موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ مشاركة واحده ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: المكي والمدني .
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء سبتمبر 30, 2014 8:17 pm 
غير متصل

اشترك في: السبت أكتوبر 08, 2011 9:22 pm
مشاركات: 2955
المكي والمدني

هذا الموضوع يدرس جوانب الظروف العامة التي أحاطت بنزول القرآن، وليس قاصرا على ما يدل عليه ظاهر العبارة من تقسيم القرآن إلى مكي نزل بمكة أو مدني نزل بالمدينة، ومن هنا فإن هذا الموضوع يحتل أهمية كبيرة في دراسة بلاغة القرآن، لما يكشفه من توفر عميق لأصل البلاغة ومراعاة مقتضى الحال، إلى جانب توفر عنصر آخر من سمات إعجاز القرآن هو انعتاقه من قيود الزمان والمكان وانطلاقه من إسار البيئة الضيقة ليحلق في علياء الموضوعية التي يخاطب بها الإنسان في كل زمان، وفي أي مكان.


ضابط المكي والمدني:

تعددت طرائق علماء هذا الفن في كيفية التمييز بين القرآن المكي والقرآن المدني، على ثلاثة نماذج نوضحها فيما يلي:

المذهب الأول:

أن القرآن المكي هو ما نزل قبل الهجرة، والقرآن المدني هو ما نزل بعد الهجرة.
وهذا هو أشهر الاصطلاحات في المكي والمدني ، ويمتاز بشمول تقسيمه جميع القرآن لا يخرج عنه شيء، حتى كان عموم قولهم في المدني:
«ما نزل بعد الهجرة» يشمل ما نزل بعد الهجرة في مكة نفسها في عام الفتح أو عام حجة الوداع، مثل آية ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ....)
كما يشمل ما نزل بعد الهجرة خارج المدينة في سفر من الأسفار أو غزوة من الغزوات.

روي عن يحيى بن سلام قال: «ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فهو من المكي، وما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني».
وهذا أثر هام ومفيد، يؤخذ منه أن ما نزل في سفر الهجرة مكي اصطلاحا.


المذهب الثاني:

أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة.
وهذا المذهب مكاني، قد تقيد بالتسمية المكانية، والتزم ظاهر التسمية، وإن كان شرّاحه أدخلوا في مكة ضواحيها، فاعتبروا من القرآن المكي ما نزل بمنى وعرفات والحديبية، ومن القرآن المدني ما نزل بأحد وسلع.

لذلك كان في هذا الضابط ثلمة هي وجود قسم ثالث هو واسطة بين القسمين، وهو ما نزل من القرآن في الأسفار، فإنه لا يعد مكيا ولا مدنيا ...

المذهب الثالث:

أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة.
وفسّر بهذا قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: «كل شيء نزل فيه: «يا أيها الناس» فهو بمكة، وكل شيء نزل فيه «يا أيها الذين آمنوا» «فهو بالمدينة».


غير أنا نرى أن هذا الأثر ليس صالحا للاستدلال لهذا المذهب لأن سيدنا ابن مسعود لم يقصد وضع ضابط وتعريف للمكي والمدني، إنما أراد بيان علامة من علامات القرآن المكي والمدني، أو تفسيرا لبيان المراد بهذا الخطاب، وهو أمر أغلبي ليس مضطردا دائما كما سيتضح.
وهذا المذهب في تفسير المكي والمدني أضيق من المذهب السابق، لأنه قد تقيد بالأشخاص المعينين في أمكنة معينة، وتقيد بموضوع معين هو ما كان فيه خطاب من آيات القرآن، فبقي القسم الأكبر من القرآن خارج هذا المنهج في تعريف المكي والمدني.

ولهذا الذي ذكرناه في نقد المذهبين الثاني والثالث، كان المذهب الأول أكثر قبولا لدى العلماء، حتى كان هو الأشهر كما ذكرنا.

ويندرج في ضمن المكي والمدني بناء على المذهب الأشهر المعتمد أنواع كثيرة من الدراسات المتصلة بالظروف المحيطة بنزول القرآن كالسفري والحضري، والليلي والنهاري، وما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وغير ذلك من دراسات تدل على الاعتناء العجيب الذي أحيط به هذا القرآن، وتوفير وسائل دراسته من جميع الجهات.

وبناء على هذا الضابط المختار كان عدد السور المدنية تسعا وعشرين سورة، وسائر السور بعد ذلك مكية، وقد يوجد في السورة المدنية ما هو مكي، كما قد يوجد في السورة المكية ما هو مدني، والنظر في ذلك لمطلع السورة إن نزل بمكة عدّت مكية، وإن نزل بالمدينة عدّت مدنية.


أهمية علم المكي والمدني:

مما لا يخفى على الباحث أهمية معرفة الأحوال التي احتفت بنزول القرآن في فهمه وتفسيره، حتى صرحوا بأنه لا يحل لمن ابتعد عن علمها أن يتكلم في تفسير القرآن الكريم،
ونوضح أوجه أهمية هذا العلم فيما يلي:

1 - إن علم المكي والمدني يعين الدارس على معرفة تاريخ التشريع والوقف على سنّة الله الحكيمة في تشريعه، بتقديم الأصول على الفروع، وترسيخ الأسس الفكرية والنفسية ثم بناء الأحكام والأوامر والنواهي عليها، مما كان له الأثر الكبير في تلقي الدعوة الإسلامية بالقبول، ومن ثم الإذعان لأحكامها.


2 - إنه يعرف بالمكي والمدني الناسخ والمنسوخ، الذي كان من حكمة تربية القرآن في التشريع.

كيف نعرف المكي والمدني:

ذكروا لمعرفة المكي والمدني طريقتين لا ثالث لهما، وهما: السماع والقياس.

أما السماع:
فالمراد به النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة الذين عاينوا التنزيل.

وقد كانت عناية الصحابة والتابعين بهذه الأمور عناية بالغة حتى نجد العالم يعتز بعلمه بهذا الموضوع.

أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت ... » .

وقال أيوب السختياني سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن؟ فقال:
نزلت في سفح ذلك الجبل، وأشار إلى سلع، أخرجه أبو نعيم.


وأما القياس:

فهو ضوابط عرفت بالاستقراء، واستدل بها العلماء على المكي والمدني، وكان ذلك موضع عناية المتقدمين.

1 - أول هذه الضوابط ما سبق عن عبد الله بن مسعود: «كل شيء فيه يا أَيُّهَا النَّاسُ فهو بمكة، وكل شيء نزل فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو بالمدينة».
وهذه العلامة ليست عامة عموما شاملا، بل استثني من ذلك مواضع قليلة، منها موضعان في سورة البقرة هما: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ( ويا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً ) وسورة البقرة مدنية كلها اتفاقا.

وأربع مواضع في سورة النساء هي: الآية الأولى من السورة:( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ.) ( وإِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ.) (
ويا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ.) ( ويا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ ).

2 - كل سورة فيها الاستفتاح بالحروف المقطعة فهي مكية سوى الزهراوين: البقرة وآل عمران.

3 - كل سورة فيها كُلا فهي مكية.

4 - كل سورة فيها ذكر سيدنا آدم عليه السلام ـ وإبليس عليه لعنة الله فهي مكية سوى السورة الطولى- أي البقرة-.

5 - كل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية.

6 - كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية سوى العنكبوت.

والحكمة في ذلك ترجع إلى المقاصد الموضوعية التي نزل بها القرآن، فالخطاب في مكة كان لأمور اعتقادية تشمل كل الناس، وهي مناط إنسانيتهم، فناسب خطابهم ب ( يا أَيُّهَا النَّاسُ ) كما أن محاورة أهل العناد تناسب حرف الردع (كُلا )، وكذلك التنويه بإعجاز القرآن لإفحام المنكرين، والاستفتاح بحروف الهجاء في أوائل السور، وقد وجد من ذلك قليل في القرآن المدني تبعا لاقتضاء الموضوعات المدنية التي كانت فترة بناء وكانت فترة مكة فترة تأسيس.

القرآن المكي من حيث الموضوع:

فمن سمات القرآن المكي الاعتناء بالموضوعات التالية الأساسية:

1 - تقرير أصول العقائد الإيمانية، بدعوة الخلق إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، والإيمان باليوم الآخر وما يتبع ذلك من الجزاء والجنة والنار، وتقرير رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والرسل من قبله، والإيمان بالملائكة عليهم السلام.

تأمل مثلا سورة القصص المكية ودعوتها لهذه الأصول، وانظر هذه الآيات التي تدعو إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده:
( وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).

وتأمل هذه الآيات الخاتمة من سورة سيدنا إبراهيم تعرض من مشاهد القيامة:
( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ. لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ. )

ويطمئن القلب إيمانا بالآخرة وهو يتفكر في مثل هذه الآيات من سورة ق:
( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ. وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ).

وهكذا الحجة البالغة في مثل هذه الآيات الخاتمة من سورة القيامة:
( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ).

2 - الحملة على الشرك والوثنية، والإلحاد والدهرية، وإقامة الحجج والبراهين الدامغة على بطلان عقائدهم الزائغة، مستعينا بضرب الأمثال وأنواع البيانات، حتى كشف لهم سوأة عقائدهم وفضحها حتى جعل أصنامهم دون الذباب، تأمل هذه الآيات من سورة الحج أيضا:
( يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ).

وتأمل قوله في سورة العنكبوت: ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ).


ولما كان التقليد منبعا خطيرا من منابع الضلال، واحتج المشركون بما وجدوا عليه آباءهم، عني القرآن بتوسيع آفاق العقل والفكر وأمر بالتفكر وحض على النظر والتعقل، وسفّه أحلامهم وأحلام آبائهم، حتى جعل التقليد الأعمى للآباء عارا وشنارا، يعتبر به المعتبر، فضلا عن تقليد الأعداء فيما يبتكرونه في الفكر من الأزياء.

قال تعالى: ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ).

وقال تعالى: ( بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ. وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ).

3 - الاستدلال بدلائل الأنفس والأكوان على عظمة الله تعالى وسلطانه، ووجوب طاعته والانقياد له، وتوحيده والإيمان بالقيامة والبعث بعد الموت.
حتى كانت في تلك الآيات دلائل إعجاز علمي، لما اشتملت عليه من حقائق الكون والإنسان والحياة، ونواميس خلقه تعالى وسنن تصريفه لأمور الأكوان.
انظر هذه الآيات من سورة لقمان وما فيها من سبق علمي:

( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ) إلى أن قال تعالى :
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ، قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

وتأمل هذه الآيات من سورة الأنعام:

( إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).


4 - اعتناء القرآن المكي بقصص الأنبياء مع أقوامهم، حتى كاد ذلك أن يكون علامة تميزه، إذ لم يوجد قصص الأنبياء في القرآن المدني إلا في سور قليلة، كقصة سيدنا موسى وقومه في سورة البقرة والمائدة وهما مدنيتان، وقصة سيدنا عيسى و سيدنا وموسى عليهما السلام في سورة آل عمران والصف وهما مدنيتان أيضا.


والحكمة في اعتناء القرآن المكي بقصص الأنبياء والأمم الغابرة ظاهرة جدا مما ذكرناه في حكم نزول القرآن منجما، وما كان لها من أثر عظيم في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ومواساتهم فيما كان يصيبهم، وإنذار أعدائهم، وإثارة العبرة والعظة بقصص من سبقهم.

انظر على سبيل المثال القصص في سور الأعراف، سيدنا يونس،و سيدنا هود وغيرها وغيرها ... تجد فيها أبلغ المواعظ وأنفع العبر لتقرير سننه تعالى في إهلاك أهل الكفر والطغيان وانتصار أهل الإيمان والإحسان.


تأمل قوله تعالى في آخر قصة سيدنا موسى مع فرعون في سورة غافر:
( فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ. وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ. وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى. قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ. إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ).


5 - إن القرآن المكي شرح أصول الأخلاق، وقواعد عامة في الاجتماع مما لا يختلف فيه حال ولا عقل، لكونها من البدهيات الظاهرة والمقوّمات الأساسية لإنسانية الإنسان، واطمئنانه بالإيمان، كالصدق، والبرّ، والصلة، وبرّ الوالدين، وإكرام الجار، وطهارة القلب واللسان، وغير ذلك. وقد شرح القرآن تلك القيم ببيانه المعجز شرحا غرسها في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق، والظلم، ووأد البنات، والقتل والزنا.

انظر هذه الآيات الأخلاقية والاجتماعية في سورة الإسراء:
( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً.
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً. وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا. وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً).


القرآن المدني من حيث الموضوع:
ومن سمات القرآن المدني الاعتناء بالموضوعات التالية:

1 - بيان جزئيات التشريع وتفاصيل الأحكام العملية، في العبادات كأحكام الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والمعاملات كالبيوع والأموال، والاجتماعيات كالنكاح والطلاق والرضاع، والعقوبات كالحدود والقصاص كما هو ملاحظ في سورة البقرة والنساء والمائدة والنور.

2 - دعوة أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إلى الإسلام، وإقامة الحجج عليهم، كما هو ملحوظ في سورة البقرة، وآل عمران، والمائدة وغيرها.


انظر مثلا قوله تعالى لليهود: ( ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،) وذلك بعد قوله:(
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).


3 - وصف المنافقين، وكشف فضائحهم والتحذير من أساليبهم، لأن النفاق أخطر ما تبتلى به دعوة، حتى أنزلت سورة خاصة تحمل اسم المنافقين، وغير ذلك من مواضع في القرآن تتعلق بهم.


4 - بيان الأحكام الخاصة بالعلاقات بين الأمة الإسلامية وغيرها.
وكان ذلك أول تنظيم وتقنين يحكم العلاقات بين الدول، كالأحكام المتعلقة بالحرب، والسلم والصلح، والمعاهدات، والغنائم والأسرى، كما في سور: البقرة والأنفال وبراءة والقتال والفتح والحشر، مما جعل القانون الدولي مدينا للقرآن في هذه الأحكام، ولا تزال الأصول القرآنية في هذا الباب نبراسا يعمل بها القانون الدولي في هذا العصر.


يتبع إن شاء الله ـ تعالى ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــ

علوم القرآن الكريم
نور الدين محمد عتر الحلبي



_________________
يارب بالــمــصـطــفى بــلـغ مـقـاصــدنا --- واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم

واغفر إلهى لكل المسلمين بما --- يتلون فى المسجد الأقصى وفى الحرم

بجاه من بيته فى طيبة حرم --- واسمه قسم من أعظم القسم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ مشاركة واحده ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 11 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط