القرنين عليهما السلام، وأما الكافران فنمرود عليه اللعنة وبخت نصر» .

وكان عند النمروذ كهان ومنجمين فلما أراد الله إيجاد السيد إبراهيم قالوا: إنا نجد في علمنا أنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير أهل الأرض، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يده، فأمر يذبح كل مولود يولد في تلك الناحية في تلك السنة، فلم يولد فيها غلام إلا ذبحه .

وأما أم إبراهيم فإنه لما حملت به لم يعلموا بحبلها، فإنها كانت جارية حديثة السن تعلم الحبل، ولم يستبن في بطنها شيء، فلما حملت به أمه قالت الكهان للنمرود: إن المولود الذي أخبرناك قد حملت به أمه هذه الليلة، فلما عظم بطنها خشي آزر أن يعلموا بها فيذبحوها وولدها، فانطلق بها إلى أرض بين البصرة والكوفة فأنزلها في سرب من الأرض، وجعل عندها ما يصلحها وجعل يكتم ذلك من أصحابه، فولدت إبراهيم فيه وشب فكان ابن سنة كابن ثلاثين سنة، وكانت أمه كلما دخلت عليه وجدته يمص أصابعه فقالت ذات يوم نظرت إليه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع لبناً ومن إصبع عسلاً ومن إصبع زبداً ومن إصبع سمناً.


لطيفة وقعت لشخص في الصغر نظير ما وقع للسيد إبراهيم: نقل الشيخ كمال الدين الدميري عن عبيد بن واقد الليثي البصري قال: كنت أريد الحج فوقفت على رجل بين يديه غلام أحسن الغلمان وأكثرهم حركة فقلت: من هذا؟ قال لي ابني وسأحدثك عنه، خرجت مرة حاجاً ومعي أم هذا الغلام وهي حامل به، فلما كنا في بعض المنازل ضربها الطلق فولدت هذا وماتت، وحضر الرحيل فأخذت الصبي فلففته في خرقة وجعلته في غار وبنيت عليه أحجاراً، وارتحلت وأنا أرى أنه يموت من ساعته، فقضيت الحج فلما نزلنا ذلك بادر بعض رفقتي إلى الغار فنقض الأحجار فإذا بالصبي
ملتقم إبهامه فنظرنا فإذا اللبن يخرج منها، فاحتملته معي فهو هذا الذي ترى.


واختلف في إقامة إبراهيم في الغار وقيل: سنة، وقيل: خمسة عشر شهراً، وقيل: سبعة أشهر فلما شب إبراهيم في السرب، وتكلم قال لأمه من ربي؟ قالت: أنا، فقال: فمن ربك؟ قالت: أبوك، قال: فمن رب أبي؟ فقالت: النمروذ، قال: فمن رب النمروذ؟ قالت: اسكت فسكت، ثم رجعت إلى أبيه فقالت: المولود الذي يغير دين أهل الأرض هو ولدك وأخبرته بما قال، فأتاه أبوه فقال له إبراهيم: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: فمن ربك؟ قال: النمروذ، قال: فمن رب النمروذ؟ فلطمه لطمةً وقال: اسكت فسكت.

وهذا هو الرشد الذي أشار إليه بقوله ?وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ? [الأنبياء: 51] أي: هديناه وأصلحناه من قبل موسى وعيسى وقيل: معنى قبل أي: من قبل بلوغه.

ولما كان في السرب لم ير شيئاً مما على الأرض من الحيوانات أو غيرها ولا السماء وما فيها من الشمس والقمر والنجوم فقال لأبويه: أخرجاني فأخرجاه آخر النهار حين غابت الشمس، فنظر إلى الإبل والبقر والغنم والخيل فسأل عن أسمائها فسماها له، قال هذا الجنس يقال له: غنم، وهذا يقال له: بقر، وهذا يقال له: إبل، فقال: ما لهذه لابد أن يكون لها من خالق إله خالق ورازق.

وقيل: إنه قال لأمة: هذه الخلائق هذا طويل وهذا قصير، وهذا قوي وهذا ضعيف، وهذا غني وهذا فقير، وهذا صحيح وهذا مريض، من صنع هذا كله؟ فقالت له: النمروذ، قال لها: ومن خلق النمروذ؟ فلطمته وقالت: اسكت.
ثم رق قلبها له وقالت: ألك حجة على أنه ليس برب؟ قال: نعم، قالت: وما هي؟ قال: له زيادة ونقصان، وتحريك وإسكان، وهل يقوم ويقعد، ويأكل ويشرب، ويستيقظ وينام؟ فقالت: نعم، قال: هذا صفات الأجسام، المفتقر إلى الشهوة والطعام، وعزل سلطنته قريب، وورآه من الموت يوم عصيب، يا أمي من تؤلمه بقة وتقتله شرقة وتوجعه إبره وتجعله الحوادث عبرة، ويجوع ويظمأ، ويسمن ويضنأ، ويعمل فيه البرد والحر، وليس بيده نفع ولا ضر، لا يكون إلهاً كأنك بملكه قد تناهى، قالت: فمن إله السماوات والأرض، قال: الذي لا يغلب ولا يقهر، ولا ينام ولا يسهر، ولا عرض ولا جوهر، يعلم ما يسر من القول ما يجهر، خالق الليل الدامس، ومخرج الثمرة من اليابس، قالت له: فأين هذا الرب؟ قال: لا يوصف بأين ثم نظر وتفكر في خلق

السماوات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني و أسقاني ربي، مالي إله غيره، ثم نظر إلى السماء فإذا المشترى قد طلع، وقيل: الزهرة، وكانت الليلة في النصف الثاني من الشهر فرأى الكوكب قبل القمر فقال: هذا ربي فلما أفل أي: غاب قال: لا أحب الآفلين، ثم طلع القمر قال هذا ربي كما قال تعالى ?فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ? [الأنعام: 77] ثم طلعت الشمس فلما رآها قال هذا ربي كما قال: ?فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ? [الأنعام: 78، 79] .

قال القاضي عياض: استدلال إبراهيم بالكواكب والقمر والشمس كان وهو ابن خمسة عشر شهراً واسم أبيه تارح، ولقبه آزر كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ? [الأنعام: 74] ومعناه الشيخ الكبير، وقيل: معناه قبيح الفعل، وقيل: سمي آزر لشدة كفره، وقيل: آزر اسم لصنم الذي كان يعبده فلقب به لملازمته لعبادته، وقيل: أطلق عليه بحذف مضاف أي: لأبيه عابد آزر، وكان نجاراً يصنع الأصنام، فلما بلغ إبراهيم من العمر سبع سنين كان أبوه يعطيه الأصنام ليبيعها، فيذهب بها إبراهيم فينادي عليها من يشتري شيئاً يضره ولا ينفعه فلا يشتري أحداً منه شيئاً، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى آزر فيضرب رأسها فيه ويقل: اشربي ثلاث مرات استهزاء منه بها وبقومه وما هم عليه من الضلال والجهالة، حتى فشي أمره بين الناس فاستهزأ به قومه وأهل بلدته.

وقال بعضهم: كان آزر ينحت الأصنام لفرط حبه لها فإذا كثرت عليه يبيعها وكان يعطيها لأولاده ويبيعوها، وكان يعطي إبراهيم الصنم ليبيعه فيربط إبراهيم في رقبته حبلاً ويبله في الماء ويسحبه على التراب ويرميه تحت أرجل الكلاب، ويلطخها بالعذرة ويقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه فقال له: أبوه ويحك لم لا يشترون منك؟ فقال: سوق آلهتكم كاسد، فقال له أبوه: فامدحه حتى يشترون منك لنأكل من ثمنه الخبز قال إبراهيم: كيف أمدحه إن قلت: سميع كذبت وإن قلت: بصير كذبت ?يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً? [مريم: 42] ، قال آزر: ?أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ? [مريم: 46] قال: نعم، قال آزر: ?وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً? أي: حينا من الدهر حتى لا يجر عليك مني ما لا تريد فقال

إبراهيم: ?سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي? [مريم: 47] معناه إنك مني سالم لا أوذيك لو آذيتني سألت الله تعالى لا يعاقبك بأذيتي، وإنما قال ?وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً? لأنه أعاب الصنم عنده بثلاثة أشياء قال: لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عن عبده فلا تصلح له الربوبية، إنما الربونية لرب يأتي إليه في ليلة ظلماء فيقضي حاجته، ويراه في ظلمة الليل ويسمع قوله ويعلم، ثم قال: وأما ما طلبت من الهجر بقولك اهجرني فقد هجرتك ولن تراني قط عندك، هذا فراق ليس بعده تلاق، ووداع ليس بعده اجتماع.

وقيل: إن إبراهيم أقام عند أبيه سبع عشرة سنة كاشف قومه وقال لهم: ?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ? [الأنبياء: 52] يعني ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها قالوا: ?وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ? [الأنبياء: 53] يعني إننا نقتدي في عبادتها بأباءنا ونقلدهم قال: ?لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ? [الأنبياء: 54] .

ثم اظهر دينه -صلوات الله عليه وسلامه- قال: ?أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ? [الشعراء: 75، 76، 77] فقالوا: من تعبد أنت يا إبراهيم؟ قال: رب العالمين، فقالوا: يعني النمروذ قال لا ?الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ? [الشعراء: 78 - 82] .

فلما ظهر أمره للناس حتى بلغ النمروذ الجبار دعاه: يا إبراهيم إلهك الذي بعثك وتدعوا الناس إلى عبادته وتذكر من قدرته، وتعظمها له على غيره صفة لنا فقال إبراهيم: ?رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ?، قال النمروذ: ?أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ? قال له إبراهيم: كيف تحي وتميت؟ قال: أخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي فأقتل أحدهما فأكون قد أمته ثم أعفو عن الآخر فأكون قد أحييته فقال له إبراهيم عند ذلك إلزاماً على وجه يعجز الإتيان بنظيره ?فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ? فبهت عند ذلك النمروذ ولم يرد جواباً ولزمته الحجة كما قال تعالى ?فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ? [البقرة: 285] .

ثم إن إبراهيم أراد أن يري قومه ضعف الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله، وعجزها إلزاماً للحجة، فجعل ينظر وقتاً يخل فيه مكان الأصنام إلى أن حضرهم عيد، فإنهم كان لهم في كل سنة عيد يخرجون إليه يجتمعون فيه، وكانوا إذا رجعوا من

عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان العيد قال آزر لإبراهيم: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج إبراهيم معهم، فلما كان في أثناء الطريق ألقى إبراهيم نفسه إلى الأرض، وقال إني سقيم أي: ضعيف اشتكي برجلي، فتوهموا صدقه وهو صريع على الأرض، فلما مضوا نادى واحداً منهم في آخرهم ?وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ? [الأنبياء: 57] فسمعه ذلك ثم رجع إبراهيم من الطريق إلى بيوت الأصنام والآلهة، فرآهم في مكان عظيم، واختلف في عدد تلك الأصنام فقيل: كانت اثنين أو ثلاثة وسبعين صنماً وقيل: كانت ثلاثمائة وستين صنماً، وكان بعض هذه الأصنام بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من نحاس وبعضها من حديد وبعضها من حجارة، وكان فيهم صنم عظيم من الذهب على رأسه تاج مرصع بالجوهر وعيناه ياقوتتان، والأصنام عن يمينه وشماله نصفان، فأصنام الفضة أقرب إليه من الحديد، والحديد أقرب إليه من الحجارة، وهم قد وضعوا بين يدي الأصنام طعاماً وقالوا إذا رجعنا وقد باركت الآلهة في طعامنا أكلنا، وهذه كانت عادتهم وكانت الشياطين تأكله فيزداد القوم بذلك طغياناً ويقولون: ربنا أكل طعامنا، وقيل: أنفا منا، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلي ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء: ألا تأكلون، فلما لم يجيبوه قال لهم ?مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ? [الصافات: 92، 93] أراد باليمين القسم التي كان أقسم بها في قوله: ?وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم? أي: مال عليهم ضرباً لأجل اليمين التي أقسم بها، وجعل
يكسرهن بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه، ثم خرج كما قاله تعالى ?فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ? [الأنبياء: 58] ضمير إليه راجع إلى كبيرهم، إلا الصنم الكبير فإنه تركه لعلهم يرجعون إليه فيظنون أنه فعل ذلك، وقيل: ضمير إليه راجع إلى إبراهيم أي: كسرهم السيد إبراهيم لعلهم يرجعون إليه أي: إلى دينه، فلما جاء القوم من عيدهم جاءوا إلى بيت آلهتهم فرأوها على تلك الحالة قالوا: ?قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ? [الأنبياء: 59، 60] وهو الذي صنع هذا، فبلغ النمروذ ذلك وأشراف قومه ?فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ? [الأنبياء: 61] عليه أنه هو فعل ذلك وكرهوا أن يأخذوه بغير ذنبه.

وقيل: معناه لعلهم يشهدون ما صنع به ونعاقبه، فلما أحضروه قالوا: ?قَالُوا أَأَنْتَ

فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا? [الأنبياء: 62، 63] فإنه غضب من أن تعبدوا معه هذه الأصنام الصغار، وهو أكبر منها فكسرهم ?فَاسْأَلُوَهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ? [الأنبياء: 63] .

قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات في قوله إنه سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم، وقوله: عن سارة زوجته هي أختي» .

قال العلماء: ما قاله السيد إبراهيم في هذه الثلاث يشبه الكذب وليس كذباً في الحقيقة، لما قدمنا من أن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر عمداً وسهواً قبل النبوة وبعدها، وقوله صدق عند البحث عنه والتفتيش، وإطلاق الكذب باعتبار فهم السامعين لا باعتبار الحقيقة، أما قوله: إني سقيم فمعناه أنه ساقم، لأن الإنسان عرضة للأسقام وسقيم لما قدر على من الموت، أو كانت تأخذه الحمى في ذلك الوقت، أو سقيم القلب أي: مغتم بسبب ضلالتهم، وأما قوله: بل فعله كبيرهم فمعناه أنه سبب في الفعل لا أنه فعل حقيقة فالإسناد إليه باعتبار السببية، أو الإسناد إلى الكبير مشروط بقوله: ?إِن كَانُوا يَنطِقُونَ? أو الوقف عند قوله: ?بَلْ فَعَلَهُ? أي: فعله فاعله وكبيرهم هذا ابتداء كلام، وأما قوله في حق زوجته سارة هي أختي فمعناه: أنها أخته في الإسلام.

قال ابن العماد: ويجوز أن يكون الله أذن له لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم كما أذن يوسف - عليه السلام - حين آمر منادياً فقال لإخوته: أيتها العير إنكم لسارقون، على أن العلماء اجمعوا على أن الكذب جائز وواجب في صور عند الحاجة كما سنذكر ذلك في باب علامات المنافق.

فلما قال لهم إبراهيم ذلك، ?فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ? [الأنبياء: 64] اختلفوا في معنى هذه الآية فقيل: معناها إنكم الظالمون لهذا الرجل في سؤالكم إياه وهذه ألهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرة فأسالوهم، وقيل: معناها إنكم أنتم الظالمون بعبادتكم الأوثان الصغار مع هذا الكبير، ?ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ? [الأنبياء: 65] متحيرين مكسورين منكوسين وعلموا إنها لا تنطق ولا تبطش فقالوا: ?لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ? [الأنبياء: 65] فلما اتجهت له الحجة
عليهم فقال لهم إبراهيم: ?أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? [الأنبياء: 66، 67] فلما ألزمهم الحجة وعجزوا عن الجواب قالوا: ?حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ? وسنذكر تحريقه بالنار في الكلام على السواك إن شاء الله تعالى.


فائدة: أفاد ابن الملقن أن إبراهيم كان يتكلم أولاً بلغة السريانية فبلغه يوماً أن النمروذ يريد قتله، فهرب منه فأرسل رسله في طلبه فقالوا: لا نعرفه، فقال: إذا رأيتم فتى يتكلم بالسريانية فردوه، وكان هناك نهر فعبر إبراهيم النهر فأدركه رسل النمروذ، واستنطقوه فحول الله لسانه عبرانياً وهو لا يعرف فكلمهم باللغة العبرانية، وكان ذلك التحويل حين عبر النهر فسميت تلك اللغة بذلك.
فائدة أخرى: إبراهيم -صلوات الله والسلام عليه- من أولي العزم من الرسل الذي أشار الله لهم بقوله العزيز: ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ? [الأحقاف: 35] واختلف في عددهم على أقوال أصححها: أنهم خمسة قاله شيخنا الجلال السيوطي في الإتقان: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وقد نظمتهم في بيت فقلت:
أولي العزم إبراهيم موسى محمد ... وعيسى ونوح ذا الصواب المحمود
وسموا بأولي العزم لثباتهم وصبرهم على الشدائد أكثر من غيرهم.
قال العلماء: أفضل الأنبياء بعد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد اتفاقهم على أن نبينا أفضل المخلوقات فقيل: آدم، وقيل: نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى.

لكن قال شيخنا العلامة الشيخ جلال الدين السيوطي في شرح نظمه لجمع ألوامع أفضل الخلق بعده - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم الخليل نقل بعضهم الإجماع على ذلك، وبعد الخليل موسى وعيسى ولم أقف على نقل أيهم أفضل، والذي يقدح تفضيل موسى، ثم عيسى ثم نوح وهؤلاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أولوا العزم المذكورون في سورة الأحقاف أي: أصحاب الجد والاجتهاد ثم بعدهم سائر الرسل فهم أفضل من الأنبياء.
وذكر الشيخ عز الدين ابن جماعة أن ابن عبد السلام في كتابة شجرة المعارف فيما نقله عنه البرهان الفزاري أن المرسلين أفضل من النبيين، ثم الأنبياء فهم أفضل من الملائكة عند الجمهور.

وذهب المعتزلة وبعض أصحابنا كالقاضي والأستاذ أبي إسحاق وأبي عبد الله الحكم والإمام في المعالم وليس المراد فيه من الفائدة إلا معرفة الشيء على ما هو عليه.

وقال السبكي: لو أقام الإنسان عمره لم يخطر بباله مسألة المتفضل بين الملائكة والأنبياء لم يسأله الله عن ذلك، وسنذكر الأدلة من الطرفين في محله أن شاء الله تعالى.

وقد قدمنا أن إبراهيم - عليه السلام - عاش مائة سنة على خلاف في ذلك.
فائدة أخرى: أفاد البغوي في تفسير قوله تعالى ?يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ... ? [آل عمران: 65] الآية، أنه كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة صلى الله عليهم وسلم.

ويشكل على اتفاق العلماء على أن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل المخلوقات ما ورد في الصحيح: أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا خير البرية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك إبراهيم - عليه السلام -» .

فإن هذا الحديث يدل على أن نبينا إبراهيم أفضل من نبينا ومن سائر الأنبياء.
وأجاب النووي عنه بوجهين الأول: أنه قال تواضعاً وأدباً، الثاني: أنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم فلما علم أخبر به.اهـ
ــــــــ
قال الخلال عقب هذا الحديث: قد روي غير هذا أنه قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض» وقال الله عز وجل: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? [آل عمران: 110] وذهب فيه إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد التواضع به.
ــــــــ
قلت: ومراد الخلال أن يشير بذكر الآية أنه إذا كانت الأمة خير أمة أخرجت فنبي الأمة خير الأمم التي خلقها الله.

خاتمة: لما أراد الله تعالى قبض روح إبراهيم أرسل إليه ملك الموت في صورة رجل هرم، وكان إبراهيم لا يأكل إلا مع الضيف، فبينما هو جالس يأكل مع الضيف، فإذا هو بشيخ يمشي في الخلوة فبعث إليه حماراً فركبه حتى وصل، فأجلسه على الطعام وقال له: كل، والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، فجعل الشيخ يريد يأخذ اللقمة حتى يجعلها في فيه فيدخلها في عينه ومرة في أذنه ثم يدخلها، وكان إبراهيم سأل أن لا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت فقال إبراهيم حين رأى حاله: ما بالك يا شيخ تصنع هكذا؟ قال الشيخ: من الكبر، فقال له: إبراهيم ابن كم أنت؟ فأخبره،
فوجد إبراهيم عمر الشيخ قد يزيد على عمره بسنتين فقال: يا بني إنما بيني وبينك سنتان فإذا بلغت عمرك صرت مثلك، فحينئذ قال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل ذلك فقام الشيخ فقبض روحه قدسها الله تعالى في الحال.

* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية



_________________
يارب بالمصطفى بلـــغ مقاصدنا واغفر لنا ما مضى ياواســع الكرم
واغفر إلهى لكل المسلمين بما يتلون فى المسجد الأقصى وفي الحرم
بجاه من بيته فى طيبة حرم واسمـــه قسم من أعظم القســم
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا بجــــاه سيــــدنـا ومـولانــا رسول الله ﷺ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ مشاركة واحده ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 2 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط